كوميديا سوداء من خلف القضبان!
محمد موسى
وجد “أحمد”، بطل فيلم “إنشا الله استفدت” للمخرج الفلسطيني الأردني محمود المسّاد، في السجن الذي دخله، المكان الآمن الذي يحميه ويُبقيه بعيداً عن قسوة الحياة في المدينة الواسعة التي يعيش فيها، وهو الذي انتهى به الحال هناك بعد أن هزمته شروط الواقع الصعبة، ولم يعد قادراً على توفير المتطلبات الأساسية لنفسه ولعائلته. استلهم المخرج قصة فيلمه من أحداث فعليّة وقعت لأحد أصدقائه، وأضاف إليها تفاصيل قاتمة عن الحياة في مدينة عربية لم يصل إليها “الربيع العربي”، لكنها تعاني مثل غيرها من المدن العربية المجاورة من مشاكل مستفحلة، أكثرها إلحاحاً هي الوضع الإقتصادي الشديد الصعوبة والذي يكاد يفقد السواد الأعظم من الناس صوابهم.

في أول أفلامه الروائية الطويلة يقدم صاحب “هذه صورتي عندما كنت ميتاً”، كوميديا حنونة عن شخصيات وزمن يسهل التعرف عليهما. تدور معظم أحداث الفيلم في السجن، ويتحول هذا الأخير الى بوتقة تجمع شخصيات آتية من طبقات اجتماعية مختلفة، كل واحدة منها تحمل تجاربها وتاريخها الخاصين. في حين سيراقب “أحمد” ما يحصل من حوله، وسيبقي على أخلاقه وبياض قلبه في السجن. يصوغ المخرج كوميديا بعضها يفجر الضحكات العالية، وبعضها الآخر سيكون السطح لقضايا موجعة، ليتأكد مرة أخرى أن الكوميديا الجيدة هي دائماً قريبة من الألم الإنساني.
عُرض الفيلم للمرة الأولى عالمياً في الدورة الأخيرة لمهرجان تورنتو السينمائي في شهر سبتمبر الماضي، وبعدها في مهرجان دبي السينمائي، ومن غير المعروف إذا كان سيصل إلى العرض التجاري في الصالات في الأردن أو في دول عربية أخرى.
وفي الآتي حوار مع المخرج محمود المسّاد حول فيلمه الأخير.

كيف بدأ هذا المشروع ومتى بدأت التحضيرات له؟
الفكرة بدأت بعد أن روى صديق لي دخل السجن عن تجربته هناك. بل يُمكن القول أن سبعين بالمائة مما جاء في الفيلم يستند إلى أحداث واقعية. الصديق ذاك كان مثل شخصية الفيلم متعهد بناء، وجد نفسه بسبب ملابسات وظروف معينة يقضي عقوبة سجن في الأردن. عندما سمعت القصة منه استغربت وحزنت بالطبع على ما مرَّ به، رغم أنه نفسه كان راضياً عن بعض جوانب تجربة السجن، حتى أنه كان يَخفض صوته عندما يتحدث لي عن أيام السجن لكي لا تسمع زوجته التي كانت قريبة منا بأنه كان سعيداً هناك.
عندما عُدت إلى الأردن قبل ثلاثة أعوام وبعد سنوات عديدة من الإقامة في هولندا كنت أحمل خططاً لإنجاز أفلاماً سينمائية تتناول ما يجري في المنطقة والأردن والتغييرات السريعة التي تحدث هناك، كذلك كنت أريد نقل الإحباط الذي يحمله الناس هناك، الإحباط العميق الذي أستطيع التعرف عليه بسهولة، إذ أني مررت به وعرفته قبل عشرين عاماً وقبل هجرتي من البلد. رغم أن أيامي تلك كانت أفضل بكثير من الزمن الحالي.
كان هميِّ في هذا الفيلم أن أقدم الحياة العربية وهمومها، فبعد أعمالي التسجيلية السابقة والتي قدمت هي الأخرى قضايا من المنطقة لكن من وجهة نظر عربية وليس أجنبية كما هو الشائع في التغطيات الإعلامية. سعيت في هذا الفيلم إلى تحقيق بساطة مطلقة في السرد وهو أمراً لم يكن هيناً أبداً، إذ كان عليِّ الموازنة بين تجنب الوقوع في الإسفاف والإبتعاد عن العقد السينمائية الفنيّة المعقدة. كنت أريد أن أقدم فيلماً يسهل فهمه من قبل المشاهد العربي، والذي أسهمت القنوات العربية التي أغرقته بالتفاهات في تحديد وتشكيل ذائقته.

قمت في فيلمك هذا بانتقاله كبيرة على صعيد النوع السينمائي، من الأفلام التسجيلية التي بدأت بها حياتك المهنية إلى كوميديا سوداء، لماذا أخترت هذه المقاربة؟
هناك سببان لاختيار الكوميديا لهذا الفيلم، الأول أني رغبت بتقديم شيء يُخالف الدراما السوداوية المُهيمنة على الأفلام العربية الفنيّة، والسبب الآخر التفكير بالمشاهد العربي نفسه الذي يعيش بشكل يوميّ مع الكآبة التي يجدها في كل شيء، ويحتاج أحياناً في السينما التي يشاهدها إلى بعض الكوميديا والضحكات. كنت أفكر وأنا أعد لهذا الفيلم بالكوميديا المصرية وكيف يمكنني تقديم كوميديا لها روح أردنية خاصة. نحن في الأردن نملك كوميديا لكنها جافة وقاسية أحياناً.
الشيء المميز بالأردن كما في بلاد عربية اخرى هو الحميمية بين الناس، فأنت عندما تذهب وتشتري غرضا ما من محل تتبادل بالعادة أطراف الحديث مع الناس هناك. وفي نفس الوقت هناك تفاصيل في الحياة تضحك من شدة لقسوتها، أو كما يقول المثل العربي “شر البليَّة ما يضحك”. هكذا تسير الحياة هنا في هذا الجزء من العالم، حيث يعيش الناس بين الأفراح والأحزان والمصائب. حاولت في هذا الفيلم أن أنقل الحياة بتناقضاتها، والتي تتأرجح دائماً بين الفرح والحزن. وأتمنى أن تجد الناس فيه الفرصة لكي تضحك قليلاً على معاناتها اليومية، كما أتمنى أن يُعين الفيلم على النقد الذاتي.
لم أعمل هذا الفيلم للجمهور الغربي، لكي أبين له بأننا قادرون على إنتاج الكوميديا، حتى أننا واجهنا مشكلة كبيرة مع ترجمة الفيلم لغرض عرضه في المهرجانات العالمية، إذ كان من الصعب ترجمة بعض التفاصيل المحلية الخاصة إلى لغة أجنبية. حتى عنوان الفيلم عند ترجمته إلى اللغة الإنكليزية يبدو وكأنه يتحدث عن موضوع له علاقة بالمصارف او المعاملات المالية أو ماشابه، على خلاف الإسم العربي الذي له مرجعية ورونق خاصين.
هل كتبت الفيلم لوحدك، أم استعنت بكتاب من الأردن أو من خارجها؟
ساعدني أصدقاء في النصيحة وإبداء الرأي، منهم المخرج المقيم في هولندا بسام شخيص، والناقد السينمائي اللبناني محمد رضا، والذي أرسلت له السيناريو وأبدى ملاحظات قيمة عليه. استفدت كثيراً من ملاحظات الزملاء، فأحياناً ككاتب تكون متعصباً لما تكتب، ويكون من المهم أن تستمع إلى آراء آخريين، وأن تسمح لعين غريبة بأن تعاين ما قمت به. السيناريو أخذ جائزة مهرجان أبو ظبي ومن بين 160 سيناريو، كذلك حصل على جائزة “آرته” و “غلوب”. كانت رغبتي لهذا الفيلم أن يكون تمويله محلي خالص، لكن للأسف هذا لم يحصل، ولذلك كان عليّ أن أتوجه إلى مصادر أجنبية.

الفيلم يطفح بالكوميديا، حينا كوميديا المواقف وأحياناً أخرى عن طريق الحوارات التي تتبادلها الشخصيات مع بعضها، هل أنت شخص كوميدي بطبعك؟
نعم، رغم كل الظروف الصعبة من حولنا إلاّ أني أُحب المزح والضحك. عندما شاهد الذين يعرفوني أفلامي الجديّة السابقة تفاجأ الكثر منهم وقالوا: كيف يمكن أن تصنع أفلاماً كهذه ونحن الذين نعرفك تسخر دائماً من كل شيء من حولك. كما أني أكره السياسة وكل ما يحيط بها. رغم أنه لا يمكن الهروب منها لأي شخص يعيش في هذه المنطقة، إذ أننا رضعنا المشاكل مع حليب الأمهات. فأنا كفلسطيني أردني ولدت على الصراع العربي الإسرائيلي وعشت معه ويبدو أني سأموت وهذا الصراع على حاله.
في الماضي كانت هناك قضية فلسطين، أما اليوم فلدينا ألف قضية، هناك العراق وسورية واليمن وغيرها. ما طمحت له مع هذا الفيلم هو صناعة عمل فنيّ يكون قريب منيّ بالدرجة الأساس، فيلم أتمنى شخصياً مشاهدة أمثاله على الشاشة. وهذا كما ذكرت سابقاً أمراً صعباً كثيراً، أي تقديم فيلم ينتمي للكوميديا السوداء. عندما كنا نمنتج الفيلم كنا أحياناً نحذف مشاهد فيها كوميديا عالية كثيراً تجعلك تسقط على الأرض من الضحك، لكنها حذفت لأجل الحفاظ على حدود معينة للكوميديا وعدم السقوط في الإسفاف، لم أكن أريد للممثل في الفيلم أن يروي نكتاً، لكن بحثنا عن الكوميديا والمفارقات ضمن الأحداث وسياقات تطورها.
“أحمد” البطل، هو ليس بطلاً تقليدياً كما اعتدنا في الأفلام، بل بدا أقرب إلى الموشور الذي يمكن قياس ردود أفعال الآخريين والأحداث العامة من خلاله، هل لك أن تحدثنا عن شخصية “أحمد”؟
أعرف “أحمد” الذي استلهمت منه شخصية الفيلم منذ عشرين عاماً، هو شخصية مُسالمة كثيراً وطيبة للغاية ولا يغضب سريعاً، هذه الصفات تجعله في عصرنا الحالي شخصاً غريب الأطوار. “أحمد” مثل المغناطيس يجذبك سريعاً فهو مليء بالقصص، وتصادفه مواقف لا تحصل مع أغلبنا. هو أيضاً وكما يقول المثل “سبع صنائع والبخت ضائع”، هو جرب ليس سبع صنائع فقط بل سبعة الاف صنعة ولم يجد حظه أبداً (يضحك).

كيف وجدت الممثلين والممثلات في الفيلم، بخاصة أن معظمهم من الهواة؟ وكم من الوقت استغرق تحضيرهم لإداء الأدوار في الفيلم؟
التحضيرات استغرقت عاماً كاملاً، كما أني غيرت بعض الأدوار لتتلائم مع الممثلين الذين لعبوها، كانت هناك مثلاً شخصية خال البطل والذي كان في السيناريو الأصلي مُتقدماً في العمر وذو ملامح شكليّة مُختلفة. هذه الشخصية تحولت لتصبح ابن الخال حتى تتناسب مع عمر الممثل الشاب “عدي حجازي” الذي لعب الدور، لأني وجدت فيه الموهبة. جربت في هذا الفيلم بأن أعطي مساحة حرية كبيرة للممثلين والممثلات غير المحترفين بتفسير المشاهد على هواهم، وإيصال فكرة المشهد بدل الإلتزام الكامل بما جاء في السيناريو، ومن أجل الحصول على العفوية. هناك الكثير من المشاكل التي تعاني منها الحوارات في الأفلام العربية، ويستثنى منها الأفلام المصرية، أحياناً يكون الحوار في الأفلام العربية بعيداً كثيراً عن لغة الشارع، وكيف يتحدث الناس إلى بعضهم في الحياة اليومية.
المشاهد الليلية في مقدمة الفيلم كانت متميزة كثيراً بتصويرها، بعد ذلك تغير لون الفيلم نفسه إلى القتامة وبعد أن دخل البطل السجن، هل كان هذا مقصوداً؟
نعم، غيرنا في لون مشاهد السجن لأجل القوة الدرامية، فالقتامة هي انعكاس للاختناق في السجن ولتعقيد حياة البطل بعد دخوله هناك. ما حاولته في الفيلم أن يراقب المشاهد البطل، ويكون معه في الأحداث التي تواجهه والانتقالات التي تحدث في حياته. “أحمد” أيضاً مثال لملايين العرب الذين يسعون من أجل لقمة الرزق لهم ولعوائلهم.

هل صورت الفيلم بنفسك وكما فعلت مع أفلامك السابقة؟
لا استعنا بمصور يوناني. لم أكن أخطط لتصوير ملحمي في هذا الفيلم، إذ كان التركيز على القصة والتمثيل. ولأننا عملنا مع ممثلين وممثلات غير محترفين لم نكن نرغب أن نضيع الطاقة بالانتظار، وفي التحضيرات الطويلة لتصوير مشاهد معينة وضبط الإضاءة وتفاصيل تقنية عديدة. سعينا إلى الابتعاد عما يسبب القلق فذهب أغلب الجهد إلى التمثيل وكيفية نقل روح السيناريو.
مشاهد السجن جاءت مفآجئة لخلوها من القسوة المتوقعة من هذا النوع من المشاهد، والتي تعكس الحياة في السجون في كل مكان..
لأن هذا ما مرَّت به الشخصية الحقيقية بالفعل. كما أن السبب الآخر أن نزلاء الزنزانة يقضون عقوباتهم بسبب عمليات نصب واحتيال لذلك كانت أجواء السجن أقل حدة. ربما تكون زنزانات محكوميين بجرائم أخرى أكثر قسوة وحدة، وربما هذا وضعاً خاصاً بسجون الأردن، حتى في تجسيدنا للشرطة حاولنا أن نكون قريبين من الواقع، فالشرطة هم مثل الناس الآخريين يعانون وتؤرقهم المشاكل ذاتها للناس العاديين.
يفقد زعيم الزانزنة سلطته في منتصف الفيلم، هذا هذا مستوحى أيضاً من حادثة حقيقية أو هو من تأليفك؟ وهل هناك رمزية ما للحادثة؟
هناك بعض العناصر مستوحاة من حوادث حقيقية وبعضها من تأليفي. أردت أن أرمز للشخصية تلك للدكتاتور العربي الذي يحاول بوسائل شتى السيطرة على من حوله، أحياناً عبر تسليفهم أموالاً أو تخويفهم او إغوائهم. عندما كنت أكتب الفيلم كان ما يسمى “الربيع العربي” قد بدأ. لم أشأ أن أتحدث عن “الربيع العربي” في فيلمي، لكني كنت أطمح أن أتناول المسببات التي تقود إلى ما نعيش به من ظروف. والتي دفعت البعض إلى حرق أنفسهم أو الخروج إلى الشوارع للاحتجاج على الأوضاع القائمة.