ثورة في مصنع يوناني
محمد موسى
بعد أن أُقفل مصنعهم لإنتاج مواد التنظيف بسبب الإفلاس إبان الأزمة الاقتصادية في اليونان، قرر لفيف من عمال المصنع ذاك التمرُّد على الوضع القاتم السائد، واحتلال مكان عملهم، والبدء بدون موارد، ورغم معارضة صاحبة المصنع والسلطات اليونانية، بتشغيل جزئي للمصنع. حظيت القصة باهتمام إعلامي كبير، وتم تأوليها كإحدى بوادر ثورة شعبية قادمة ضد جشع قوى رأس المال وأخطائها الكبيرة. سجل الفيلم التسجيلي “المحطة القادمة: يوتوبيا” للمخرج اليوناني “أبوستولوس كراكسيس” يوميات العمال اليونانيين أثناء تلك الأزمة، ورافقهم لأكثر من ثلاثة أعوام وهم يحاولون تجاوز عقبة القوانين ليحققوا إنجازاً، كان سيكون فريداً من نوعه في القارة الأوروبية.
إلى جانب العمال المنتفضين، يخصص الفيلم وقتاً لصاحبة المعمل، المرأة التي فقدت كل ثروتها بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، وكان يحوم حول حياتها شبح الإفلاس ومحاكمة قانونية. يلتقط الفيلم المناخ الذي كان سائداً في المصنع بعد أن تسلم إداراته عماله، ويوجِّه عدسته على مسيرتهم التي لاتزال متواصلة، كما يكشف عن التطورات الشخصية التي طرأت على رؤاهم، ونظرتهم للعالم، وحلمهم البسيط في الاحتفاظ بوظائفهم، في ظل أزمة اقتصادية قاسية حلت على بلدهم، وهزت الكيان الأوروبي نفسه.
يُعَّد المخرج “أبوستولوس كراكسيس” من الأسماء البارزة في المشهد التسجيلي في اليونان، أخرج أفلاماًعديدة وبرامج تسجيلية للتلفزيون اليوناني، ويُدرِّس السينما في إحدى الجامعات هناك. يوظف المخرج في فيلمه هذا أسلوب الأفلام التسجيلية التي تراقب وتسجل في بنية درامية. ينطلق الفيلم على مهل ويصل إلى ذروته مع التصادمات التي حدثت بين العمال أنفسهم ومن بعدها يتجه صوب النهاية التي مازالت معلقة.

وفي الآتي حوار مع المخرج أبوستولوس كراكسيس عن فيلم”المحطة القادمة: يوتوبيا”..
كيف سمعت بقصة العمال الثائرين ومتى قررت أن تصنع فيلماً عن قضيتهم ؟
حدث الأمر بالصدفة أثناء تنظيفي للكمبيوتر الخاص بيوالذي كان يحتوي على أعمال تسجيلية لطلابي في مدرسة السينما ومنها مقابلة لأحدهم مع الشخصية الرئيسية في الفيلم، والذي كان مسؤول الاتحاد الخاص بالعمال في المصنع. كان ذلك في بدايات عام 2013، وكان المصنع قد توقف وقتها عن العمل، والعمال كانوا يستعدون للمعركة. هذا الأمر أثارني للغاية. لم أكن أتوقع أن أمراً مثل هذا يحدث في بلادي.
وبعدها، وعندما قمت بالبحث في الموضوع، اكتشفت أن الأمر نفسه حدث في الأرجنتين في عام 2011، ما أثارني وأردت بحثه هو معرفة هذه الشخصيات وكيف وصلوا إلى هذه النقطة في حياتهم. وكيف حدث أن عمالاً يونانيين قرروا فجاة أن يرفعوا علم الثورة. هذا حدث في وقت غاب فيه الأمان عن حياتنا وبعد الانهيار الاقتصادي لليونان، وهي الظروف التي ماتزال تخيم علينا جميعا. في ذلك الوقت بدأت أفكر ماذا سيحدث لي إذا فقدت عملي ؟ لذلك جذبتني القصة كثيراً. وأردت أن أصورهم وأتبع مغامرتهم وأسجل التغييرات الذاتية التي حدثت لهم، من عمال عاديين إلى شخصيات مُتمردة.
وهل وافق العمال مباشرة أن تكون حاضراً بكاميراتك بينهم مسجلاً أوقاتهم العصيبة ؟
كانوا في البدء مترددين وخائفين من تصويريمثلاً لنشاطات غير شرعية تحدث في المعمل. عندها عقدنا اتفاقا بأني سوف أصورهم وبعد الانتهاء من الفيلم سوف أعرضه عليهم، واذا وافقوا عليه عندها يمكن أن أعرض الفيلم للجمهور الواسع. هذا كان بالحقيقة جنوناً لأنه يسير ضد مبادئي في عمل الأفلام التسجيلية. كما أني كنت أخشى وبسبب رغبتي بإرضائهم أن يكون فيلمي ما يشبه الدعاية لنشاطهم وأداة في إضرابهم. لكني شعرت أيضاً وقتها أن عرضي هذا سيكون عادلاً وخاصة أنهم كانوا في موقف ضعيف.
كنت خائفاً أيضاً من ألا تعجبهم مقاربتي لقصتهم والتي تقوم على رصد ومتابعة القضية من ثلاثة اتجاهات: الأول عنهم هم عمال المصنع، الذين ألهمتم الأزمة الاقتصادية لبدء هذه المغامرة غير المحسوبة. إلى جانب العمال المنتفضين كان هناك أيضاً شخصيات مُهمةلي، وهم العمال الذين لم يشاركوا في الإضراب، المحافظون في طبعهم والذين لم يشعروا بالانتماء للحركة الثورية اليسارية الاتجاه. والاتجاه الثالث كان يهتم بصاحبة المصنع نفسها، المرأة التي كانت ضحية للأزمة الاقتصادية وخسرت بسببها كل شيء. هذه الشخصيات الثلاث والتي تتنازع فيما بينها في المحاكم اليونانية اليوم عكست وحسب وجهة نظري المجتمع الواسع من حولها . كما كان عليّ أن أنجز فيلماً يحصل على رضاهم جميعا وعدم إهانتهم، رغم أنهم يكرهون بعضهم إلى حدود كبيرة، وفي الوقت ذاته عمل الفيلم الذي أحقق فيه أهدافي كمخرج ويعكس وجهة نظري في القصة. الشيء الصعب دائماً في الأفلام التسجيلية هو الحصول على منفذ إلى القصص الشخصيات والظفر بثقتها. كنت محظوظاً كثيراً أن هذه الشخصيات أحبت الفيلم ووافقت على ما جاء فيه.
عندما كنت تصور الفيلم، هل كنت تملك تصوراً عن البناء الذي سيكون عليه، أو الفترة التي تخطط أن تقضيها مع الشخصيات؟
كنت أتوقع حلاً نهائياً لقضيتهم في غضون عام واحد أو ربما أقل، لكن الواقع خالف هذه التوقعات، إذ إنهم مشغولون في حركتهم منذ ثلاثة أعوام ونصف ومازالوا منهمكين بها. هم الآن فيما يشبه الدائرة المغلقة التي لا تؤدي إلى شيء. من الجانب الآخر لم أكن مشغولاً بنتائج إضرابهم وحركتهم المتمردة بقدر اهتمامي بتسجيل التغييرات التي مرت بها الشخصيات. إذ أنهم بدأوا بأفكار رومانسية كثيراً مثل نبذ الأنا الخاصة والدفاع سوياً عن هدف واحد. هذا التغيير في الشخصيات هو ما أثارني في القصة. تبعت هذا المسار وعندما وصل إلى نهايته، كان يجب على الفيلم أن يتوقف.
وماذا عن المشاهد التي ظهرت فيها صاحبة المصنع، والتي كانت كاشفة كثيراً وتميزت بصدقها الكبير، هل كان صعباً الحصول على ثقتها؟
لم تكن السيدة صعبة أو قاسية مثلما كنت أتوقع. كنت خائفاً كثيراً من مفاتحتها. وعندما أخبرتها عن خطتي للفيلم وما أنوي عمله وافقت لأنها اقتنعت بالفكرة، هي شخصية صريحة وواضحة كثيراً وتحب هذه الصفات في الآخرين. الأمر الذي ساعد أيضاً أني أعمل أستاذاً في الجامعة وأنتمي إلى طبقة برجوازية صغيرة في اليونان، وهي أيضاً تنتمي إلى نفس الطبقة، وإن كانت طبقتها الاجتماعية تختلف كثيراً عن مجتمعي. وجدنا بعد لقائنا أن هناك ما يجمعنا، وأن هناك بعض الأشخاص المشتركين الذين نعرفهم.
قضيت أوقاتاً طويلة مع العمال في المصنع، كيف تصف الأجواء وقتها، هل كان العمال يظنون أن مبادرتهم سيكتب لها النجاح وأنها ستقودهم إلى جهة ما؟
نعم بالتاكيد. كانوا جميعا متحمسين كثيراً في مرحلة ما. بعضهم سيطرت عليه الأفكار غير المنطقية والأوهام في مرحلة لاحقة. كانوا جميعا يمرون في تغييرات متواصلة في مزاجاتهم. لكن قادة الحركة العمالية، كانوا مصممين للغاية، ويعتقدون وإلى حدود الجنون بأنهم سيصلون إلى هدفهم. كانوا يشبهون شخصية “ديون كيشوت” بصراعهم مع قوى جبارة مهمينة على حياتنا. حتى أن إصرارهم أعجب صاحبة المصنع نفسها، التي عندما شاهدت الفيلم ذكرت لي بأن إصرارهم سيجعلهم ينجحون في إدارة المصنع لوحدهم، هذا رغم عداوتها لهم وتنازعها معهم في المحاكم. لقد رأت بحسّها كسيدة أعمال هذه الصفات فيهم.
كنت تتردد عليهم كثيراً، هل تجمعت لديك في النهاية ساعات طويلة من المواد الفيلمية الخام ؟
كنت أذهب تقريباً كل يومين لهم. كنا نصور غالباً باسلوب المراقبة التسجيلية. في النهاية وجدنا أنفسنا مع مئات الساعات من المواد المصورة، ربما 300 ساعة. هناك الكثير من المشاهد الجميلة حقا قررت عدم استخدامها في النسخة النهائية من الفيلم. عندما تعمل فيلماً يقوم على المراقبة لشخصيات، عليك في غرفة المونتاج أن تركب أحياناً الواقع في المزاج العام لدراما الفيلم. عملت في هذا الفيلم مع سيناريست أفلام روائية لكتابة هذا الفيلم التسجيلي. كنا نناقش الفيلم كحكاية وكيف يمكن توظيف مشاهد من الواقع في البناء الدرامي للفيلم. أحياناً عليك التلاعب في الواقع من أجل أن تروي قصتك بطريقة مثيرة. كأن تضع مشهداً صوّر تفصيلاً ما وقع قبل أسبوع في غير موقعه حسب التسلسل الزمني للأحداث. عمليات المونتاج أخذت منها ما يقارب العام ونصف.
أصابني التشاؤم في نهاية فيلمك. رغم أني كنت أعرف منذ البداية أن مبادرة مثل التي قام بها العمال لن يكون لها مكان في عالمنا اليوم. كيف ترى ما حدث وأنت الذي كنت قريباً منهم لسنوات ؟
الفيلم يشبه النص المفتوح، والمتفرج يقرأ ما يشاء فيه. لكن من المثير ما أسمعه منك، لأن هناك آخرين خرجوا بعد مشاهدة الفيلم بمشاعر مغايرة متفائلة. وذكروا بحماس بأني أظهرت كيف يمكن للديمقراطية أن تزدهر. لم أرغب أن أنهي الفيلم بخلاصة سلبية أو إيجابية لأني كنت أحمل مشاعر متضاربة عما حدث. فمن جهة هناك كل هذه المشاكل العميقة التي واجهت العمال، ومن الجهة الأخرى أليس من الرائع أن الناس مازالت قادرة على الانتفاض وتقاتل من أجل حقوقها. قصة العمال لم تنته مع نهاية الفيلم، فهم اليوم في نفس موقعهم الذي كانوا عليه عندما بدأنا تصويرهم. كما أن من الممكن، ومع إصرار العمال أن يرغموا الحكومة اليونانية على عقد اتفاق معهم، أو تجد السلطات طريقة لإعطائهم المصنع. ما قام به العمال هو معجزة في هذه الظروف، وعلينا أن نتابع ما يحصل لهم في المستقبل.
هل تخطط تتبع حياة شخصيات فيلمك، أم أن رحلتك معهم انتهت بهذا الفيلم ؟
قضيت ثلاث سنوات من حياتي مع شخصيات الفيلم، تقربت لهم وصرنا أصدقاءً، وتحولت أحياناً إلى فرد من عائلاتهم. لكن عليّ الآن أن أنتقل إلى محطة جديدة في حياتي. لا أريد البقاء لسنوات أخرى مع هذه الشخصيات رغم أني أحبهم وأراهم بين الحين والآخر.
قصة العمال حظيت باهتمام كبير من الإعلام الدولي واليوناني، مالذي يمكن أن يميز السينما التسجيلية بالتحديد عما تعرضه التلفزيونات من تغطيات بعضها مفصل وواسع ؟
لم يهتم الإعلام اليوناني بالحكاية في البداية، ولفتت انتباهه عندما شاهد أن هناك اهتماما بها من الإعلام الأوروبي والدولي. انقسمت التغطيات للقصة على نوعين: النوع المبسط الخفيف، والذي يمكن اختصاره بأن يحضر فريق الأخبار في قناة معينة للمصنع ويصور العمال ليوم واحد وبعدها يقدم قصته في برنامج تلفزيوني. وهناك تغطيات الإعلام البديل الموسعة والمعمقة والذي كان متحمسا كثيراً لفكرة الثورة التي يقوم عليها إضراب العمال، وكان هذا الإعلام يعكس في الواقع منهجه وحقيقته الخاصة. ما رغبت في تحقيقه هو تقديم شيء ما يقع بين هذين النوعين من التغطيات. بالطبع كل له الحق في تقديم ما يشاء، لكن العيش هناك لأشهر طويلة يجعلك تلتقط تفاصيل صغيرة. فالإضراب ليس قصة بطولة أو علامة على يأس. هو أمر به الكثير من التعقيد.