“سينيم توزين” عن فيلمها الروائي الأول “الوطن الأُمّ”

محمد موسى

يَكشف أول فيلم روائي طويل للمخرجة التركية “سينيم توزين” والذي يحمل عنوان “الوطن الأمُّ” عن موهبة سينمائية فذة، فهي تقدم عملاً عائلياً حميمياً خاصاً، عن علاقة مُعقدة بين فتاة ووالدتها، وفي الوقت نفسه، وبدون ضجيج أو خطابات، يقارب الفيلم العديد من الأسئلة الجدلية الشائكة التي تواجه المجتمع التركي بجميع طبقاته. وهو المجتمع الذي يتأرجح منذ أكثر من قرن بين الأفكار الغربية وتاريخه المديد وقيمه المحافظة.

 تأخذ المخرجة في فيلمها المعتم البطلتين إلى قرية الأجداد، لتتكشّف من هناك الفجوة التي تفصل بين الأجيال والخسارات الشخصية الجسيمة لشخصياتها. يتابع الفيلم الانهيار البطيء الحاسم للبطلة الشابة، الكاتبة التي تلجأ إلى القرية لإنهاء كتابها المتأخِّر موعد تسليمه. وعندما تلحق بها أمها إلى القرية، تصطدم الشخصيتان رغم الحب الكبير الذي يحملانه لبعضهما. تعجز البطلة عن تغيير ما حولها، وتفشل في إصلاح العلاقة المعطوبة مع والدتها، مُقتربة عبر زمن الفيلم من هاوية مخيفة.

عُرض فيلم ” الوطن الأمّ” لأول مرة في الدورة الأخيرة من مهرجان فينيسيا السينمائي، وتنقّل بعدها على عدد من المهرجانات السينمائية، مُحقِّقا جائزة جمعية النقاد الدوليين في مهرجاني: وارسو وإسطنبول السينمائيين، والجائزة الأولى في مهرجان تبليسي الدولي في جورجيا. ويتواصل عرضه في دائرة المهرجانات السينمائية، إذ سيُعرض في شهر يونيو القادم في مهرجان كارلو فيفاري السينمائي في جمهورية التشيك. كما وصل منذ أيام إلى الصالات السينمائية التجارية في تركيا.

وفي الآتي حوار مع المخرجة التركية سينيم توزين عن فيلمها “الوطن الأُمّ” ..

المخرجة التركية "سينيم توزين"

كيف كانت مراحل كتابة سيناريو الفيلم، وأيّ من الشخصيات كانت واضحة المعالم منذ البداية؟ هل بدأتِ بالابنة، ونسجت قصتك من حولها، أم كان الخط الأساسي للحكاية، بأخذ البطلة وأُمّها إلى القرية التي أتيتا منها، مكتملاً قبل أن تبدئي بالكتابة؟

كانت هناك ثلاثة أفكار أو تصورات والتي ستلتقي معا لتشَّكل القصة بشكلها النهائي، في البدء كنت أفكر بكاتب شديد الفخر بنفسه، والذي يعود إلى القرية التي أتى منها للكتابة من هناك. لكن أُمّه ستلحق به وتضعه في مواجهات مع ذاته وتصوراته للعالم. ثم بدأت أفكر بالعلاقات التي تربط البنات بأمهاتهن. وهو شيء أعتبره مُهماً في حياتي الشخصية وأهتم بمراقبته فيما حولي. والفكرة الثالثة، هي عن الحرية الشخصية، والعلاقة بين الفرد والمجتمع. حتى إنني خلال تلك الفترة فكرّت بالمشهد الختامي من الفيلم.

هذه الأفكار التقت في النهاية، بعدها بدأت أسال نفسي لماذا أكتب عن شخصية ذكورية، ولماذا عليَّ أن أُبدِّل المواقف والعواطف التي أفكر بها لشخصية نسائية كي تناسب شخصية الكاتب الرجل. نحن نعيش في بيئة ذكورية أبوية وأحياناً نفكر لاشعوريا ضمن هذه القيم التي تسيّر المجتمع. كان من المهم للشخصيتين الرئيسيتين أن تعودا إلى القرية، ذلك أن دور الأُمّ في القرية التركية أكثر قوة ووضوحاً عنه في المدينة. كما أنيّ وضعتهما في بيت صغير، معزولتين عن المحيط الخارجي على نحو ما. لكي أستطيع أن أُجرِّب وأراقب ما يحدث.

هناك طبقات عديدة للفيلم، إذ يمكن قراءته بأنه مواجهة بين ثلاثة أجيال من النساء في تركيا، الأول هو جيل الجدّة والتي لا نراها في الفيلم، لكنها حاضرة لأن الفيلم يدور في بيتها، وكذلك قيمها ما زالت سائدة في القرية، وجيل الأُمّ، التي ربما كانت تعيش حياة مختلفة في الستينيات والسبعينيات لكنها ارتدّت إلى محافظة أخلاقية، وهناك بالطبع البطلة الشابة التي تواجه الجميع، هل هذا كان مخططاً، أن يكون الفيلم ما يشبه التصادم بين أجيال مُختلفة في تركيا؟

هذه المواجهة أصبحت هدفي عندما تعرّفت على ملامح لها أثناء كتابة الفيلم. كنت أحاول أن أكتب عن الألم الذي أحسّه بداخلي وألمسه عند آخرين، هو ألم وجودي لعدم الانتماء لأيّ مكان. وعدم معرفة الذات، وجهل بالنهاية. بالطبع الموت هو النهاية، لكن ما سيحدث حتى موعد الموت. إذا أردت أن تتحدث عن شخصية ما، عليك أن تنقب في تاريخ الشخصية وتحاول أن تستشرف مستقبلها. كل واحد منا هو قطعة في سلسلة طويلة. وعليك إذا أردت أن تفهم هذه الشخصية أن تنظر إلى السلسلة ولا تكتفي فقط بقطعة واحدة. أنا أتفهم إذا تم قراءة الفيلم بأنه مواجهة بين أجيال أو عن فجوة بين الأجيال. بالطبع هذا جزء مما يريد الفيلم تقديمه، لكن الشيء الأساسي في الفيلم هو عرض الألم الشخصي لشخصياته.

كم من الوقت استغرق كتابة السيناريو؟

لقد أخذ الكثير من الوقت، لأن هذا هو فيلمي الأول، وكنت أحاول أن أجد التمويل الكافي للفيلم، في تلك الفترة كنت أكتب وأعدِّل، لأنه إذا لم تكن تملك موعداً عليك الالتزام به بخصوص البدء في التصوير، تبقى تغير وتعدل بما تكتبه. كتابة السيناريو أخذت حوالي خمس سنوات. أعتقد الآن وبعد أن أنهيت العمل، أن خمس سنوات كانت طويلة كثيراً، ثلاث سنوات فترة كافية تماماً (تضحك). وخاصة أني غيرت كثيراً في السيناريو أثناء التصوير، قطعت أجزاءً معينة وأضفت أجزاءً أخرى.

لا تقدمِّين في الفيلم خلفيات تاريخية موسعّة عن الشخصتيين الرئيسيتين، نعرف فقط أن البطلة مطلقّة، والأُمّ كانت تحب زميلا لها قبل أن تتزوج. هل كان هذا أمراً خططتِ له منذ البداية، أن تتعاملي مع حاضر الشخصيات وتتركين الماضي؟

لا لم يكن الأمر مخططاً، في السيناريو الأصلي هناك مزيد من التفاصيل عن الأُمَ والابنة، ما لمسته أثناء التصوير أو توليف الفيلم، أنه من الصعب تقديم معلومات عن حيوات سابقة في مشاهد الفيلم الذي كان يتعاطى مع الحاضر، هذا لو تم وبدون رؤية إبداعية كبيرة، سيكون أشبه بالاحتيال على المتفرج. وربما تُفسد علاقة الأخير مع الفيلم.

كل واحد منا له “لا وعي”، وهذا يُمكن أن يقوده إلى جوهر الحكاية وإلى ألم الشخصيات حتى بدون شروحات كثيرة. المعرفة ليست هي الأهم في السينما، بل الإحساس. البطلة جُرِحت نفسيّا في المدينة الكبيرة التي تعيش فيها بسبب زواجها وبسبب عملها، الإحساس بهذه الأشياء كان يكفي لمتابعة القصة والشخصيات دون معرفة الكثير عن ماضيها.

كيف تصفين الأُمّ، هل يمكن أن تحدثينا عن رؤيتك لشخصيتها؟

شخصية الأمّ تنتسب إلى تلك القرية، لكنها خرجت منها عندما بدأت دراستها لتصبح معلمة. لم تبتعد الأُمّ جغرافيا كثيراً عن القرية، فهي عاشت في مدينة قريبة، وتزوجت رجلاً من القرية نفسها، استطاع هو الآخر أن يتخلص من الأقدار التي تنتظره في قريته عن طريق التعليم، إذ يعمل هو الآخر في وظيفة حكومية في المدينة القريبة نفسها. الجميع يحاول في تركيا أن يرتقي درجة أعلى من الطبقة التي ينتمي إليها، وهذا حال البطلة الأُمّ أيضاً. لم تقوم الأُمّ بهذه الخطوات لأنها لم تكن سعيدة في القرية، لكنها كانت تشعر بأن هذا الطريق الطبيعي للجميع في القرية. وعلى الرغم من أنها عاشت في المدينة، إلا أنها لم تنسجم تماماً في حياتها هناك. ربما لأنها شعرت بأنها لم تكن مُتحضرة بالقدر الكافي.

هي كانت دائماً غريبة وضائعة في حياتها في المدينة. هي جزء من فكرة قديمة زرعتها الجمهورية التركية الحديثة بخصوص فكرة التحضر والحداثة والتي جعلت الكثير من الأتراك يشعرون بأن حياتهم ليست مُكتملة وأن عليهم أن يتغيروا حتى يناسبوا هذه الفكرة. لا أقول هنا إن النموذج الآخر، الذي يُنتظر من الأتراك أن يلتزموا بهويتهم الأصلية والمحافظة الأخلاقية، هو نموذج صائب، لكن النموذج المفروض من الخارج جعل الكثيرين يشعرون بالتعاسة الداخلية.

كيف كان العمل مع الممثلتين الرئيسيتين (عسرا بزين بالغين ونهال كولداس)، هل أطلعتهما على رؤيتك للفيلم، وكيف عثرتِ عليهما؟

كلتا الممثلتين تملك مواهب كبيرة. وصنعتا اسميهما في المسرح. لقد أحبتا لحسن الحظ السيناريو كثيراً وهو السبب الذي جعلهما توافقان على العمل في الفيلم، على الرغم من أننا لا نستطيع أن ندفع مبالغ كبيرة من المال. أثناء التصوير بدأت بتغيير العديد من التفاصيل، الأمر الذي جعلاهما تشعران بالارتباك بالتعامل معي. فالفيلم هو فيلمي الروائي الطويل الأول. عندها جلست معهن وأطلعتهن على ما يشبه السيرة الشخصية للشخصيتين في الفيلم، بعض من هذه التفاصيل لم يكن موجوداً في السيناريو الأصلي في الفيلم. كنت أطلب منهما أن يحاولا الدخول إلى الشخصيات. وكنا نجلس سويا كما يفعل الموسيقيون في جلسات العمل المشترك ونبدأ بالابتكار.

يبدو الفيلم في مجمله وكأنه يسجل الانهيار النفسي للبطلة، هل هذا أمر كان في بالك أثناء الكتابة أو التصوير؟

نعم هذا خطر في بالي وأنا أكتب ولاحقا أثناء إخراج الفيلم، لكني أراه أيضاً نتيجة بديهية لمسار حياتها. فانهيارها النفسي أو وصولها إلى حافة الجنون هو نتيجة لتعرفها وحفرها في ذاتها. وهذا شيء مؤلم، أي اكتشاف الطبقات المجهولة من النفس. هذه الرحلة في داخل الذات هي رحلة مؤلمة كثيراً. في المقابل، يمكن قراءة الفيلم كتجربة إيجابية، تجربة التعرُّف على النفس. هي قامت أيضاً بخطوات مهمة في هذا المجال، فهي تركت حياتها المريحة في “إسطنبول” وعملها من أجل البدء بهذه الرحلة التي كانت هدفها التغيير والتواصل مع الروح.

بعض الذين كتبوا عن الفيلم في تركيا، اعتبروا الصراع في الفيلم كناية عما يجري بين طبقات المجتمع التركي، بين الحداثة والمحافظة، ما رأيك بوجهة النظر هذه؟

الاتجاه “المحافظ” موجود دائما في المجتمع التركي. طوال حياتي، وأنا الآن في السادسة والثلاثين، كنت دوما أرى الوجه المحافظ التقليدي في المجتمع. وهنا علينا أن نفرق بين الهوية الدينية والتقليدية، في الوقت الحالي، يتم الربط تلقائياً بين الهوية المحافظة والدينية بسبب السياسية المعاصرة، العقلية الدينية لها أوجه كثيرة، منها ما هو معروف، ومنها ما يحرك قوى المجتمع. وهذا أمر تستغلّه بعض الحكومات اليوم، أن يطبعوا “الدين” على أفعالهم. ويتحدثوا عن “الدين” وكأنهم الوحيدون الذين يحق لهم التحدث في هذه القضية. لكن من أعطاهم الحق ..؟ هذا أمر لا أقبله. هذا الموضوع تحدث عنه الفيلم، لكنه لم يكن نقطة البداية. الفيلم عن علاقة بين بنت وأُمّها. لأن العلاقة بين الأُمّ والأبناء هي أساسية بنظري، كل شيء يبدأ من هذه العلاقة.

كيف وجدت مواقع الفيلم، وخاصة البيت الذي صورت منه مشاهد جميلة بسينمائيتها. هل كتبت تلك المشاهد التي صورت بالبيت بعد أن عثرت على المكان؟

أنا سعيدة بسماع ذلك، لأن هذا كان يشغلني طوال الوقت. كنت أريد أن تكون الكاميرا أشبه ما تكون بذبابة على الجدار، غير مرئية ولا تقف بوجه تصوير تلك اللحظات الخاصة بين البنت وأمّها. بخصوص القرية، هي المكان الذي أتت منه عائلتي، جدتي عاشت في تلك القرية وفي نفس المنزل الذي صورّنا فيه.

هل هناك شيء خاص حول تلك القرية.. أو عن سكانها؟

الشيء الذي يمكن أن يكون خاصاً حول تلك القرية، هو أنها يمكن أن تكون مثالاً نموذجياً لقرية مسلمة سنية تركية. أي ما يمكن أن يعتبر أصل المجتمع التركي. عندما كنت مشغولة بكتابة السيناريو كنت أفكر بذلك المنزل الذي صورنا فيه. في البداية كنت مترددة بشأن التصوير في قرية عائلتي لأن هذا ممكن أن يعقد الأمور على صعيد معالجتي للقصة والشخصيات. في النهاية قررت التصوير بسبب مثالية القرية والمنزل. والأخير يملك خصوصية، لأن غرفتيه مفتوحتان على بعضهما، ويمكن لساكني الغرفتين التلصص على بعضهما. كما يمكن سماع ما يدور في كلتا الغرفتين في بقية البيت. المكان وفرَّ كثيرا من الإمكانيات للقصة التي كنت أريد أن أسردها وساعد في التعبير عن التوتر بين الشخصيتين وهو ما كنت أرغب في الوصول إليه.

حظى الفيلم بردود أفعال عاطفية في كل مكان عرض فيه، هل كان هذا مفاجأة لك؟

نعم كان مفاجاة. لأني ظننت أن الفيلم سيكون صعباً، ربما لأنه يحاول أن يدفع مشاهديه إلى الحديث عن مواضيع يتجنبها. ما يسعد حقاً أن المتفرج يمكن أن يتقبل المواضيع الصعبة إذا تَحَلّت الأفلام بالصدق.

بمن تأثرت من المخرجين ؟

درست في معهد السينما بتركيا، واطلّعت على أعمال الكثير من المخرجين أثناء الدراسة، لكن المفارقة أني تأثرت بمخرجين كانوا بسينمائيتهم على النقيض مع أسلوب الدراسة في معهد السينما. من الذين تأثرت بهم : إنغمار بيرغمان الذي تعرفت على أعماله في أعوامي الأولى من الدراسة. وقتها، شاهدت الكثير من أفلامه بدون ترجمة إلى التركية أو أيّ لغة أخرى. ورغم أني لم أفهم ما كان يدور من أحداث إلا أنها كانت أفلام مؤثرة جدا بالنسبة لي. بعدها تعرفت على الفرنسي روبرت بريسون، والذي كانت سينماه وقتها الأجوبة على كل تساؤلاتي. تأثرت كثيراً بسينماه. فهو كان يصنع حقيقة مستعيناً بالصوت والصورة.  

المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي كان نخبوياً كثيراً بالنسبة لي وقتها ولم أكن قادرة على التواصل مع سينماه، ثم شاهدت قبل سنوات فيلمه “المرآة”. والذي بقيت أبكي بعد مشاهدته لساعات. وكنت أقول لنفسي وقتها : الآن يمكن لي أن أتذكر رائحة أُمّي عندما كنت طفلة. رغم أني لم أفهم الكثير من الفيلم، وأعتقد أنه ليس من المهم أن نفهم السينما، بقدر أهمية تثمين دورها في تحريك مشاعرنا ووعينا وفهمنا لما حولنا.

 


إعلان