أبناء رافد.. جيل الهجرة والفقر والفلسفة

محمد موسى  

على خلاف الصور الشائعة للمهاجرين الشرق أوسطيين في أوروبا التي تقدمها السينما التسجيلية، والتي تنحصر غالباً في تصوير عزلتهم وانسداد أُفق حياتهم والعلاقات المتوترة التي تربطهم بمحيطهم الأوروبي الواسع، يوفر الفيلم التسجيلي “أبناء رافد” للمخرجين التركيين الشابين: مؤمن باريز و راشد بلكايا، إطلالة مختلفة على حياة الجيل الثاني من المهاجرين الأتراك إلى ألمانيا، من الذي لم تتح له الفرص الكثيرة لتطوير ذاته في طفولته، وعندما وجد بعض الفرص في شبابه في أوروبا، تراه يتشبث بها على أمل أن تنتشله من مصاعب وعادية حياته.

المخرجين مؤمن باريز (يسار) الصورة و راشد بلكايا (يمين)

ينطلق الفيلم التسجيلي من دروس الفلسفة التي ينظمها مفكر وسياسي يساري تركي منفي معروف اسمه “رافد تيمور” لمجموعة من الطلاب الشباب الأتراك الآتين من خلفيات اجتماعية فقيرة وأحياناً مسحوقة، ويتحول بعدها إلى نافذة على التجارب النفسية والحياتية الصعبة لشخصياته، ومنهم السياسي الشيوعي نفسه.

يتميز الفيلم بالشهادات الحميمية لشخصياته والتي تكشف عن طفولات قاسية في البلد الأُمّ، وأثماناً باهضة دفعتها الشخصيات بسبب قرار الهجرة، الذي سيكون صعبا كثيراً على الشخصيات (الأطفال وقتها) الذين انتقلوا من بيئات ريفية قاسية بظروفها، إلى أوروبا، حيث تواجههم هناك تحديات جديدة لا تتوقف. في الآتي، الحوار الذي أجرته “الجزيرة الوثائقية” مع مؤمن باريز، أحد مخرجي الفيلم التسجيلي.

في البدء، دعني أسألك عن  تاريخ علاقتك بشخصيات الفيلم، متى تعرفت برافد تيمور وطلابه؟

كنت أعيش في لندن قبل انتقالي إلى برلين، حيث كنت أدرس الماجستير هناك، لكني سئمت كثيراً من المدينة وقررت تركها والتوجه إلى برلين للتحضير من هناك لدراستي، في برلين كنت أقضي ساعات طويلة في إحدى المكتبات العامة، وكنت أحياناً أتوجه إلى مطعم تركي قريب من المكتبة لتناول الطعام. هناك قابلت (أوكتاي)، والذي سيكون أحد شخصيات الفيلم، في البداية سألت إذا كان بإمكاني أن أشتغل معه في المطعم، لأني كنت أبحث عن عمل وقتها، بعد ذلك توطدت علاقتي به وصرنا نتقابل بعد أن ينهي وقت عمله، في أحد لقاءاتنا ذكر لي “أوكتاي” أنه يذهب دورياً إلى دروس ليلية أسبوعية في الفلسفة، مع مجموعة من الأتراك الشباب، ومدرسهم سياسي ومفكر تركي، ودعاني للحضور والاطلاع على ما يجري، ذهبت هناك وقابلت رافد تيمور، الذي سألني عما أفعله فأخبرته أني مخرج أفلام وأكتب أحياناً عن السينما، اهتمت المجموعة بذلك، وطلبوا مني أن أُقدم درساً عن السينما هناك ضمن المحاضرات المسائية، بعد أسبوعين من ذلك اللقاء، بدأت باعطاء محاضرات عن السينما، في حينها، وكجزء من المحاضرات، عرضت على المجموعة الفيلم القصير الذي صورته في براغ، وكنت أوضح ما يعينه الكادر السينمائي واللقطة الواسعة والمقربة. هكذا بدأت صداقتي مع المجموعة.

رافد تيمور

شهادات الفيلم جاءت حميمية كثيراً. نعرف أنه من الصعب على الرجال في كل مكان الحديث عن مشاعرهم الخاصة، والحال مع الرجل الشرقي يمكن أن يكون أكثر تعقيداً، كيف جعلتموهم يتحدثون بهذه الحميمية والصدق لكم؟

أعتقد أن هذه الشهادات هي الأكثر إثارة في الفيلم، لقد فتحت الشخصيات قلوبها لنا، وهذا أمر لا يحدث كثيراً، وكشفت عن ذكريات وأحداث صعبة من حياتها، أظن أن ما جعلها تتحدث بهذا الحميمية كما سميتها هو أننا نعرف بعضنا جيداً، وقضينا معهم وقتاً طويلاً  قبل التصوير وأثناءه. عندما توجهت إلى “رافد” وقلت له:” أن ما تفعلوه هو مثير كثيراً وأريد أن أنجز فيلماً عنه، كان رده الموافقة الفورية وبدون أن يسأل أيّ أسئلة عن طبيعة الفيلم الذي أنوي تحقيقه، قمت مع زميلي راشد بلكايا بأخذ كاميرا وصورنا أحد شباب المجموعة، والذي كنا نعتقد أنه لن يواجه أدنى صعوبة في الحديث عن مشاعره لنا، بخاصة أني كنت أراه بشكل يومي تقريباً، توجهنا وقتها إلى بيته في ظهيرة يوم أحد وبدأنا بطرح الأسئلة التي لم يعرف في البداية كيف يجيب عليها، ثم قمنا بعدها بالاتصال بالشخصيات الأخرى من أجل إجراء لقاءات منفردة معهم. هكذا بدأنا العمل بعفوية كبيرة، وبدون أن نحضر كثيراً، كنا نلتقي كأصدقاء لكننا كنا نصور ما نقوم به وقتها، لم نأخذ الأمور بجدية كبيرة، كنا نخبرهم عن رغبتنا بتصويرهم في الحديقة العامة، وكانوا يجيبون حسنا صورونا، أعتقد أن تلك العفوية كانت مهمة كثيراً للحصول على الأجواء المستريحة للفيلم.

من الفيلم

ربما يبدو التعاون المشترك في السينما التسجيلية غامضاً وغير مفهوم لكُثر، كيف وجدت العمل مع زميلك “راشد بلكايا” في إخراج للفيلم؟ هل قسمتم الواجبات بينكم مثلاً؟

كان العمل مع راشد سهلاً كثيراً، لأنه يعرف أيضاً مجموعة الشباب في الفيلم، هو كذلك قضى وقتاً طويلاً معهم، عندما كنا نقابل الشخصيات، كان رشيد يضع الميكرفون تحت الطأولة، ونبدأ بالحديث كأصدقاء،أحياناً كنا نقسم الأسئلة بيننا، هو يطرح بعض الأسئلة وننتظر الإجابات قبل أن أطرح أسئلتي الخاصة، لم يكن هناك عاملون غيرنا في الفيلم، كنت أصور ورشيد كان يسجل الصوت، كنا نتناقش بالطبع حول الشخصيات وإمكانيات التصوير معها، هل نخرج معها إلى الحديقة أو الشارع، أو نبقى في البيت، هذه التفاصيل كنا نفكر بها كثيراً، ونحاول أن نجد ما يناسب الشخصيات.

كيف تصف مجموعة الشباب في الفيلم، وأنت الذي قضيت وقتاً طويلاً معهم، هل الندوب التي يحملونها من حياتهم السابقة مازلت غائرة؟

لا استطيع أن اقول إني أراهم سعداء، لكن يمكن أن أدعي بأنهم على الطريق الصحيح لحياة سويّة، هؤلاء الشباب وبعد أن ثقفوا أنفسهم بأنفسهم، صاروا قادرين على طرح أسئلة جدليّة عن الحياة وعما مرَّ بحياتهم من صعوبات، وعلى رغم أنهم وجدوا أجوبة على بعض الأسئلة المهمة إلا أن هناك أسئلة اخرى بقيت بدون إجابات، لكنهم على الأقل قادرون اليوم على طرح أسئلة مهمة على أنفسهم وهذا شيء لا يقدر عليه الكثير منا.

من الفيلم

هناك مشاهد عديدة في الفيلم كانت تراقب من مسافة الشخصيات، هل هذه أسلوبية محببة لديك، هل تفضلها مثلاً على المقابلات المباشرة؟

عندما كنا نخطط لبناء الفيلم، كنا نريد أن نبرز الحياة اليومية للشخصيات. ونركز على حركتها ضمن المحيط الذي تعيش فيه، هذا النوع من السينما أحبه كثيراً وأتمنى أن أقدم الكثير منه في المستقبل. كما شغلني وقت التصوير إظهار مدينة برلين ضمن سيمفونية صورية، تعكس التعدد والتنوع الكبير للمدينة.

ذكرت أن تصوير الفيلم استغرق عامين، في بداية الفيلم شاهدنا رافدا وهو يتحرك بكرسي متحرك وعصا أحياناً، وفي النهاية كان يمشي في ذلك المشهد الطويل في الثلج. كيف حاله اليوم؟

عندما بدأنا تصوير الفيلم كانت صحته جيدة نسبيا، هو يعاني من مرض السكر، لكن ما حدث أنه اصيب في ساقه، وبسبب مرض السكر كان شفاؤه صعباً، لقد دخل المستشفى وقتها، ولم يتم إعطاؤه العلاج المناسب لسوء الحظ، عندها ساءت حالته كثيراً واقترب من الموت ثلاث مرات، لكنه نجا من تلك الأزمات الصحية، لم نلتزم بالسيرة الزمنية لمرض رافد، لأن الفيلم أراد أن يقدم نهايته السعيدة الخاصة للمعلم، وهو السبب الذي جعلنا نختار مشهداً له وهو يمشي في الثلج كنهاية سارة لمسيرته مع الشباب.

"رافد تيمور" كما بدا في الفيلم وهو يمشي في الثلج

لاشك أنك على اطلاع على أفلام المهاجرين الأوروبية من السنوات الأخيرة، حيث اعتدنا أن نرى مشاكلهم، من عدم اندماج واصطدام للقيم، هل كنت تفكر بتلك الأفلام وأنت تخرج فيلمك؟ 

أُحضر حالياً لشهادة الدكتوراه والتي سيكون موضوع بحثها عن المهاجرين في أوروبا، لقد شاهدت عددا جيدا من أفلام المهاجرين، على سبيل المثال الفيلم الروائي الفرنسي “مرحباً”. لكن فيلمنا يختلف كثيراً عن أفلام الخيال التي شاهدناها، هو كما أتصور ليس فيلماً عن المهاجرين، بل يركز على التعليم وتطوير الذات والطرق غير المسبوقة لتلقي العلوم والمعارف، الهجرة هي جزء من الفيلم، لكنها ليست الجزء الأهم، لذلك لا أستطيع مقارنته مع أفلام المهاجرين الأخرى، لا أعرف إذا كان هذا جواباً على سؤالك.

ما أردت أن اقوله أن هناك أفلاماً تسجيلية عديدة تعاطت مع مشاكل الجيل الأول من المهاجرين إلى أوروبا، ما لفت انتباهي في فيلمكم أنه يقدم وجهاً غير شائع للمهاجرين..

ربما تبدو الشخصيات في الفيلم وكأنها مندمجة مع محيطها ومع مدينة برلين، لكنها بالحقيقة تشعر بالانتماء إلى جزء محدود كثيراً من المدينة، وليس مع الجزء الذي يغلب عليه الوجود الألماني منها، هي تنتمي إلى منطقة واحدة يغلب عليها وجود المهاجرين مثلهم. عندما يغادرون منطقتهم يشعرون أحياناً وكأنهم أسماك خارج الماء.

ملصق فيلم "أبناء رافد"

كيف كان استقبال الفيلم عندما عرض في إسطنبول؟ هل الناس واعية بمشاكل مواطنيهم الأتراك الذين يعيشون في الغرب؟

بالطبع هذا موضوع يشغل الأتراك في تركيا، أي عن حياة ومشاكل الأتراك في ألمانيا، لأن عمر هجرة هؤلاء تعدى الخمسين عاماً. كما تعلم بعد الحرب العالمية الثانية كانت ألمانيا في حاجة لرجال ونساء لبناء البلد المدمر وقتها، وكانت تركيا قريبة جغرافيا، لكن مهاجري ألمانيا وغيرهم عندما كانوا يعودون إلى تركيا في العطلات، لم يكونوا دائماً يشعرون بالترحاب هنا، إذ كان يُنظر إليهم كأجانب في بلدهم. ليبقى موضوع الهجرة والمهاجرين معقداً كثيراً حتى في تركيا.

 

 


إعلان