“سام قاضي” ومخاطبة الجمهور الغربي
يامن محمد
غياث مطر، أحد أهم رموز الثورة السورية في مرحلتها السلمية كما اصطلح على تسميتها، اسم يعرفه كل السوريين كما يعرفه النظام جيداً، فكان اعتقاله وتصفيته بوحشية.

كان غياث، صاحب فكرة تقديم الماء والوردة لكل رجل أمن يرسله النظام لمواجهة المتظاهرين المطالبين بالحرية، قد فهم اللعبة كما بقية رفاقه في داريا، وغالبية البقاع السورية الثائرة، أن النظام يبدأ بتقسيم المجتمع من هنا، بسلخ رجل الأمن عن إنسانيته ومواطنيته، ليصبح ولاؤه للدكتاتور ويصبح عدوه ونقيض وجوده المواطن الآخر المعارض للنظام القمعي، والمطالب -بدوره- بحريته وإنسانيته.
ليس من الغريب إذن أن يتناول مخرج سينمائي سوري مناصر للثورة، هذه الشخصية، لتكون مادة فيلمه الوثائقي الأول، وليدفع في اتجاه دعم الثورة من خلال هذا الفيلم مستخدماً إياه لمخاطبة الرأي العام الأمريكي على وجه الخصوص مطلقاً عليه اسم “غاندي الصغير” Little Gandhi.
عرض الفيلم مؤخراً في مهرجان إيكو ÉCU في باريس كعرض أول له في فرنسا بحضور مخرجه “سام قاضي” Sam Kadi. كان لهذا العرض تأثيره البالغ على جمهور مشغول بقضاياه الأخرى ومعاييره التي يرى من خلالها ما يحدث “هناك” في الشرق الأوسط.
أجرينا حواراً ونقاشاً مع “سام قاضي” عن فيلمه وهو التجربة الثانية له كفيلم طويل بعد فيلمه الأول “المواطن” The Citizen الذي شارك في بطولته بالإضافة إلى الممثلين الأجانب الممثل “خالد النبوي”، وسام مقيم بشكل دائم في أمريكا التي درس فيها الإخراج السينمائي:

– هذه تجربتك الثانية بعد فيلمك الطويل الروائي الأول الذي نال نصيباً طيباً من الانتشار داخل العالم العربي وخارجه لكنك قلت لي إنك اتجهت في خطوتك الثانية إلى صناعة فيلم وثائقي لعدم وجود الدعم الكافي لصناعة فيلم روائي عن القضية السورية، ما هو السبب من وجهة نظرك؟
هناك سببان رئيسيان، الغرب لا يرى في التطرق إلى هذا الموضوع مردوداً مادياً، أرباحاً، لا يستطيع أن يجازف بإنتاج فيلم عن موضوع يراه غير جذاب جماهيرياً وإنتاجياً، رغم إدراكهم بأنه حديث الساعة! هناك -لنقل- تجاهل كبير للموضوع من قبل المنتجين، لا تستطيع أن تعرف إن كان السبب هو تجنبهم له أو أن هذا الموضوع أكبر منهم، كما أشعر من محاورتي لمنتجين في هوليوود، لكنني أشعر أيضاً أن الجميع ينتظرون الخطوة الأولى ومن سيقدم عليها، متحدياً الخطورة الإنتاجية. ثمة أيضاً خطورة في الطرح، لا تنسى أن الأمر معقد، أنت على أي طرف وماذا تريد أن تقول.
إذاً الأمر سياسي أيضاً، أقصد بما يتعلق بالتجاهل الذي ذكرتَه.
نعم، لنقل إن الرفض الغربي له بعدان الأول إنتاجي والآخر سياسي.
ولكن البعد الإنتاجي يبدو مرتبطاً للغاية بالبعد السياسي على الأقل من خلال تغييب القضية السورية لتصبح أمراً غير معروف.
نعم أو أنه معروف بطريقة أخرى أي أن المنتج غير ضامن لردة فعل الناس، مثلاً اليوم بعد العرض الذي قدم هنا في باريس خرجت إمرأة تبكي وقالت لي بما معناه “إنني مخدوعة”، أي من قبل السياسيين والإعلام، فما بالك عن أمريكا التي هي أبعد وأبعد! ماذا يتكلم الإعلام الغربي عن سورية؟ فقط عن الإرهابيين والإرهاب و”داعش”، وكأن أدمغة الناس قُلصت، وأختزلت الثورة في سورية إلى ما بعد النصف الثاني من عام 2013 وكأن ما جرى قبل ذلك لم يكن.
وماذا عن وضع الإعلام مع الثورة قبل ذلك التاريخ كما عايشته هناك؟
كانت هناك تغطية إعلامية ولكن ليس كالمطلوب، هي تغطية إعلامية يطغى عليها الطابع التشويقي، كما يفعلون اليوم مع المرشح ترامب مثلاً في موضوع الانتخابات الرئاسية، الناس تلهو بمتابعته وكأنه show فيعطونه مساحات واسعة إعلامياً، ولكن هم بذلك يضرون قارة بأكملها، أحضر شخصاً يقول ترهات فينجذب له الناس ويصبح له متابعون أيضاً، وهكذا يسير موضوع التسويق والعائدات من الإعلانات في الميديا، وداعش هو موضوع يولّد الخوف والتشويق والغموض هذا يجذب متابعين أكثر من موضوع عن غياث مطر.
عملياً هذا يعني أن الوحش الذي أراد النظام وجوده ليسلب عقول الناس، أي داعش، أرادته القوى العالمية أيضاً بطريقة مشابهة وفق تقاطع مصالح.
طبعاً هناك تقاطع مصالح والنظام السوري قال بذلك علناً وهدد أوروبا وأنه سيقلب العالم رأساً على عقب وهذا ما حصل، توقعنا أن تكون ردة الفعل مختلفة. أريد أن أعود إلى الانتاج على المستوى العربي: لا نزال في العالم العربي، بالنسبة إلى الشق الإنتاجي، لا نؤمن بأن الفنون هي محركة الشعوب، وإن قال المنتجون عكس ذلك وهم يقولون، لكن دون تطبيق وهذا لا يعني شيئاً. وبالنسبة إلى الشق السياسي الموضوع أيضاً معقد وشائك لأن الدول العربية على عدة محاور وعدة مواقف فما زلنا نختلف على أي طرف يجب أن نقف، الجلاد أو الضحية. وفي النهاية هذا لا يخرج عن الوضع العام للسينما العربية، لا يوجد سينما عربية حقيقية.
هذا كلام خطير عن السينما العربية تقصد بالمفهوم الهوليوودي؟
بل بالتواجد العالمي، ما هي أكبر دولة عربية منتجة للسينما؟ هل أنت راض عن السينما المصرية؟ المصري نفسه يتمنى العودة إلى سينما الستينيات! هناك محاولات في بعض الدول العربية كقطر والإمارات لدعم المواهب العربية ولكن لا يجب أن يقتصر الأمر على دعم المواهب المحلية في تلك الدول.

بالعودة إلى فيلمك، يبدو أنه موجه إلى العالم الغربي.
الفيلم هدفه وتوجهه إلى الغرب وهذا نتيجة وجودي في الغرب وأعرف كيف يفكرون حسب تصوري. ما يسمعونه في التلفزيون يعتقدون أنه الحقيقة، قلت لهم في الحوار بعد الفيلم أنا لا أقبل أن أوضع بين خيارين، النظام أو داعش، أين السوريون؟ هل نشأت سورية البارحة؟ أنت تتكلم عن بلد فيه أقدم مدينة في التاريخ، أقدم أبجدية وأقدم نوتة موسيقية وأقدم كنيسة! ولا نريد لأحد أن يعلمنا كيف نتعايش، هذا موجود في غريزتنا والطائفية صنيعة الأنظمة.
ولكن كيف قلت ذلك في الفيلم؟
من خلال الشباب الذين تكلموا، إنهم من خيرة الشباب السوريين، أنا فقط أعطيتهم المجال، عندما تستمع إليهم تكتشف أنك أمام شريحة مغيبة ولا أروع، تستطيع أن تقود البلد، هناك من المتواجدين في داريا عندما تسأله عن مصدر إلهامه يقول لك “مارتن لوثر كينغ” هذا يدل على اطلاع واسع على ثقافات الناس، لذلك نحن من ثلاثة أسابيع قمنا بمبادرة فوضعنا ألف قارورة للمياه وألف وردة على درج “أبراهام لينكولن” في واشنطن ووزعناها على الأميركان والسياح لأنه في هذا المكان وقف مارتن لوثر كينغ وتكلم عن الحريات وحقوق الإنسان. هذه الشريحة هي من أظهرتها في الفيلم، لذلك أعتبر أنه أقرب إلى الروائي منه إلى الوثائقي، وهذا عائد أيضاً إلى مرجعية العمل في المجال الروائي لدي.
طريقة تركيب الفيلم تشبه النمط الوثائقي الرائج في أمريكا مختلفاً بذلك عن الأشكال التي نجدها في التجارب الأخرى للشباب السوريين الأقرب جغرافياً من سوريا، وكأن هذا الاختيار كان نظراً لتوجهك للمتفرج الأمريكي، يعني مثلاً الاعتماد على المقابلات..
صحيح هو مختلف، كان الفيلم بالنسبة لي وثيقة للتاريخ والأشخاص مهمون جداً، كان لدي عدة خيارات لكنني اخترت أن يكون التركيز على كلام الشباب أصحاب القضية الذين لم يحركوا بلداً فقط بل حركوا العالم، فيلم أضع مشاهد بمرافقة كلامهم لأحقق الامتاع، بل قصدت أن يركز المشاهد في الكلام، ويقرأ جيداً الترجمة المرافقة، وكما تعلم المشاهد الأمريكي غير متعود على قراءة الترجمة، ومن خلال مراقبتي لردود الأفعال أثناء العروض أعرف أن هذا لم يخلق الملل، اليوم الناس وقفوا مرتين أثناء الفيلم وصفقوا.
ماذا عن التكرار في الفيلم كالكلام عن غياث مطر ومديحه المتكرر من غير أن نعرف بالضبط لماذا، ربما بدا للبعض غير مبرر. وكأن هناك فجوة معلومات في الفيلم إذا جاز التعبير.
هناك كان تكرار للجمل بطرق مختلفة، بالنسبة للجمهور الأميركي فهو لا يعرف من شخصيات الفيلم إلا السفير “روبرت فورد”، هذا يعني أن المصداقية ضعيفة بالنسبه إليه، وأنا تعلمت أمراً أن الحديث يوثَّق بالتواتر، فعندما أسمع شيئاً يقوله عدة أشخاص كل واحد منهم في مكان مختلف في العالم، فعند ذلك ترسخ الجملة في ذهني وأصدقها، التكرار يوثق هذا الكلام.

الفيلم تعبوي كما أظن وله وظيفة سياسية.
هذا كلام خطير أن نقول عن فيلم إنه تعبوي، أنا أقول لك إن الهدف ليس التعبئة بالتأكيد، ولكن طرح الحقيقة يستحضر هذه التعبئة تلقائياً، يعني أنت إنسان مظلوم وأنا صنعتُ فيلما عنك يشرح قصتك هذا يؤدي بالضرورة إلى تعبئة من يشاهده، هذا هو الفن، في الفيلم مثلاً يحاول أحد الأشخاص الكلام عدة مرات ولا يستطيع بسبب إطلاق النار القريب، أنا لم أقل شيئاً!
يبدو أنك وضعت السوريين في هذا الفيلم في موقع المتهم وكأنهم مطالبين بالدفاع عن أنفسهم وإثبات سلمية الثورة، يبدو أن هناك شعور بالذنب جراء تسليح الثورة، هل قصدت ذلك؟
أبداً! هذا الأمر متروك لهم، الناشطون، هناك كلام في الفيلم لبعضهم يقولون إن التسليح لم يكن خياراً بل ضرورة، وآخرون قالوا نحن أخطأنا، وأنا تركت الرأيين يظهران في الفيلم. في رأيي الشخصي الحكم على هذا الموضوع غير ممكن، ليس بمقدور أي شخص أن يحدد أي الخيارات كان أفضل إلا الناس الذين يقاومون على الأرض.
ولكن من حقك أن يكون لك رأيك في هذا الأمر.
لذلك قلت لك أعطيك رأيي ولكن بشكل شخصي. لكن عندما تتكلم في الإعلام فهذا أمر خطير ومسؤولية كبيرة.
قيل في الفيلم إن جريدة “واشنطن بوست” هي من اختارت اسم غاندي الصغير لغياث مطر، ألا ترى إجحافاً أن تختار أنت السوري هذه المرجعية لتسمية فيلمك، من وجهة نظر أمريكية، من الناحية الثقافية على الأقل، حتى أنني لاحظت أن هذه التسمية لم تعجب السفير فورد كما عبر عن ذلك في الفيلم.
وهذا يثبت مصداقية الفيلم لأننا تركنا كلام فورد ليسمعه الناس، روبرت فورد لم يفهم معنى التسمية هو سمي الصغير لصغر عمره وليس لقلة عمله، أي غاندي القادم، كان اسم غياث في سورية غاندي سوريا، ولكن يهمني أن يأتي هذا التوثيق من الخارج، هذا العنوان يقول كم هو سلمي هذا الشخص، دائماً التكريم القادم من البعيدين عنك هو التكريم الأصدق.
ولكن في النهاية، هناك خطورة كبيرة باختيارك لهذه المنهجية في صناعة الفيلم، أنا كسوري مثلاً، شعرت أن الفيلم يفتقد أحياناً للاستقلالية بمعنى أن تسعى لتعيين ذاتك على الدوام بدلالة الآخر ولا أتحدث فقط على التسمية.
احترم رأيك ولا أتفق معه، لديك في الفيلم 11 سوريا وشخص غربي وحيد، عندما تقول القصة مراراً ثم يأتي غريب ويؤكدها فهذا يخدم الفكرة.
الخشية أن نسقط حالات على الوضع السوري لا تشبهه، وهو ما عبر عنه فورد عندما قال إنه من غير الممكن أن تشبه الحالة الهندية والاستعمار البريطاني بالحالة السورية و النظام السوري.
دعني أنهي هذا الجدل بعدة كلمات، بكل بساطة الاسم نشأ سورياً وتم التأكيد عليه من جهة خارجية أعتقد أن اللقب سوري بامتياز.
ما الغرض الأساسي من الفيلم؟ أن يقدم شخصية غياث أو شرح القضية السورية؟ لم نر إشباعاً ما لتناول شخصية غياث ولا القضية السورية.
بالنسبة لي غياث هو رمز وهو يمثل سوريا نحن نختار الرمز ولكن القصة الحقيقية هي قصة وطن، أنا على ثقة أنه في كل شارع هناك غياث مطر، أريد أن أقول إنني لم أصنع فيلماً للنقاد بل أريده أن يصل إلى الشعب، وإسقاط الضوء على شريحة مغيبة تماماً وخصوصاً في الغرب، شريحة لا يُفرض عليها الخيار بين النظام وداعش.
الفيلم لم يجسد غياث مطر لم نعرف من هو، بقي في صورة مثالية جداً وكأنه ليس إنساناً، كنت أنتظر أن ينحت كما كان لأعرف من هو.
هناك الرمزية والهدف الذي نطمح إليه. الدخول على هذا الفيلم بفرضيات تتوقعها يسبب إشكاليات مرتبطة بتصورات معينة، أنا أرى أن المتفرج العادي يدخل لمشاهدة الفيلم دون فرضيات مسبقة، ليعرف قصة وطن وقصة شخص، وأرى أنه يأخذ الجرعة الكافية ليقوم بشيء ما ولا داعي لندخل بتفاصيل حياة غياث لأن هدفنا قصة وطن، كرمز “القنينة” والوردة، الفيلم مبني على الرمزية بشكل كبير. كما يهمني كثيراً رضا الناشطين عن الفيلم. أيضاً لا تنسى أن الفيلم دعي ليعرض في الكونغرس الأمريكي، ليس أي فيلم يدعى إلى الكونغرس، أو يأتي معاون وزير الخارجية الأمريكية ليراه، هذا يعني أن هذه الرمزية وصلت، لم أر فيلماً في عمري نال نحيباً وعويلاً داخل الصالة كما جرى مع هذا الفيلم وأنا متفاجئ، إنه يمس قلب الإنسان السوري وكأنه يشعر أن الثورة بدأت البارحة، هذا ما يقوله لي السوريون بعد مشاهدتهم للعرض، الطاقة الإيجابية عادت، لأن الظروف الحالية للأسف عبأتنا بطاقة سلبية هائلة وإحباط كبير وإجحاف بحق هؤلاء الشباب “المنسيين”.