دراما في شقة “تقسيم”
محمد موسى
يستلهم فيلم “تقسيم هولديم”، باكورة المخرج التركي “مايكل اوندر”، حدثه العام من احتجاجات حديقة “غيزي” في عام 2013 في مدينة اسطنبول، لكن الفيلم لن يتحول إلى مرافعة سياسية، ويغوص في المقابل في علاقة شخصياته تجاه ما يجري في الخارج من عنف كظاهرة مجردة، ويحلل سلوكيات فردية وجماعية، ويقطع على نحو ما علاقته بالآني التركي، متحولاً إلى فيلم نفسي عن المسؤوليات والانتماء، وتأثير الأحداث السياسية والاجتماعية العامة على العلاقات الشخصية.
لا يخرج الفيلم من شقة البطل “ألبر” في منطقة تقسيم الشهيرة، حيث كان يستضيف أصدقائه للعب “البوكر”، فيما كانت احتجاجات عاصفة تجري في الخارج ويصل ضجيجها إلى داخل الشقة. إلى جانب الدراما التي ستتصاعد من الحوارات بين الأصدقاء، هناك مساحة مهمة في الفيلم لخطيبة البطل التي تشارك دون علم خطيبها بالاحتجاجات، كما سيلجأ إلى الشقة هاربون من عنف الشرطة، ومنهم جرحى، ليدفع حضورهم إلى مزيد من التصادمات.
وُلد المخرج في بريطانيا لأب تركي وأُّمّ بريطانية، لكنه عاد قبل خمسة عشر عاماً إلى تركيا للعمل في الإعلام التركي والإعلانات. يُفصح المخرج في فيلمه الأول عن موهبة جيدة، وبالخصوص في قدرته على تجسيد العوالم الداخلية لعلاقات الصداقة، وما يختفي تحت الظاهر من توتر وغضب وعدم رضا. أختير الفيلم ضمن برنامج مستقبل آسيا، أحد برامج مهرجان طوكيو السينمائي والذي انتهت دورته الثلاثين في الثالث من شهر نوفمبر الجاري.
وفي التالي لقاء مع المخرج “مايكل اوندر” وبطل فيلمه الممثل التركي “كنان ايجي”.
متى بدأت فكرة هذا الفيلم، وكيف تطور السيناريو حتى وصل إلى صيغته النهائية؟
مايكل: الفكرة بدأت في شهر أكتوبر 2013، أي بعد شهرين أو ثلاثة من احتجاجات حديقة “غيزي”. كنت دائماً أرغب بعمل فيلم تدور أحداثه في موقع واحد ولا يكلف صناعته الكثير. الأمر الذي حدث بعد الاحتجاجات، أن أحداثاً معينة حصلت لي ولبعض أصدقائي حفزت هذا المشروع السينمائي. بيد أني احتجت عامين لكتابة هذا السيناريو. وهو بالعادة وقتاً طويلاً جداً على الصعيد الشخصي للعمل على مشروع واحد دون أن يصيبني الضجر. بشكل عام استمدت الطاقة لهذا المشروع من الاحتجاجات التي وقعت في مدينة اسطنبول.
هل تلقيت مساعدة على صعيد كتابة سيناريو الفيلم؟
مايكل: كلا، لكني عرضت السيناريو على أصدقاء حتى أعرف آرائهم، لكني تعلمت مع الوقت كيف أتعامل مع ملاحظات الأصدقاء، والتي تتراوح غالباً بين الإعجاب أو عدمه ولا تشرح الأسباب وراء هذا الموقف أو ذاك. وهناك أيضاً المخاطرة بأن على الأصدقاء أن يقولوا شيئاً مُثقفاً حول المشروع، ولذلك يجبرون أنفسهم على قول أي شيء. كما أن السيناريو لا يتم قراءته ككتاب، لذلك عليك أن تعطيه لشخص يعرف لغة السينما. ما همني من تجربة عرض السيناريو على أصدقاء، إذا كانوا قد قرأوه في جلسة واحدة، وملاحظاتهم الفطرية عليه.
عندما انضم “كنان” إلى المشروع ساهمت نقاشاتنا في تشذيب السيناريو، حيث إن كتابة وتعديل الأخير لم تنتهي حتى وقت تصوير الفيلم. كنا نعيد بناء الشخصيات ونغير تفاصيل صغيرة. مثلاً، في نهاية الفيلم كان البطل في مكان معتم للغاية وكانت هناك جملة كان عليه أن يقولها لكننا كنا غير واثقين إذا كانت الجملة تلك ملائمة للموقف. هذا التردد استمر حتى يوم تصوير المشهد نفسه. قال لي كنان وقتها أنه لا يستطيع أن يقول هذه الجملة وكما طفيفة في الجملة، وهذا قاد لأن يجعل المشهد كله موفقاً.
السؤال لكنان.. كيف تصف تجربتك مع السيناريو؟ هل تفاعلت مباشرة مع مكتوبة، ولأني أعرف أن كنان هو شخص مثقف كان عليّ التفكير بما يجب تغييره حتى يشعر الممثل بالثقة. في النهاية عدل “كنان” تعديلات الشخصية التي كان عليك تمثيلها؟
كنان: عندما قرأت السيناريو شعرت أنه كتب بذكاء كبير، وعبَّرَ عن الأشياء التي كنت أريد أن أقولها أثناء الاحتجاجات تلك لكني لم أكن أجد الكلمات المناسبة، وأني لم أكن وحيداً بمشاعري وأن هناك جوانب عدة للقضية العامة. كان صيف الاحتجاجات مُكثفاً وعاطفياً للغاية وجميعنا شعرنا بذلك. أما بالنسبة لـ “ألبر” هو رجل شكوك ومتشائم وساخر، وهذه صفات أحملها شخصياً (يضحك). لذلك أحببت الشخصية كثيراً، من العبارات التي أعجبتني كثيراً فيما قاله “ألبر” أن الجميع يقرّون بالحقائق نفسها لكنهم لا يستطيعوا الموافقة عليها.
لم تشارك الشخصيات الرئيسية في الفيلم في الحدث العام الذي كان يتواصل ويتصاعد خارج الشقة، لكنهم في الوقت نفسه عجزوا عن البقاء بعيدين عاطفياً عما يجري، هل تُمثل هذه الشخصيات طبقة اجتماعية مُعينة في تركيا اليوم؟
مايكل: نعم، لكن الفيلم الذي يبدأ بما حدث في الاحتجاجات الشعبية في عام 2013، يحاول أن يعبر بعدها عما يجري بشكل أوسع في العالم ولا يبقى رهين ما حدث في ذلك الصيف. وضع الفنان الذي صمم ملصق الفيلم جميع الشخصيات في حوض مائي، وهناك في سطح الحوض شرخ يهدد بالاتساع، وهذا ما تواجهه شخصيات الفيلم نفسها.
عندما تكون مرتاحاً في الحياة تحاول أن تهمل أو تنسى المشاكل حولك، لكن عندما تصل تهديدات الخارج ومشاكله إلى الفضاء الأمين الذين تعيش فيه، يجبرك هذا على التفكير وتغيير قناعاتك. السؤال الذي يحاول الفيلم طرحه، هل علينا فعل شيء تجاه ما يجري حولنا؟ وهل علينا أن نشعر بالمسؤولية لما يحدث؟ بالحقيقة لا أعرف الإجابة على هذه الأسئلة. قناعاتي تتغير باستمرار، قد أشعر اليوم أن علينا أن نتحرك ونتفاعل، وفي الغد يتغير هذا، وأحسّ أن ما سنفعله لن يغير أي شيء في العالم.
الشخصيات في الفيلم لا تعكس بالضرورة طبقة اجتماعية بل سلوكاً بشرياً، هم يشعرون بالراحة في هذه اللحظة، لذلك يرون ما يحدث كتحدي فكري وثقافي. ترتبط الشخصيات بالعالم الخارجي عن طريق التلفون او التلفزيون. أقول كل هذا ليس بمعنى أني أنتقدهم أو أقيمهم، بالعكس فأنا أحبهم… أنا مثلهم وأفهم دوافعهم، ولا أعرف كيف أتصرف في هذه المواقف. الخوف أحياناً وكما جربته شخصياً يشلّ الحركة، من جهة تعرف أن عليك أن تفعل شيئاً ما، لكنك مشلول من الخوف.
واحد من المشاهد المؤثرة كثيراً في الفيلم، ذلك الذي يكشف فيه أحد الأصدقاء عن طرده من وظيفته بسبب موقفه السياسي. بيد أن الفيلم لم يحاول أن يُفصَّل كثيراً في خلفيات الشخصيات، كيف تعاملت مع قضية الخلفيات الاجتماعية والنفسيّة لأبطالك؟
مايكل: كتبت الفيلم وفي ذهني الخلفيات الاجتماعية والأحداث التي مرَّت بها شخصيات الفيلم. لكني أبقيت كل المعلومات التي تخص الخلفيات هذه بعيداً عن الفيلم، لأني لم أشأ أن تعرقل هذه المعلومات تطور الدراما او توقف الكشف عن الشخصيات. كمثال نعرف القليل فقط عن شخصية “ألبر” لجهة العمل الذي يقوم به. لكننا في المقابل كنا قد أعددنا عشر صفحات من السيرة الشخصية له، وفيها كل شيء، ماذا عمل في حياته، والأشياء التي يحبها، وتفاصيل أخرى من الطفولة إلى السّن التي عليها الآن.
وهل كان لكنان أي قول في تطور الشخصية التي لعبها؟
كنان: في مرحلة لاحقة من العمل كنا نتناقش عن تفاصيل الشخصية، لكن “مايكل” هو الذي كتب وفكر بها، هي جهده بالكامل.
مايكل: أعتقد أن التغيرات الأهم في السيناريو التي حدثت أثناء التصوير لم تكن بشكل أساسي في النص المكتوب، بل في طبيعة تجسيد العلاقة بين الشخصيات. مثلاً في السيناريو هناك علاقة صداقة بين البطل وإحدى الشخصيات الأخرى، ما لم يسهب به النص الأصلي هو طبيعة الصداقة بين الشخصيتين. كما تعرف هناك عدة أنواع من الصداقات، بعد أن بدأنا التدريبات، وبدء الممثلان بلعب الشخصيتين سواء على الصعيد النفسي والجسدي، تحولت العلاقة بينهما إلى تفصيل عضوي، وصار من الممكن تفهم كيف يمكنهما أن يقولا أشياءً فظيعة لبعضهما وكما مكتوب في السيناريو – والذي كنت غير راضي عنه تماماً – إذ أنهما صديقان قديمان وهذا النوع من اللغة المشتركة يعد أمراً عادياً في صداقتهما.
كنان: شعرنا وقت التصوير أن الديناميكية بين مجموعة الممثلين كانت رائعة وعفوية. “مايكل” ليس من المخرجين الذين يأتون يوم التصوير ويقولون لك عليك أن تفعل هذا أو ذاك، نحن دخلنا قبل التصوير الفعليّ في تمرينات لفترة ثلاثة أشهر. في البدء تعلمنا كيف نلعب “البوكر”. كنا نلتقي بشكل جماعي في بيت أحد الممثلين الذين مثلوا في الفيلم، ونبدأ بلعب البوكر لساعات. بعدها بدء كل منا بلقاء زملائه بشكل منفرد. قابلت أيضاً الممثلة “داملا سونميز” التي لعبت دور خطيبتي وتدربنا على مجموعة من المشاهد. كل ذلك تم بدون افتعال وبشكل طبيعي. عندما جاء وقت التصوير كنا قد عرفنا بعضنا بشكل معقول وهذا ساعد في إضافة الأجواء الحميمية بين المجموعة.
مايكل: لم أختر ممثلي الفيلم بطريقة تقليدية، ذهبت إلى المسرح للبحث عن ممثلي وممثلات الفيلم، إذ أن طبيعة السيناريو، وطول الحوارات بين الشخصيات وتنوعها، والمكان الضيق الذي تجري فيه الأحداث، كان يستدعي ممثلون وممثلات لهم خبرات في المسرح. كما أن ممثلي المسرح يملكون غالباً انضباطا عالياً.
كما نعرف أن التصوير في مكان محدود مثل الشقة التي صُور فيها الفيلم عملية صعبة ومُتطلبة كثيراً. ما هي التحديات التي صادفتموها؟
مايكل: صورنا في شقة حقيقية تعود إلى مصور فوتوغرافي. غيرنا الكثير في الشقة حتى تناسب شخصيات ساكنيها في الفيلم، والتأكيد عبر الأثاث والألوان في الشقة على الحياة السابقة والخلفيات الاجتماعية والفكرية للشخصيات والتي تحدثنا عنها قبل قليل. حتى في الكتب التي كانت مصفوفة في المكتبة، اخترنا ما يُمكن أن يقرئه “ألبر” أو خطيبته. موقع الشقة كان قريباً كثيراً من الشقة التي كنت أسكنها وقت الاحتجاجات، وهذا كان له أهمية عاطفية لي. اهتممنا كثيراً بتفاصيل الشقة، لأنها في الحقيقة ما كان “ألبر” يحاول أن يحميه في الفيلم.
بالإضافة إلى تحدي المكان، كان هناك تحدياُ آخر في الفيلم بتصوير حوارات سريعة والتي جمعت أكثر من شخصية، هل صورتم بأكثر من كاميرا؟
كنان: لا صورنا بكاميرا واحدة. وهذا كان يعني أننا كنا نعيد المشهد الواحد أكثر من مرة حتى نصور كل المشاركين في حوارات ذلك المشهد. لم يكن الأمر هيناً، لكن هذا بالنهاية ما نقوم به كممثلين، هو المحافظة على مستوى المشاعر الخاص بالمشهد بغض النظر عن عدد المرات الذي يصور به هذا المشهد. في تركيا لدينا صناعة عملاقة لإنتاج المسلسلات للتلفزيون، وأنا أعمل في الصناعة، ولي تجارب في العمل الطويل، والذي يتواصل أحياناً على طوال اليوم.
المونتاج كان حيوياً كثيراً، كيف سار العمل فيه خصوصاً في مشاهد الحوارات الطويلة والتي كانت مزدحمة بالشخصيات؟
مايكل: جواب سؤال المونتاج يستكمل على نحو ما تحدثت به سابقا عن التمثيل، حيث كان يجب فهم الفيلم للحصول على هذه النتيجة. التقطيع كان يجب أن يكون على هذا الشكل حتى يتبع توزيع الأدوار في المشهد الواحد، والأخير كان يتألف من 16 لقطة على حد أدنى. في مرحلة ما من عمليات المونتاج لاحظت أن مستوى الأداء كان يتفاوت بين مجموعة الممثلين، لذلك حاولنا في المونتاج الانتباه لهذه الاختلافات لجهة ما نود أن نظهره ونبرزه، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على تركيبة المشهد كما صورناها. كنت محظوظاً كثيراً مع “كنان”، لأنه فهم الدور جيداً. وفهم أن معظم أدائه يجب أن يكون ما يشبه ردود أفعال على ما يجري من حوله وألا يكون هو المبادر للفعل.
مونتير الفيلم “تانر سارف” هو فنان بالفطرة وفهم العمل جيداً. أتذكر عندما قابلته، ألقيت كلمة طويلة عما ابتغيه مع هذا الفيلم (يضحك)، هو قال لي بهدوء أعطني المادة المصورة وعد لي بعد عشرة أيام. عندما التقينا مرة أخرى تفاجأت كثيراً من مدى فهم “سارف” للمادة المصورة والسيناريو، وما كنا نحاول أن نفعله في الفيلم. نحن سعداء كثيراً بالمحصلة النهائية.