كريستيان موردليه.. حكايات من قمم الهيمالايا

ندى الأزهري- نيودلهي

التقينا في المعهد الفرنسي في نيودلهي، كانت في زيارة تتعلق بأعمالها السينمائية الملتزمة بعشق…البيئة والحفاظ عليها. كريستيان موردليه مخرجة أفلام وثائقية فرنسية منذ شبابها، لكنها تُوجّه منذ عشر سنوات، أي منذ تقاعدها، كافة اهتماماتها السينمائية وولعها لمنطقة واحدة، أحيانا تتجاوزها قليلا لكن تبقى ” لاداك” المتربعة على قمم الهيمالايا الهندية متربعة على عرش قلبها ومصدر الهامها.

المخرجة "كريستيان موردليه" يسار الصورة

الحديث معها لا ينتهي إلا اضطرارا لوجود مواعيد أخرى فما تسرده عن هذه المنطقة وأهلها و” صدام الحضارات” والثقافات التي تتراجع والمهن التقليدية التي تختفي وهؤلاء السكان الغرباء عنا القابعون آلاف الأمتار في الأعالي المنعزلون في قممهم.. بل الذين كانوا منعزلين.. هل نقول للأسف؟ لنسمع حكايات تلك المرأة التي تنبض بالحيوية رغم سنواتها السبعين.

بداية الثمانينات جاءت كريستيان وكانت مدرّسة في عطلة إلى الهند، وكعاشقة للجبال كان لا بد من الصعود نحو الهيمالايا، إلى منطقة “لاداك” بالذات. هناك التقت بلاجئ من التيبت كان أنشأ مدرسة حكومية لم يكن فيها غير 35 طالب، لم تكن حينها المدارس منتشرة في تلك البقعة البعيدة بل فقط مدارس دينية ملحقة بالأديرة البوذية. خطرت لها فكرة تبادل وتعاون بين مدرستها الفرنسية وهذه المدرسة. تقول بإعجاب أن اليوم ثمة ألفا طالب وطالبة.

منطقة "لاداك" بجبال الهيمالايا في التبت

هنا خطر ببالي ما سبق وسمعته منها قبل الحوار الصحفي عن الأخطار المحيطة بهذه المنطقة، من هجرة السكان من القرى وتعالي بعضهم على المهن التقليدية واختيار الأسهل والأضمن.. الخدمة في السياحة!

ما تأثير التعليم على هجرة التلاميذ خارج قراهم وجعل المهن التقليدية تختفي؟

وضعت اليد على الجرح! أهل المنطقة جدّ أذكياء ومقبلون على العلم، لكن العمل لا يتوفر لهم فيما بعد وخاصة أنهم لم يعودوا يرغبون بأداء الأعمال التقليدية، لم يعد ثمة أحد يرعى أو يعمل في الحقول… رغبنا بادانة هذا الوضع و كان موضوع فيلمنا ” تسرينغ راعية لاداك”.

لماذا اخترت منطقة لاداك بالذات لتعملي فيها قبل وبعد التقاعد؟ ما الذي شدّ اهتمامك نحوها؟

حين تكون عاشقا للجبال لا بد أن تذهب للهيمالايا! كنت آتي إلى هنا شهرين في الصيف كما أقوم بزيارة في الشتاء، ومنذ تقاعدي قررت الإقامة خمسة أشهر في السنة. من البداية، ما إن حططت في” لاداك” حتى أُخذت بروعة سكانها. ( ثم تستدرك) لكنهم اليوم يتغيرون ويصبحون كالفرنسيين! يريدون كسب الأموال وهذا فقط ما يهمّ. لم يكن هذا موجودا، كان المجتمع هنا مترابطا، ” فازبان”أي لكل عائلة أخرى تساندها طوال الحياة وتؤمن لها المساعدة المادية والمعنوية عند الأزمات، لكن هذا النظام يختفي تدريجيا للأسف. أعجبني كذلك هنا المساواة التامة بين المرأة والرجل سواء في الأسرة وفي العمل، وجذبتني هذه الأجواء في الحقول حيث الكل يعمل معا ويغني للحيوانات مشجعا إياها على الصبر والتحمل!

بدأت في سن الخامسة والعشرين أفلاما عن النيبال وايسلندا وكنت هاوية، الآن أنت محترفة وأفلامك تعرض على المحطات الفرنسية آرتي وفرانس 3 كيف وصلت إلى هنا؟ وكيف تحولت نحو الاحتراف؟ 

حين كنت مدرسة كنت أذهب مع أفلامي إلى المحطات التلفزيونية وأعرضها عليهم فيرحبون شرط أن أمنحها مجانا! كنت أرضى وقد خلق لي هذا اسما وشيئا من الشهرة. بعد التقاعد أصبحت محترفة وبتّ معروفة لذلك كانت أفلاميتؤخذ على الفور. ثم ومع الأيام تطورت نظرتي للعمل و لم أعد أرغب بعمل أفلام تبين وجهة نظري الخاصة فقط فيما يجري حولي، هذا قادني للتعامل مع ” ستانزان” وهو مخرج شاب من لاداك. كم تعلمت وأتعلم من هذه التجربة التي عمرها اليوم عشر سنوات! من خلالها تجسّد لي صدام الحضارات!

المخرجة رفقة "ستانزان"

أعطنا بعض الأمثلة عن هذا ” الصدام”؟

كنت أعتبر بعض الأشياء مهمة جدا وأعطيها أكثر من حجمها فيما كانت عادية بالنسبة إليهم! أو على العكس، في مسألة الموت مثلا. كان “ستانزان” يعمل أفلاما شبيهة بأفلام بوليوود، وحقق واحدا عن “سندريلا” بنسختها اللادكية! في فيلمه هذا بقيت الأم تحتضر خلال نصف ساعة، فهذه اللحظات الأخيرة والعلاقة بين المحتضر وعائلته تُعتبر لديهم قضية فائقة الأهمية. حين أخبرته أنه من المستحيل عرض مشهد كهذا في فرنسا إن رغبنا بعرض الفيلم هناك استغرب الأمر جدا، فالمشهد من وجهة نظره يبدي مسائل أساسية. تجادلنا كثيرا لكنه اعتبر أن لا سجال في الأمر. في فيلم “جانغوا”  واجهنا نفس المشكلة هناك طفل يغسّل ميتا من عائلته وهو يخاطبه. لقد اقتطع هذا المشهد في العرض الفرنسي! ضايقني هذا لأنه  كان رائعا لا دماء فيه، كانوا يسحبون الجسد الواقع في الوحل. الموت جزء من الحياة عندهم بينما نحن في فرنسا نخفيه ولا نعرف التعامل معه.  في الهيمالايا نظرتهم أكثر صحية، وهم يجابهون الموت منذ صغرهم، ربما هذا بفضل ديانتهم أو نوعية مجتمعاتهم.

ثمة مواقف أخرى كثيرة تبدي اختلاف أولوياتنا واهتماماتنا، أقول لزميلي مثلا خذ صورة هنا فيندهش، أو يقول هذه لقطة فيها رموز كثيرة فيما أنا لم أدركها.. ما أراه رائعا في تعاملي مع شريكي ستانزان، وهذا بفضل السينما، هو أننا نتحاور بعمق وأنا أكتشف عبر أسئلته ثقافتي الخاصة، وهذا ينطبق عليه أيضا.

المخرج ستانزان كان راعيا في قريته الواقعة على ارتفاع 5000م وحتى عمر الخامسة عشر لم يكن يعرف القراءة والكتابة، كيف أصبح مخرجا وكيف بدأ التعاون بينكما؟

التقيت ستانزان بجمعية كانت تُعنى بتعليم وتدريب الشباب مهنيا، وقد طلب  تعلم التصوير وحين أعطيناه آلة تصوير أعجبوا بما فعل. هكذا تابع والتقينا ونعمل سوية منذ عشر سنوات.

المخرج " ستانزان"

حديثنا عن أسلوبكما أنت وستانزان في العمل؟ هل تكتبان سيناريو وتسيران على هداه؟ ما هي الصعوبات التي تواجه التصوير في تلك المناطق المعزولة؟

نعمل بشكل عام على أفكار معينة من نوع تبادل مدرسي مع فرنسا، أو قرى تختفي أو تتعرض لكوارث كما نساهم أحيانا في سلسلة أفلام حول موضوع محدد لاحدى المحطات التلفزيونية. نكتب الفكرة أولا ثم نضع خطة العمل واسلوب السرد ونقرر الجوانب التقنية مثلا أماكن تموضع الكاميرا. قد لا نكتب كل شيء تاركين للمفاجآت دورها. فالعوامل المناخية تتدخل كثيرا في شغلنا، كالثلج حين يغدو جليدا وما يسببه ذلك من انزلاقات، والبرد والغبار والريح التي  قد تعطل مشاريعنا. ثمة مشاكل تقنية كثيرة تواجهنا حتى حين نصور في البيوت، فمعظم الوقت لا كهرباء هناك. صحيح لدينا شاحن شمسي لكنه لا يعمل جيدا طوال الوقت! ايضا قد تهب الريح وتمنعنا من تسجيل ما نريد. مثلا كنا نريد تصوير مشاهد من البذار في الربيع حين يقوم المزراعون بذلك وهم يغنون أغان معينة، يحصل هذا في نهاية مارس. إن لم نستطع التصوير آنذاك علينا الانتظار سنة كاملة قبل البدء من جديد!  أثناء تصويرنا هبت رياح عاصفة منعتنا من اكمال المهمة فتخلينا عن المشهد!

إضافة للطقس ثمة مفاجآت أيضا مع الشخصيات.انتهينا للتو من تصوير”قريتي الجميلة” وهو فيلم سيعرض على آرتي في نوفمبر القادم ضمن سلسلة من الأفلام المشابهة تقوم فكرتها على متابعة أطفال في حوالي العاشرة يعيشون في قرى معزولة في أميركا الجنوبية والمغرب ولاداك..

من فيلم "قريتي الجميلة"

فيلمنا هو يوميات طفلة صغيرة خلال شهرين. أثناء العطلة المدرسية الشتوية تساهم هذه الصغيرة في عمل القرية الجماعي وتقوم بمراسم دينية. لقد صورناها في رحلة سير على الأقدام تدوم ثلاثة أيام متواصلة للوصول إلى قرية أخرى، تقوم خلالها مع آخرين بالصلاة والانبطاح على الأرض طالبين الخير والبركة لكل الكائنات.. كان الثلج قد تحول جليدا حينها و لم اصدق أنها ستكمل الطريق، ولكن تلك الصغيرة أكملته! 

في فيلم ” ما قد أضعناه…ربما”، يزور تلاميذ مدرسة ابتدائية من لاداك بلدة فرنسية ضمن خطة للتبادل بين المدرستين. لحظنا عدم انبهار صغار لاداك بفرنسا بل وانتقادهم للأجواء العائلية والثقافية.. كيف تعاملتم معهم ومع الفارق الثقافي بين المجتمعين؟ 

اخترنا أربعة من الصغار من ضمن المجموعة الذاهبة لفرنسا لمتابعتهم، اثنان من الفقراء واثنان من الأغنياء، وصورنا تسعين ساعة وكان علينا اجراء قطع قاس لاختصارها إلى 52 د!

ما كانت معاييركم في القطع؟ هل ثمة أمثلة لما ارتأيتم مثلا عدم مناسبته للعرض؟

طبقنا نوعا من الرقابة الذاتية! كنا نطرح باستمرار السؤال حول مدى أهمية كل مشهد. مثلا، قررنا حذف بعض تعليق��ت قد يساء فهمها من نوع ” فرنسا نظيفة، كذلك المدارس”، أدهشتهم النظافة كما عدم احترام التلاميذ الفرنسيين لاساتذتهم! امتنعنا أيضا عن وضع كل ما قيل عن العائلات الفرنسية التي استضافتهم لمدة شهرين. مثلا كانت هناك عائلة من أبوين مطلقين سُلّمت مسؤولية الأطفال للأب، اطفال لاداك لم يفهموا هذا، وجدوا الأب حزينا وغير قادرا على الاعتناء جيدا بالأولاد والمنزل، كما علقوا على علاقة زوجين يتخاطبان بالكتابة لأنهما غاضبان من بعضهما! كل هذا كان مصدر استغراب صغار لاداك لكننا احترمنا الخصوصية العائلية ولم نبرز أي شيء يمسّ بها. لكننا تركنا الكثير مما يعبر عن نظرتهم للعائلة الفرنسية ومنها استغرابهم الشديد لترك العجائز يعيشون بعيدا عن أسرهم، ففي لاداك تعيش الاسرة معا الأجداد والأحفاد.

آخر أفلامكما أنت وستانزان ” تسرينغ، راعية اللاداك” الذي عرضته آرتي، مؤثر بهذه الشخصية الاستثنائية التي لا بد ينشدّ لها كل من يراها، هذه المرأة الراعية الصغيرة الحجم الوحيدة مع قطيعها ومذياعها أمام قسوة الطبيعة ووعورة الجبال، حديثنا عنها.

من فيلم " تسرينغ، راعية اللاداك"

حين التقيت بتلك المرأة انشددت لها بقوة، وجدتها بالفعل استثنائية ولديها فلسفة عميقة في الحياة. هي واحدة من آخر الرعاة في القرية، حياتها شاقة ومحفوفة بالمخاطر، إنها غالبا بمفردها مع قطيعها الذي يتجاوز الثلاثمائة دابة من خراف وماعز! لا تمنعها قسوة الحياة من الغناء والضحك بل وتجعل منها امرأة حكيمة تواجه ما يصادفها من مشاق بصبر وفلسفة. إنها شقيقة زميلي المخرج ستانزان!

عن فيلم ” تسرينغ راعية لاداك” أو ” راعية الجليد” La Bergère fes glaces » » يقول المخرج ستانزان:

“كنت راكبا في القطار السريع من باريس إلى ليون، حين جلست بجانبي ثلاث شابات جميلات بأزيائهن وزينتهن، خطرت أختي على بالي فورا وتساءلت كيف هي على هذا القدر من القوة وهي تعيش على ارتفاع 5000 م مع قطيعها الكبير…حينها، قررت عمل فيلم عنها!” 

” تسرينغ” رفضت في البداية وكان يجب اقناعها، لم تفهم ما الذي وجداه فيها مثيرا للاهتمام؟! أشفقت على صورة أخيها من تأثير مظهرها البائس على سمعته في عمله! ثم قبلت.

إنسانة رائعة وفيلم لا بد من مشاهدته .


إعلان