انهيار سائق تاكسي

 
محمد موسى 
 
صادِم في جرأته، ومُتمرد على المحافظة الأسلوبية والأخلاقية الشائعة في سينما بلده، وإشكاليّ كثيراً في تناوله “الجنس” كأحد أسباب العنف المكبوت في المجتمع والذي ينفجر أحياناً في الفضاء العام. هكذا يمكن توصيف فيلم “أوتوهيد” (Autohead)، أول أعمال المخرج الهندي روهيت ميتال الطويلة، والذي يوظف فئة “mockumentary” السينمائية (السينما التسجيلية المزيفة) في سرده القوي لانهيار “نارايان”، سائق تاكسي في مدينة مومباي الهندية. ينسج المخرج بقسوة كبيرة الأزمة الوجودية لبطله، الآتي من الريف والذي لم يجد له مكاناً في المدينة العملاقة الصعبة. كما لا يخشى الفيلم التقرب من قضية الحرمان الجنسي، والذي يَتَمَكن من البطل، وسيقوده مع أزمات أخرى إلى تلك النهاية المأسأوية.
شَبهت مجلة سينمائية أمريكية بطل فيلم “أوتوهيد” بسائق تاكسي المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي، فهو مثل الشخصية التي لعبها روبرت دي نيرو في الفيلم الشهير ذاك: بطلاً ضائعاً، فيما تمثل سيارة التاكسي التي يركبها ويلف بها ليل المدينة كناية عن اغتراب نفسي ينهش الروح. يختار المخرج المقاربة التسجيلية المزيفة كبناء لفيلمه، مُستفيداً من البناء التسجيلي وآنيته وإلحاحه، ومن الجانب الآخر يعتمد على قوة الأداء للممثلين والممثلات الذين يلعبون الأدوار الرئيسية، ليشيد الكابوس الخانق حول بطله.
 
عن الفيلم، هذا لقاء مع المخرج الهندي روهيت ميتال: 
 
هناك مجموعة من الأفلام التي تندرج تحت فئة “السينما التسجيلية المزيفة”، أعتقد أن لكل من مخرجي تلك الأفلام مبرراته لاختيار هذه الفئة بالتحديد، ما هي أسبابك؟
 
كانت هناك أسباب عديدة لهذا الخيار، واحد منها أن “السينما التسجيلية المزيفة” هي فئة جذابة كثيراً. بناء هذه السينما هو أمر مُغْرٍ للغاية، لأنها تطرح أسئلة على مشاهديها وتستكشف في الآن نفسه قضايا ومواضيع. ليس فقط الجزء الخاص بالسينما التسجيلية في هذه الفئة هو من يقوم بذلك، وأيضاً الجانب المتخيل منها. وجمعهما معا أراه أمراً مثيراً. هذا النوع من السينما يجعل الأشياء أكثر واقعية أو حقيقية، وفي نفس الوقت هناك سخرية مُبطنة في الفيلم، تسخر من أشياء عديدة منها قواعد العمل السينمائي نفسها. 
 
أحد الأسباب المهمة بل الرئيسية التي جعلتني أختار هذه الفئة، لأني رغبت أن أسائل نوايا المخرجين التسجيليين المهمومين بالقضايا الاجتماعية، والذين يقدمون الفقر في أفلامهم. أردت أن أسائل وأنتقد وأسخر من هذا الأسلوب من الصناعة السينمائية.كما تنطوي أفلام السينما التسجيلية المزيفة على وعي بالذات، أي عندما تبدأ الشخصيات في الفيلم بالحديث للكاميرا مباشرة. ما يحدث في هذا النوع من الأفلام أن المشاهد يبدأ في التساؤل عن أسباب وجود الكاميرا وهذا يختلف عن السينما الروائية، التي نسلم عند مشاهدتها بأنها وجهة نظر لشخص ثالث غير موجود، أما وجود الكاميرا في فئة “السينما التسجيلية المزيفة” فيستدعي أسئلة ويجعل التجربة كلها أكثر حيوية وتفاعلية.
 
قرأت أن فيلمك هو الأول من فئة “السينما التسجيلية المزيفة” في الهند
 
أعتقد أنه الأول الطويل في هذه الفئة. لست متأكداً في الحقيقة لكني لم أسمع بغيره أو أشاهد فيلماً آخر ضمن هذه الفئة.
 
 
يبدو فيلمك مزيجاً بين أفلام الرعب وبين تلك التي تنوء تحت ثقل الأسئلة الاجتماعية المعاصرة. لنتحدث أولاً عن جانب الرعب في الفيلم، هل تأثرت بأفلام الرعب التي تقوم على إيجاد أفلام فيديو منزلية تركها الأبطال بعد موتهم أو اختفائهم ..؟
 
بصدق كبير، لست من المعجبين كثيراً بأفلام الرعب التي ذكرتها. لكني أحب عناصر من أفلام الرعب والتي وظفتها في فيلمي لأنها انسجمت مع القصة والشخصيات. في المقابل، أنا معجب بأفلام من فئة السينما التسجيلية المزيفة مثل: “رجل يعض كلباً”، وغيرها. لكن مراجعي الفنيّة لم تكن من أي من الفئتين السابقتين، فأنا متأثر كثيراً بالفرنسي جان لوك غودار، والدنماركي لاريس فون تيرز. مثلاً في فيلم “الأبله” لـ “لارس فون ترير” ، نشاهد كمتفرجين الكاميرا وأحياناً الميكرفون الخاص بالفريق الفنيّ رغم أن الفيلم روائي بالكامل. في هذه الأفلام تشعر بحضور صانعي الأفلام أنفسهم. في أفلام غودار نسمع أحياناً صوت المخرج من خلف الكاميرا وهو يصرخ بممثليه. هذه التفاصيل بقيت معي. أما بالنسبة للرعب في الفيلم، فهو بالنسبة لي كان نتيجة دراسة نفسية للشخصية. وما واجهته شخصياً أثناء بحثي في قصة الشخصية التي قدمتها.
 
الفيلم يسجل الانهيار الطويل المفجع للبطل. في البدء لا نعرف الأسباب التي قادت لهذا الانهيار، بعدها نبدأ نتعرف على أزمة الشخصية، وكيف أن العوامل الاجتماعية المحيطة أثرت ووفرت الظروف لهذا السقوط، ومنها أنه لم يجد له مكانا في المدينة التي هاجر إليها من الريف. هل كنت مشغولاً في هذا الجانب الاجتماعي والصراع بين الطبقات في الهند أثناء كتابة الفيلم ؟
 
كانت نيتي أن أصنع فيلماً عن هذا الشاب الفقير، والذي يعتبر كمحصلة للمحيط العام الذي نعيش فيه. مشاكل الشخصية لا أعتبرها مشاكل طبقية، وإنما هي مشاكل الجميع هنا. عائلتي تركت قريتها قبل خمسين عاماً وانتقلت إلى المدينة، لكنها لم تكن وقتها تصنف تحت الفئة الصغيرة المهمشة. فيلمي هو عن شخصية فردية وفهمها للحياة والعالم، وعن مخاوفها وإحباطاتها وعلاقتها بالمدينة العملاقة التي تعيش فيها. فيلمي يدور حول هذه الأسئلة وأكثر من كونه عن طبقات اجتماعية والفروق بينها.
 
قاربت بجرأة قضية الكبت الجنسي في الهند على نحو لم نعهده من السينما الهندية، هل هذا ياتي كرد فعل على ازدواجية المعايير من موضوع الجنس في المجتمع الهندي ؟
 
نعم بالتاكيد. نحن نعيش في مجتمع مكبوت جنسياً، ومتناقض مع نفسه، فنحن نعتبر بلد  الـ “كاماسوترا” (نصائح مبتكرة تخص الجنس) لكن الجنس مازال أمراً مخفياً من الحياة العامة. لا أحد يتحدث عن الجنس على وسائل الإعلام أو في الأفلام. الناس هنا لا يتقبلون فكرة الجنس قبل الزواج. لكن عندما تخدش السطح تكتشف الكثير من الأشياء السيئة التي تحدث هنا. نساء يتم اغتصابهن وغيره. الفيلم هو أيضاً انعكاس للقيم الجنسية الحديثة المتناقضة التي نعيشها، فالإعلانات ومواقع التواصل الاجتماعي تبيع الجنس أو فكرة الجنس. ونسمع عن المشاكل الجنسية المترتبة على مشاهدة الأفلام الإباحية على الإنترنت. 
 
كانت مشاهد الأُمّ مع إبنها وشجارهما المتواصل صعبة على المشاهدة ومؤلمة كثيراً، كيف كتبت هذه المشاهد وهل لها مرجعيات خاصة ؟
 
هناك جانب من هذه المشاهد مستوحاة من تجاربي الخاصة مع عائلتي. أعتقد أن الهنود هم أكثر صخبا في تعبيرهم عن مشاعرهم من شعوب أخرى. عندما نتشاجر فإننا نتشاجر بقوة ونقترف أشياءً مجنونة أحياناً. وهذا ما أردت أن أعكسه في تلك المشاهد. وفي نفس الوقت أردت أن أشرح المأزق الذي تعيش فيه الشخصية. فعائلته مثل غيرها تتوقع أن يعتني بها بعد أن تكون عاجزة عن الاعتناء بنفسها. وعندما لا يحدث هذا، فخيبة الوالدين تكون كبيرة جداً. أردت أيضاً أن أبرز في تلك المشاهد كيف يحاول الوالدان التحكم بحياة أولادهم وعلى كل الأصعدة، فيحددون الزوجات أو الأزواج للأبناء والعمل والدراسة وكل شيء. في الهند الوالدان لا يتوقفون عن إصدار الأوامر للأبناء، حتى عندما يبلغ الأبناء الثلاثين أو الأربعين من العمر يواصلون تلقي الأوامر من والديهم. 
 
 
هل تعتقد أنه من الممكن تقديم نفس قصة فيلمك في إطار السينما الهندية الموجودة ؟
 
لست متأكداً في الحقيقة. لا أفكر أبداً بهذه المصطلحات، بوليويود مثلاً لا أحبها أبداً، وهي بعيدة تماماً ببنيتها وأسالبيها بتقديم قصصها عن مفاهيمي للسينما. أفلام بوليويود هي فئة سينمائية بذاتها، وهذه الفئة لا أحبها (يضحك). 
 
كيف سار العمل مع الممثلين والممثلات، هل شرحت لهم تركيبة الفيلم المُعقدة، هل هم ممثلون محترفون أم هواة ؟
 
جل الذين عملوا في الفيلم من الممثلين المحترفين، مثلوا في أفلام بعضها لبوليويود. أما الممثل “ديباك سامبات” الذي لعب شخصية “نارايان”، فهذا فيلمه الطويل الأول. هو مدرس تمثيل أيضاً. الممثلة “يهنافي دويفيدي” التي لعبت الأُمّ هي الوحيدة التي لم تمثل من قبل ولم تكن تملك أيّ تجارب في التمثيل على الإطلاق. لكن ما إن فاتحناها بالمشروع حتى تحمست كثيراً ورغبت بتمثيل الدور .
 
سأخبرك كيف سارت الأمور… في البدء حصلنا على موافقة “سامبات”، والذي بدأ قبل التصوير بأشهر بتعلم قيادة سيارة التاكسي الخاصة في شوارع مدينة مومباي. بعدها بدأت بالتحضيرات مع الممثلة التي لعبت دور الأُمّ والممثلين الآخرين في الفيلم. وعلى رغم أن “سامبات” فاز بجائزة عن دوره في الفيلم، الا أن “دويفيدي” هي بالنسبة لي الممثلة الأهم في الفيلم لأنها كانت بدون خبرة تمثيلية على الإطلاق. كنت أطلب منها أحياناً أن تنظر إلى الكاميرا، كانت تقوم بذلك بدون جدال على عكس الممثلين المحترفين، لكنها وهي تفعل ذلك لا تتخلى عن الشخصية التي تقوم بها. 
 
صورت في مدينة بومباي المزدحمة، ماهي الصعوبات التي واجهتموها أثناء العمل على الفيلم ؟
 
أعرف المدينة جيداً، جغرافيتها وإيقاع الحياة فيها، لذلك أعرف أين أجد مناطق أقل ازدحماً. صورنا على أطراف بومباي. وحتى عندما كنا نذهب إلى مناطق مزدحمة كنا نخبئ الكاميرا حتى لا يلاحظها الناس هناك، وكنا نعمل بفريق فني صغير مقارنة عندما كنا نصور على الأطراف. أحياناً كانت الشرطة تطلب منا أن نوقف التصوير، عندها كنا نكذب عليهم ونقول إننا ندرس السينما وما نقوم به هو جزء من مشروع تخرجنا. لقد كنا نحضر جيداً لكل يوم تصوير ونحسب للأشياء غير المتوقعة. كنا نضع الممثل “سامبات” وسط مكان مزدحم وننتظر ردود أفعال الناس من حوله، ونصور هذا بكاميرات من مسافات بعيدة.
 
لم يعرض الفيلم في الهند بعد، كيف تتوقع رد فعل الجمهور الهندي عليه ؟
 
نحن ننتظر أن نطلق الفيلم في الصالات السينمائية التجارية في الهند. نأمل أن نوفق في ذلك قبل نهاية هذا العام. وقبل ذلك نخطط أن نعرض الفيلم في مهرجانين سينمائيين هنديين. أتمنى أن يفهم الجمهور الكوميديا والسخرية في الفيلم. متلهف لما سيحصل، لأني أعتقد أن الجمهور في الهند لم يشاهد من قبل فيلماً مثل “أوتوهيد”. وأعني هنا بنفس التركيبة التسجيلة المزيفة، والشخصيات عندما تتحدث مباشرة إلى الكاميرا. 

إعلان