سنجار أين أنتِ؟

محمد موسى 

“لا تدعِي أولادكِ ينسون لغتهم أو دينهم”. هذه كانت آخر وصايا العراقي المسّن لقريبته التي كانت تركب الباص الذي سيأخذها إلى المطار التركي، ولتنقلها بعدها طائرة إلى أوروبا، بعيداً عن كابوس الشرق الأوسط. سيعود الرجل ذاك إلى غرفته الصغيرة في مخيم اللاجئين في تركيا والذي يعيش فيه مع بضعة مئات من العراقيين الإيزيديين الذين هربوا من بطش “داعش”. ورغم أن المخيم لا يبعد سوى بضعة كليومترات عن الحدود العراقية، لكن سكانه فقدوا الأمل بالعودة إلى بيوتهم وإلى مدينتهم “سنجار”، فأعداؤهم في كل مكان، منهم الأعداء الجدد المكشوفون، وهناك الجيران التاريخيون الذين خذلوا الإيزيديين قبل عامين، وتركوهم يواجهون وحدهم إبادة جماعية جديدة تضاف إلى أخريات في تاريخ يُغطيه الدماء.

لقطة من فيلم "سنجار أين أنت؟"

يُوثق الفيلم التسجيلي “سنجار أين أنت؟” للمُخرج اليوناني “أنجيلوس راليس” أزماناً من يوميات ساكني مخيم اللاجئين الأيزيديين في تركيا، والذين يتوزع وقتهم بين انتظار معجزة عودة نسائهم المختطفات لدى “داعش”، والبكاء على أطلال بيوتهم والحياة التي ودعوها في عاصمتهم العراقية “سنجار”. يتميز الفيلم التسجيلي عن أفلام سابقة تناولت إبادة الأيزيديين الجماعية، بطوله وشاعريته، ومشاهده الطويلة الساكنة التي تقترب وتفتح الجرح الجماعي، وترفع الألم الذي لا حدود له لمدنيين عاديين وجدوا أنفسهم مُجدداً هدفاً لحروب تشحذ طاقتها من أحقاد قديمة سوداء.

يذهب المخرج مع مجموعة من شخصيات فيلمه إلى مدينة “سنجار” بعد طرد داعش منها، ليجدوها خِربة فارغة من سكانها، ومن هناك سيصور مجموعة من المشاهد التي تقطع الأنفاس لقسوتها، لأيزيديين يتجولون بين أطلال الشوارع والأحياء التي عاشوا فيها. كما سيمرّ الفيلم على معضلة الكثر من الأيزيديين اليوم، بين قرار العودة إلى مدنهم وقراهم المدمرة، أو الهجرة بعيداً عن المنطقة، وما يحمله الأخير من احتمالية انقراض هويتهم ودينهم.

عُرض فيلم “سنجار أين أنتِ؟” في الدورة الأخيرة لمهرجان “إدفا” السينمائي في مدينة أمستردام الهولندية، وتنتظره عروض قادمة في مهرجانات سينمائية أوروبية.

يتحدّث المخرج “أنجيلوس راليس” عن تجربة التصوير في مخيم اللاجئين وصناعة فيلم عن ضحايا إبادة جماعية في هذا الحوار.

مُخرج الفيلم اليوناني "أنجيلوس راليس"

كيف بدأت قصة هذا الفيلم التسجيلي، وهل كنت تملك خططاً لما سيكون عليه موضوع فيلمك أو هوية شخصياته قبل التوجه إلى منطقة الشرق الأوسط؟

“سنجار أين أنتِ؟ ” هو الفيلم الثاني من ثلاثية شرعت بها في عام 2014، وأركز فيها على المشاكل النفسيّة التي تأتي على أثر صدمات حروب وأحداث عنيفة. فيلمي الأول “مكان للجميع” (2014) تناول عمليات المصالحة التي أعقبت الإبادة الجماعية للـ “التوتسي” في رواندا.

فيلمي هذا يتابع المسار ذاته على صعيد المضمون، لقد سمعت بالأيزيديين بعد إن احتل “داعش” مدينة سنجار، ما لفت انتباهي وقتها أن هذه الإبادة ليست الأولى التي تعرضت لها الأقلية الأيزيدية، وأنهم قمعوا سياسياً في العراق وسوريا بسبب انتمائهم الديني. الأيزيدون يعدون 72 محاولة لإبادتهم جماعياً من قبل جيرانهم عبر التاريخ… 

كيف سمعت بمناجم الفحم في تركيا والتي تحولت إلى ملجأ للأيزيديين العراقيين، ولماذا اخترت مخيم اللاجئين هذا بالتحديد، رغم أنه كان بإمكانك التوجه إلى مخيمات اللاجئين في كردستان العراق والتي تضم اليوم العدد الأكبر من الأيزيديين؟

الأيزيديون يشعرون أن الحكومة المحلية في كردستان لا تعترف بدينهم وهويتهم، وأن هذا ليس وليد الأحداث الأخيرة، بل هو الحال عبر التاريخ. في الوقت الذي كان “داعش” يهاجم مدينة سنجار، كانت القوات الكردية التي تخضع “سنجار” تحت سيطرتها والتي كان من المفترض أن تحمي المنطقة، تنسحب تاركة الأيزيديين لوحدهم. الأيزيديون يشعرون بالخيانة، وهذا زاد من التوتر بينهم وبين الأكراد العراقيين. لذلك كان من شأن التصوير في مخيمات اللاجئين التي تقع تحت سيطرة الحكومة الكردية أن يثير شكوك السلطات، والتي ستحدد ما نقوم به وأين نذهب، إضافة إلى فرضها شروطاً بأن يرافقنا أعضاء من الأمن، كما أن الأيزيديين أنفسهم الذين يعيشون هناك سيشعرون بالخوف من الحديث عن تاريخهم والقمع السياسي الذي يتعرضون له.

أسلوبي في صناعة الأفلام هو خلق رابطة من الثقة واحترام الخصوصية بيني وبين الشخصيات. وهذا لن يتحقق في زيارة قصيرة. على الجانب الآخر لم أكن مُهتماً بالوجود على خطوط النار في الجبهات، بل بمقاربة هادئة لا تثير الضجيج، وتصوير التبعات النفسية للحرب والهجرة القسرية.

علاوة على ذلك، شخصيات الفيلم لجأت إلى منطقة “سيزر” التركية والتي تقع على حافات جبال جوردي. هذا الأمر كان مثيراً لنا لسياقه الجيوسياسي. فعلى بعد كيلومترات قليلة فقط تقع نقطة تقاطع حدود العراق وسوريا وتركيا. وأهل المنطقة هم في صراع مستمر منذ زمن طويل. مناجم الفحم الذي صورنا فيها، هي مناجم متروكة كانت تمثل جغرافياً منطقة فاصلة بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني المحظور. المنطقة محاطة أيضاً ببرك صيد وبحيرات وأنهار صغيرة وجبال. هناك في المنطقة الكثير من التوتر الكامن. الحرب هناك رغم أنك لن ترى فظائعها المرتبكة.

من كواليس التصوير

كم من الوقت قضيت في المخيم، وكيف بدأت علاقتك مع شخصيات الفيلم، وهل كان صعباً الحصول على ثقتها؟ 

قضينا حوالي 35 يوماً هناك، في المخيم، كنا نصور ليلاً ونهاراً، ما يقارب العشر ساعات يومياً، بالنسبة لي، كانت كل ساعة أصورها ثمينة للغاية لأني لم أكن أعرف ما الذي يمكن أن يحدث في اليوم التالي، وإذا كان سيسمح لي بالتصوير، أو البقاء هناك في المخيم. أي عسكري تركي كان قادراً أن يطلب منا أن نغادر المخيم، كما كان ممكنا لشخصيات الفيلم أن تغادر إلى أوروبا في أي لحظة. لذلك كنا نريد أن نصور ما نقدر عليه كل يوم. 

إقامة علاقات مع الناس في المخيم، كان يعني أن نقضي كل وقتنا هناك. نبيت ونأكل معهم. حتى يكون بإمكاننا تقديم الشخصيات على أكمل وجه، كان علينا أن نتصل عاطفياً بعوالهم النفسيّة ومحيطها. ولأن وقتنا هناك كان محدداً، توجب علينا التصوير لساعات بدون انقطاع. سعينا ألا تلفت الكاميرا الانتباه. كنت وحدي مع زميلي في الإخراج “هانس أولريخ غوسل” الذين صورنا الفيلم. عندما كنت آخذ فترات راحة كان هو يواصل التصوير. 

ساعد التصوير لساعات والاختفاء خلف الكاميرا لفترات طويلة، بأن نتحول إلى جزء من الخلفية وأن نكون شهوداً على الأحداث المأساوية. في هذا المعنى، كانت الكاميرا تختفي تدريجياً وبعد أن اعتاد الناس على حضورنا غير المتطفل. أحياناً كانت شخصيات الفيلم تنظر إلى الكاميرا، لكنهم واصلوا التصرف بتلقائية وكأنها ليست هناك.

خلفيتك من عالم التصوير الفوتغرافي. كيف تقارب مشاريعك السينمائية، وما هو الجانب الأهم في صناعة الأفلام لديك، هل البعد الجمالي وسرد القصة عبر الصور هو ما يشغلك؟

خبراتي وشغفي بعالمي التصوير الفوتغرافي والمسرح يؤثران بالتأكيد على مقاربتي العملية السينمائية، إذ إنهما يفتحان الكثير من الاحتمالات للاختيار، لكن هذه تبقى احتمالات. المفتاح هنا هو اختيار أفضل مُقاربة جماليّة قادرة على إقامة علاقة قوية بيني وبين الشخصيات/ الموضوع من جهة وبين هذه والجمهور من الجهة الأخرى. مهمة المخرج إيجاد القناة المناسبة لهذا الاتصال، واختيار العاطفة المناسبة، وسرد القصة عبر الصور.

كان مصدر القلق الرئيسي لي في فيلم “سنجار أين أنتِ؟”، هو كيف أجسد الدراما في حياة شخصياتي وبنفس القدر الذي كنت شاهداً عليها في الواقع، وما خبرته الشخصيات نفسها وقتها. هذا مع الإبقاء على مسافة من الشخصيات وعدم التطفل عليها، إذ إن الكاميرا نفسها تحولت إلى فرد من المجتمع يُراقب الناس.

البقاء بعيداً في الخلفية والتصوير عبر عدسات واسعة كان سيكشف تفاصيل قليلة من السلوكيات الفردية والجماعية، المسافة المتوسطة في بعدها عن الشخصيات والتي اخترناها للفيلم سمحت لنا برسم تفاصيل كل شخصية، في إطار محيطها المباشر، والمشاهد الطويلة بزمنها مكنتنا من تجسيد يقترب من المسرحي لكل مشهد. الأمر الأساسي في منهجي في صناعة الأفلام هو الإحساس بالزمن الفيلمي. لا أريد لمشاهدي فيلمي أن “يشاهدوا” الفيلم لكن أن يعيشوه، ومن خلاله يتم التعبير عن مصائر الشخصيات. أريد للمشاهدين أن يعيشوا تجربة الزمن الفيلمي وكأنه الحقيقة، أيّ كأنهم كانوا هناك.

أشعر أني محظوظ لأني عملت مع فريق رائع، لقد قامت المديرة الفنيّة ” ماريا ديل مار رودريجيز ” والمونتير “خورنس تيوخارس” بعمل مدهش بالتركيز على الزمن الفيلمي وإيقاع المونتاج، مع التركيز على جماليات بعض المشهديات الخاصة. 

أحد الشخصيات الأيزيدية وخلفه مدينة سنجار المدمرة

كيف تصف الحياة في المخيم؟ بدا الرجال الأيزيديين في المخيم مهزومين وقانطين

الرجال هناك يشعرون بأنهم مسلوبوا القدرة وأنهم ضحايا لظروف خارجة عن إرادتهم، في الديانة الأيزيدية، الدين ينتقل عن طريق الولادة من والدين أيزيديين فقط، لذلك لا يوجد عامل أكثر غنى في الثقافة الأيزيدية من المرأة، والتي تمثل رمز للولادة والبعث من جديد، البحث عن النساء الأيزيديات المخطوفات هو قصة الأيزيديين جميعا وبحثهم عن هويتهم. تمثل النساء الأيزيديات ومقاومتهن ضد العبودية رمزاً بارزاً لصراع الأيزيديين من أجل البقاء والحفاظ على هويتهم. 

هناك مسار يتشكل عبر زمن الفيلم، والذي سيكون بإمكاننا كمتفرجين متابعته، عن محاولات أهالي المخطوفات عند “داعش” تحريرهن، هل هذا المسار يعكس أهم ما يشغل حياة الناس هناك؟

شكلت قصة عائلة “هافنيد” ومساعيها لتحرير ابنتهم “فيان” السردية الأساسية في هذا الفيلم التسجيلي. قصة تلك العائلة تشبه كثيراً جميع العوائل الأيزيدية من التي اختطفت ابنة أو أُمّ لها. ورغم سوداوية الواقع تحاول الشخصيات التي قابلناها أن تجد القدرة من أجل الحلم والأمل معا ضمن العائلة أو ضمن المجتمع الذي تعيش فيه، ورفع شأن الصحبة والتكاتف الاجتماعي. 

بشكل عام، القضايا الأساسية التي تشغل الناس هناك هي الفقد والقدر واستذكار الهوية الأيزيدية بعد تدمير سنجار. الفيلم يسلط الضوء بالتوازي على ثلاثة أجيال من اللاجئين الأيزيديين، وهم يواجهون المعضلة القصوى: الهجرة إلى أوروبا، والتي ربما تعني ضياع هويتهم الفردية، أو العيش بجانب الأعداء، في عاصمتهم “سنجار”، والتي تحولت إلى ركام.  

بالنسبة للجيل الأيزيدي الشاب، ليست الحرب بأكثر من مجرد لعبة مُدمرة. هذا المزج بين الكوميديا والتراجيديا هو بالحقيقة وسيلة الأيزيديين الشباب للنجاة من ظروف حياتهم الصعبة التي يخيم عليها العنف، وللتغلب على معاناتهم وحل مشاكلهم المتعددة. الأيزيديون من جيل الشباب تعلموا أن يحصنوا أنفسهم بأسلحة نفسية مثل الكوميديا والسخرية. 

بالنسبة للجيل المتقدم في العمر مثل “أبو جلال”، رجل يعيش سنوات حياته الأخيرة، من الأساسي له أن يجد معنى لما حصل، والحفاظ على فكرة مجتمع متماسك وهوية دينية. النقل الشفاهي ورواية الحكايات من جيل إلى آخر، شكّل الطريقين الأساسيين لنقل الثقافة الأيزيدية عبر القرون. لذلك ما كان يتكلم به “أبو جلال” يُعَّد شهادة تاريخية.

أنت دخلت العراق وذهبت إلى مدينة سنجار، كيف حضّرت لتلك الرحلة؟

كنت أعرف أن الفيلم سينتهي في نهاية المطاف بمشهد من العراق وقرب مدينة سنجار المدمرة. عندما قامت القوات الكردية مدعومة بالقوات الأمريكية باستعادة السيطرة على المنطقة، رغب أيزيدون كثر بزيارة بيوتهم وتفقد أشيائهم الخاصة وكنا نريد أن نكون مع شخصياتنا وهي تذهب إلى هناك. لم يكن سهلاً الحصول على أذونات خاصة من الحكومة الكردية بالتصوير في المنطقة. توجب علينا الانتظار حتى يوم إقامتنا الأخير في العراق حتى نتمكن من الحصول على هذه الأذونات، لم يكن ممكنا البقاء في سنجار لتهدّم المدينة، لكن نجحنا وعن طريق معارف لنا من أن نجد مكاناً للمبيت في خيمة في الجبال لأيزيديين منطوين تحت راية حزب العمال الكردستاني. 

نساء أيزيديات في لقطة من الفيلم

كنت متأكداً أن فعل العودة إلى “سنجار” سيُهيج مشاعر قوية للغاية لشخصيات الفيلم، كان من المهم تسجيل ردة فعلهم الطبيعية رغم قصر الوقت الذي قضوه هناك. إذ سمح لنا بالبقاء في سنجار ليوم واحد فقط. صورنا طوال الوقت في ذلك اليوم حتى أصابنا التعب ولم يعد بمقدورنا المشي. رائحة الموت في كل مكان هناك. سنجار تحولت إلى رماد.

كنت قد وعدت “أبو جلال” الشخصية الأكبر سناً في الفيلم بأني سأصور عودته إلى “سنجار”، هو لم يعلق وقتها، ربما لأنه يحس أن حياته تقترب من نهايتها وأنه لن يعود أبداً إلى سنجار. هذا كان من شأنه أن يجعل تصويري للمدينة المدفونة بحطامها رحلة عاطفية لي بحد ذاتها. 

هناك العديد من المشاهد الشديدة التأثير في فيلمك، هل لك أن تصف مشاعرك وأنت تشهد على تلك اللحظات التي تمزق نياط القلب؟

كنت متأثراً للغاية طوال زمن التصوير، بسبب ما شهدت عليه من عذاب وكرب للعوائل التي كانت تنتظر نسائها المختطفات. كان تصوير عودة نساء كان يعتقد أنهن قُتلن إلى عوائلهن من أكثر المشاهد التي صورتها في حياتي صعوبة. عندما كانت تعود امرأة ما، كانت العوائل الاخرى تتجمع حولها، لتسال إذا كانت تعرف أيّ أخبار عن بناتها المختطفات. 

تصوير فيلم “سنجار أين أنتِ؟”، لم يكن يعني فقط إقامة علاقة مع الشخصيات في الفيلم، بل أيضاً مع التاريخ. ورغم أني لا أتكلم نفس لغة للشخصيات، ولم يكن ممكنا التفاهم بيننا، كنا متصلين عاطفياً. عندما عدت إلى أوروبا وبدأنا بترجمة حوارات المشاهد، عندها بدأت أعي مأساوية الوضع. تجسيد ذلك الألم خلال مراحل المونتاج لم يكن أمراً سهلاً. 

على المستوى الشخصي، كنت قريباً للغاية من جدتي التي تدعى “كاتينا”. والتي كانت نفسها لاجئة في أوروبا. لقد رافقتها في زيارتها الأولى إلى بلدها وبعد عقود من ترك ذلك البلد. كانت صورتها وهي تقف وقتها قرب بيتها المتهدم محاولة أن تستعيد ذاكرة طفولتها، من الصور التي ظلت محفورة في ذاكرتي حتى اليوم.


إعلان