النزال الأخير للملاكم كريم

محمد موسى

لا تُخضِّع المخرجة الرومانية الأصل والتي تعيش في فرنسا “أنكا هيرتا” شخصياتها الى استجوابات، ولا تجلسهم في كراسي اعتراف، هي في المقابل تقضي أياماً طويلة معهم وتعيش في فضاءاتهم وتتنفس همومهم وتنشغل بهواجسهم، وتقترب منهم بحب الصديقة الوفيّة، تزعم المخرجة أن ملامح شخصياتها تتشكل في أحلامها قبل أن تلتقيهم في الواقع، وتسير أفلامها عكس السائد التسجيلي، ذلك أنها لا تعترف بالخطابات المباشرة والبنيّة التلفزيونية والحوارات الطويلة، وتبحث في لغة أجساد شخصياتها والمسكوت عنه عن مدخل لعوالم هذه الشخصيات.

المخرجة الرومانية "أنكا هيرتا"

في فيلمها الأخير “ستيل بريثينغ” (Still Breathing) والذي عُرض في الدورة الأخيرة من مهرجان الحقيقة الفرنسي، ترافق المخرجة الملاكم الفرنسي من الأصول العربية كريم لثلاث سنوات، والتي ستكون السنوات الأخيرة له في حلبات الملاكمة. تقترب المخرجة التي صورت فيلمها بنفسها بحميمة لافتة من شخصيتها الرئيسية، وقدمت في مشاهد لافتة بجمالها وجرئتها جسد الملاكم، المتوهج بالحيوية في مواقع، والحامل للآلام في مواقع آخرى، ستبرز مع تواصل زمن الفيلم هموم إنسانية عن العائلة والحب والأحلام المُتعثرة، وتتحول “الملاكمة” الى كناية عن الحياة بخيباتها وهزائمها.

في الآتي حوار مع المخرجة “أنكا هيرتا”:

أين وجدت ملاكم فيلمك؟ وهل كان يحمل الصفات التي كنت تبحثين عنها؟

كان عندي تصور دقيق للغاية للملاكم الذي كنت أريده أن يكون بطلاً في فيلمي، لقد حلمت بهذه الشخصية، وكنت أعرف أنه لن يكون ملاكماً شاباً، كما كنت اعرف أنه لن يكون ملاكم ضخم البنيان، وإنما بجسد متناسق، كنت متأكدة أني حالما أرى ذلك الملاكم سوف أعرفه مباشرة، قابلت الكثير من الملاكمين وكانوا جميعا جيدون، لكن لم يكن بينهم الملاكم الذي كنت أبحث عنه، أصدقائي كانوا يعرفون بأني أبحث عن “ملاكم”، إحدى صديقاتي التي كانت تعيش في باريس وبعدها انتقلت الى مدينة ليل، كانت في نادي للملاكمين الهواة هناك، وأخبرتني أنها رأت ملاكماً ملامحه قريبة من الملاكم الذي حَلمّت به، قصدت “ليل” لمقابلة صديقتي ورأيت “كريم”، عندها عرفت أنه الملاكم الذي كنت أبحث عنه، بسبب الطريقة التي يُلاكم بها، والأصوات التي تصدر منه أثناء الملاكمة، بعدها تحدثت معه وأخبرته أني أُريد أن أصنع فيلماً عن ملاكم، هو وافق في الحال. هذا كان في عام 2011.

الملاكم "كريم"

ولماذا أردت أن تعملي فيلماً عن الملاكمة؟

السبب لأني أكره الملاكمة، وأيضاً لأني كنت في شطر كبير من حياتي إمراة بريئة، واعتقدت دائماً أن الحياة هي هبة لنا، عندما قابلت زوجي تأكدت تماماً أن الحياة هي هبة، وعندما توفي زوجي بشكل وحشي، عرفت وقتها أن الحياة ليست سهلة دائماً، وأنها تشبه مبارة للملاكمة، عنيفة ومليئة بالصدمات، وأن الحياة يمكن أن تسدد لك ضربة قاضية، ماكنت أشعر به وقتها في حياتي الخاصة يُشبه ما يشعر به الملاكم أثناء نزالات الملاكمة.

هل تكلمت مع كريم بخصوص رؤيتك للفيلم، وما ترغبين بتحقيقه؟ ما نوع المحادثات التي أجريتها معه قبل بدء التصوير؟

عندما تقابلنا أخبرته أن أفلامي هي شاعرية قليلاً، وأني لست صانعة برامج تلفزيونية، ولن أعمل ريبورتاج تلفزيوني عنه، أخبرته أني سوف أقضي أوقاتاً طويله معه ولن أكون مُهتمة فقط بجانب الملاكمة في شخصيته، وإنما حياته بشكل عام، وكيف من المهم لي أن أعرفه جيداً وأتقرب منه، لقد جعلته يشاهد فيلمي السابق “تيودورا الخاطئ”، حتى يعرف أسلوبي في الإخراج، ثم قضيت أوقاتاً طويله معه أثناء التمرينات التي كان يجريها في النادي، وكنت قريبة من حياته العائلية.

لقد تقربنا لبعضنا كثيراً، بدأنا بعمل صور فوتغرافية، ثم ثلاثة أسابيع من التصوير، في أفلامي لا أحب الخطب وشخصياتي تشعر بأني أحبها، كما أني أصور هذه الشخصيات بطريقة جميلة، وهذا يجعلها تثق بي وتمنحني الحميمية، أقوم بتصوير أفلامي بنفسي ومعي مهندس صوت، أُركز كثيراً أثناء التصوير، وعندي تلهف كبير لقصص الشخصيات، كما أني آخذ وقتي في التصوير، عندما أصور أكون فيما يمكن تشبيه بالعالم الآخر، عالم سحري، وهذا يصل إلى شخصيات فيلمي التي تشعر بأني لا آخذ مسافة كبيرة منهم، إذ لا أدعهم يقلقون عن هوية الذي يقوم بتصويرهم، إذ أني دائماً قريبة منهم، ويشعرون بحبي لهم.

كريم مع زوجته وابنه

بدا في الفيلم أنك كنت قريبة من زوجة كريم (ميلاني)، كيف تصفين علاقتك بها، هل كنت قريبة منها بنفس القدر من زوجها؟

قضيت وقتاً أقل معها مقارنة بالذي قضيته مع كريم، وهذا كان طبيعياً لأني رافقت “كريم” في تدريباته في النادي ومبارياته، لكننا رغم ذلك كنا نحمل مقداراً كبيراً من الاحترام لبعضنا، كنساء وأمهات، أعتقد أنها أُمّ رائعة، هي شعرت بقوة بصدقي، وتأثري بقصتهم وقصتها بالتحديد، كأُمّ كانت تقضي الكثير من وقتها لوحدها مع طفلين صغيرين، هي كانت تعرف أني لم أكن هناك لأحاكم او أنتقد، بل العكس، إذ كنت أحمل الكثير من التفهم لظروفها، عندما بدأت الأشياء تسوء في حياتهم، بدأت بمكاشفتي عن غيابه المتواصل عن البيت، وتبدلات مزاجه على طول اليوم، “كريم” كان يتحدث لي عن هذه الأمور أيضاً، وأخبرته عما أراه مهماً في الحياة، وكيف يجب أن يحافظ على حياته العائلية وزوجته، في تلك المشاحنات بينه وبين زوجته كنت دائماً مع الزوجة.

يمكن قراءة الفيلم بأنه عمل تسجيلي عن نهاية الحياة الرياضية لملاكم، هل كان هذا مقصوداً منذ البداية، أم إتضح مع بداية التصوير والتقرب من كريم؟

لقد كان هذا واضحاً لي منذ البداية، وحتى قبل أن أقابل شخصية الفيلم، وهو أني كنت لا أريد ملاكماً شاباً، كنت أريد ملاكماً قريباً من نهاية مسيرته الرياضية، لقد كنت أتخيل دائماً أن هذه المسيرة سوف تنتهي بسعادة وعلى طريقة الأفلام الهوليويودية، وهذا له ما يبرره، إذ أني صورته لمدة ثلاث سنوات، وعندما قابلته للمرة الأولى كان وقتها بطلاً على فرنسا في وزنه، وكان له فرصة ليكون بطلاً على أوروبا، كنت ساذجة وقتها عندما تخيلته في بداية المشروع وهو يلعب مباريات مهمة وسيكون بطلاً على أوروبا، وسينتهي سعيداً مع أطفاله وزوجته لأنه ادخر أموالاً من الملاكمة.

هذا كان السيناريو الذي تشكل وقتها في خيالي، لكن الحياة كانت تخبأ له مفاجئات، ولم تتح له أن يلعب في مباريات البطولة الأوروبية، ثم بدأ يخسر في لعبته، وزاد ثقل مسؤولية حياته العائلية بعد ولادة طفله الثاني، كما أن عمره وقتها والذي وصل إلى 38 عاماً يُعد متقدماً في عالم الملاكمة، إذ لم يعد جسمه يتحمل الرياضة العنيفة، لم أكن أريد لفيلمي أن يكون تراجيديا، لكن الحياة هكذا.

كريم ميلاني

حول مشاهد الملاكمة، في بداية فيلمك لم تظهري الكثير من تفاصيل لعبة الملاكمة الفعليّة، ثم تدريجياً بدأنا نشاهد ملاكمة قاسية، هل لك أن تحدثينا عن تلك المشاهد، وماذا أردتي أن تحققي عبرها، وهل تأثرتي بمشاهد من أفلام هوليويودية مثلاً؟

أكره الملاكمة بشكل كبير، أعتبر أن من الغباء أن يوجه الملاكمين لكمات لبعضهم، ما يقومون به أعتبره عنفاً، ولا أفهم مشاهدي هذه المباريات من النساء والرجال الذين يحبون أن يتفرجوا على عنف ودماء أحياناً، كذلك هناك الكثير من الأفلام السينمائية عن لعبة الملاكمة يقف ورائها مخرجون رجال، وليس بينهم نساء، لأن الرجال يختلفون عن النساء، ولأنهم يروون في هذه الرياضة متعة وإثارة، وهو ما لا تراه أغلب النساء، الأمر الذي يثيرني في كل أفلامي هو الجسد، وفي هذا الفيلم، ركزت على الجسد في التدريبات وأثناء المباريات، والثمن الذي يدفعه هذا الجسد.

ما يلفت انتباهي وحتى في فيلمي السابق الذي كان موضوعه عن الرّاهبات، هو العذوبة والإثارة الموجودة في الجسد، كل مبارة داخل الحلبة في الفيلم تم معالجتها بشكل مختلف، لم أرغب في تقديم وصف لتلك المباريات، ماعدا المبارة النهائية والتي أردت تقديمها بشكل واقعي، أما المباريات الأخرى فتنقلت فيها بين المتبارين والجمهور، الذي سعيت إليه هو تقديماُ مُختلفاً لكل مبارة ملاكمة قدمت في الفيلم.

فيلمك رغم موضوعه العنيف هو شاعري كثيراً، وهذا يُعد غريباً عن عالم الأفلام التسجيلية التي يغلب عليها أسلوبية التحقيق التلفزيوني والرغبة بنقل المعلومات أو الحقائق، كيف ترين موقع الشاعرية والنفس الخاص ضمن المشهد التسجيلي السائد؟

أعشق الشعر واللوحات والموسيقى، أحب الجمال الحقيقي، هذه الأشياء ممكن أن ترفع الروح وتجعل منا بشرا أفضل مما نحن عليه، أعتقد أن الأفلام لا تختلف عن الفنون الأخرى، ما نشاهده على التلفزيون من أفلام تسجيلية، ليست هي النوع الذي أرغب في تحقيقه، هي تعتبر وثائقيات، فيما أحاول أن أصنع أفلاماً بالمعني الفنيّ للكلمة، أفلام بدون ممثلين أو ممثلات بل بأناس حقيقيين.

مشهد من فيلم "دير الراهبات"

أنت من رومانيا وتعيشين منذ سنوات عديدة في فرنسا، فيلمك السابق حول دور للراهبات في رومانيا، وفيلمك هذا عن ملاكم فرنسي من أصول عربية، كيف تختارتين موضوعات أفلامك، ذكرتي في موضع سابق من هذا الحوار أنك حلمت ببطل فيلمك الأخير، هل هذا يعني أن اختياراتك هي نفسيّة وحسيّة في المقام الأول؟

أعمل دائماً على مشاريع أكون شغوفة بها، فيلمي الروماني “تيودورا الخاطئ” أعتبره فصلاً من محاولاتي التعامل مع موت زوجي، وفيلم “ستيل بريثينغ” هو فصل آخر، الراهبات وعندما يدخلن الدير فإنهن يعقدن إتفاقاً مع الرب والكنيسة يشبه الزواج، هن نساء بأجساد ومشاعر يتزوجن شيئاً روحياً بدون جسد، الفكرة الأساسية من فيلمي ذاك هو كيف يمكن أن تعيش قصة حب مع رجل بدون جسد.

في “ستيل بريثينغ”، هناك رجل بجسد وروح تعاني الكثير من الألم، أفلامي كلها شخصية، كما أخبرتك لقد حلمت بملاكمي، وحلمت أيضاً بدور الراهبات الذي عملت عن نزيلاته في فيلمي السابق، في فيلم الراهبات كان الدير مصبوغاً بالأبيض، فيما ملابس الراهبات كانت بالأسود، وهذا ما حلمت به أيضاً، أحياناً تأخذ عمليات إيجاد الموضوعات وقتاً طويلاً لكني أؤمن بحدسي، وبأني سوف أصل الى الموضوع الذي يشدني إليه روحياً.


إعلان