أيام رعب في مقديشو
محمد موسى
يتسلل فيلم “جنود مقديشو” للمخرج النرويجي تورستين غرودي إلى الصومال، البلد العنيف والمغلق والذي يكاد العالم أن ينسى مآسيه، ليصور من هناك يوميات وحدة جيش من دولة بوروندي الصغيرة كانت تخدم ضمن قوة أفريقية لحفظ السلام في البلد. لا يذهب المخرج النرويجي بنفسه إلى الصومال، بل يُكلف – في مقاربة مختلفة وجدليّة – جنديان من الوحدة البوروندية العاملة هناك بتسجيل ما يصادفاها ضمن المحيط الضيق نسبياً الذي كان يتحركان فيه، مع التركيز على تقاطعات الوحدة العسكرية مع السكان المحليين.
بعد أسابيع شابها الضجر من وجود الجنود هناك، سيصل العنف مُدوياً إلى الوحدة العسكرية الأفريقية، ليتبيَّن تدريجياً لمإذا لا يزال الصومال واحداً من أخطر بلدان العالم وأشدها قسوة. يجمع الجنديان صور وحشية كثيراً لفظاعات الحرب على الجنود والمدنيين على حد سواء، ويفتحان نافذة نادرة – وأن كانت محدودة – على الحياة اليومية في الصومال، في حين ستوفر الإطلالات القليلة لصوماليين في الفيلم صورة ما عن العذاب الأبدي الذي يعيشه الناس هناك. يُبرز الفيلم الطبيعة المختلفة لعملية صناعته ولا يحأول أن يخفيها، فهو يُذكر على طوال زمنه بعدم احترافية الصور فيه، والتي نفذها جنديان كان عليهما الاستمرار بتأدية واجباتهما العسكرية إلى جانب تصوير الحياة اليومية من حولهما.
عرض فيلم “جنود مقديشو” في عدد من المهرجانات السينمائية المهمة، وحظي باهتمام نقدي مهم، وأثار أسئلة حول الصور العنيفة التي يعرضها.
في الآتي حوار مع مخرج الفيلم تورستين غرودي:
ما سبب اختيارك لهذا الموضوع بالتحديد، هل لك علاقة خاصة بالمنطقة أو مع الأحداث التي جرت قبل سنوات هناك والتي سجلها مشروعك التسجيلي؟
بالحقيقة كنت مشغولاً بمشروع تسجيلي آخر مختلف، حيث كنت مرتبطاً بتصوير لاجئين يعيشون في مركز خاص بهم في تنزانيا. في مركز اللاجئين ذاك كنت أحاول أن أطلق جريدة صغيرة تنقل ما يحدث في مركز اللجوء والمناطق القريبة منه، ذلك أن اللاجئين هناك وأغلبهم من دولة بوروندي كانوا شبه معزولين عن العالم. كنت أتصور وقتها أن الفكرة ستكون رائعة، بأن يُدير ناس من مركز اللاجئين ذاك ديسك للأخبار، والذي يزود الصحيفة بما تحتاجه من مواد. حصلت على المال لتمويل الجريدة وبدأنا العمل فيها، بيد أنه بعد عام من العمل، تيقنت أن لا أحد في إدارة مركز اللاجئين ذاك كان يرغب بوجود هذه الجريدة بسبب الفساد المستشري في المركز وعلى جميع المستويات، رغم أن إدارة المركز كانت بيد الأمم المتحدة.
في النهاية أرسل الجيش التنزاني بضعة مئات من الجنود للقبض عليّ بتهمة التجسس. الوضع تطور كثيراً بعد أن تم إلقاء القبض على السائق والمنسق لفريقنا وتم تعذيبهم. نجحت مع مهندس الصوت في الهرب في الظلام إلى بوروندي، البلد المجاور لتنزانيا. في بوروندي كانت الحرب الأهلية مشتعلة، وتم إلقاء القبض علينا من قبل إحدى المجاميع المتقاتلة هناك. كان وضعاً مُرعباً حقاً. لحسن الحظ أنقذنا شخص مُهم كثيراً في الجيش الرسمي في بوروندي.
في القوة التي ساهمت في إنقإذنا من قبضة المليشيات، كان يخدم الجنديان الذين تعاونت معهما في هذا الفيلم. في ذلك الوقت وبعد تعرفي على الجندين شعرت أني أمام فرصة لا تُعوض للحصول على وجهة نظرهما بما يجري من حولهما، خاصة بعد أن اشتركا في القوة الأفريقية لحفظ السلام في الصومال. أحسست بقوة وقتها أننا نحتاج أن نرى وجهات نظر ناس من المنطقة، وأني كرجل أبيض ربما لست الشخص المناسب لمشروع مُعقد وخطر كثيراً مثل الذي كنت أخطط له.
هل خطر في بالك حينها الذهاب بنفسك إلى الصومال؟
نعم كنت أفكر بالموضوع، لكن بعد أن توطدت علاقتي بالجندين البورونديين شعرت أنهما فرصة مثالية، وأني يمكن أن أحركهما عن بعد وأخرج فيلماً عن الصومال. وهذا ما فعلناه.
هل دربتهما لفترة طويلة؟ وما طبيعة التدريب الذي خضعا له؟
هما لم يكونا يملكان أي خبرات على صعيد استخدام الكاميرا، أو تكوين التركيبات الجمالية للصورة. لم أشأ أن أخضعهما لتدريبات معقدة، إذ كان التدريب مُبسطاً كثيراً، فبدأنا بكيفية فتح وغلق الكاميرا وتركيز الصورة وتشغيل الصوت وأشياء أساسية أخرى. التعليمات كانت تتلخص بأن عليهم وبشكل يومي تصوير الأشياء المهمة التي تصادفهما، وإذا حصل موقف ما، فعليهم تشغيل الكاميرا وتوجيهها نحو الهدف لفترة لا تقل عن عشرة دقائق. عن طريق هذه الاستراتيجية حصلنا على مشاهد مهمة. التدريبات التي قمنا بها للجندين أخذت ثلاثة أيام فقط.
في البداية خططنا أن يتقاسم الجنديان المهمات، حيث يصور أحدهما ويتولى الجندي الآخر تسجيل الصوت. لكن كان من الصعب الجمع بين الجندين بمكان واحد لأسباب تتعلق بواجباتهم في وحدتهم العسكرية. الشيء الجيد أننا دربنا كليهما على استخدام الكاميرا والصوت، أي كان يمكن لأيّ منها العمل بمفرده. في المحصلة صور أحد الجندين حوالي ثمانين بالمئة من المادة الكليّة ونفذ الجندي الآخر الباقي.
هل تتبعت خلال تلك السنة عمليات التصوير مع الجندين، هل كان لك اتصالات مكثفة معهما، أو شاهدت أي من المادة المصورة خلال تلك السنة؟
نعم. كان يرسلا لي أشرطة مصورة كل ثلاثة أسابيع. ما أن أتصل المادة حتى نضعها في نظام الديجيتال، وكنت أعطيهم بعض الملاحظات. في الأشرطة الثلاثة الأولى كانت الصور غير صالحة إذ تعرضت إلى ضوء كبير فبدت بيضاء تماماً. كما صورا لساعات شاحنات كانت تنقل معدات وأزبال. بالطبع هذا كان واقعهم وما كانا يمران به، وهو ما طلبته منهم، أي تصوير حياتهم اليومية، لكن مشاهد الشاحنات الطويلة تلك لم تكن مهمة للفيلم بالطبع. بقينا على اتصال على طوال العام عن طريق مترجم.
أين كنت وقتها؟
كنت في النرويج، وتابعت من هناك عمليات التصوير في الصومال. العمل سّار على النحو التالي: تصل الأشرطة من الصومال إلى بوروندي عن طريق البريد العسكري، وبعدها تُرسل عن طريق البريد العادي إلى النرويج.
متى شعرت خلال العام ذاك، أن هناك مادة مهمة تجمعت لديك، والتي يمكن أن تكون الأساس لفيلم ثري يقول الكثير عن المنطقة والزمن الذي خدمت فيه تلك الوحدة الأفريقية في الصومال؟
كنا دائماً غير واثقين بما سيحصل. المشروع كله يعد تجربة جديدة لنا. أن تدع جنديان لا يملكان خبرات في صناعة الأفلام لتصوير يومياتهما في منطقة حرب كان مغامرة كبيرة. كما كانت المادة المصورة مشوشة وفوضوية كثيراً، وضمت حوارات بعدة لغات، ومنها لغة الصم والبكم، التي كان يتحدث بها صوماليين كانوا يترددون على وحدة الجيش البوروندي.
كان صعبا كثيراً حَصِّر وفهم ما كنا نشاهده من المواد التي كانت تصل إلينا، خاصة أننا في ذلك الوقت لم نكن نملك الإمكانيات لترجمة الحوارات في تلك المادة. لذلك طلبنا من الجندين أن يوصلا التصوير. في البداية كان هناك في المادة المصورة الكثير من الانتظار والضجر لجنود وحدة الجيش البوروندي، بعدها حدثت معركة قوية، عندها عرفنا أننا على الأقل نملك مادة مهمة عن تلك المعركة والتي تعكس الصراع والقسوة هناك. بعد ذلك حصلت على مساعد في النرويج يتكلم عدة لغات أفريقية. هذا ساعدني كثيراً، إذ كان يجلس معي في المكتب ويترجم بصورة مباشرة المادة المصورة التي كنا نشاهدها. بالحقيقة احتجت إلى عامين بعد نهاية سنة التصوير لكي أصل إلى قناعة أن هناك مادة كافية لعمل هذا الفيلم التسجيلي.
أحد أسباب التأخير هو وجود أطفال ونساء في الفيلم، حيث احتجنا لوقت طويل حتى نصل إلى قرارات بشأن عرض صورهم في الفيلم لحساسية هذه القضية بالطبع. وحتى بعد الانتهاء من النسخة الأولية للفيلم، قضينا وقتاً طويلاً ونحن نراجع تلك النسخة، ونحذف منها مشاهد يظهر فيها أطفال ونساء، لخوفنا أن هذه المشاهد يمكن أن تلحق ضرر بهم إذا شاهدها ناس عادين أو قوى أمنية في الصومال.
نشاهد في مواقع عديدة في الفيلم الميكروفون المخصص لتسجيل الصوت، كما كانت الكاميرا تهتز أحياناً، وهناك مشاهد كان الجنود البورونديين يتحدثون للكاميرا التي كانت تصورهم. لم تشأ أن تخفي هذه التفاصيل التي تظهر الطبيعة غير الاحترافية لهذا المشروع التسجيلي، هل كان هذا جزءاً من مقاربتك الخاصة؟
نعم، أردنا أن نبقى أوفياء لطبيعة المشروع التسجيلي الخاصة، ونظهرها بصدق كما هي وكما صورها الجنديان. كانت هناك تحديات منها عدم وجود شخصية رئيسية يمكن للمشاهد تتبع ما يحصل لها. كما أن الفيلم – ولأنه لم يصور بشكل احترافي – لا يحتوي على مشهديات متراكبة ومنتظمة. لذلك قررنا في بداية الفيلم بالتحديد أن نجعل الكاميرا نفسها شخصية رئيسية في العمل. من هنا كان هناك الكثير من الحركة والنشاط حول الكاميرا في المشاهد الأولى، حيث كان الجنود الآخرين في بداية عام التصوير يمزحون للكاميرا ويخاطبوا الذي يحملها لأنهم لم يعتادوا وجود كاميرا بينهم، بعد ذلك أَلِفَ الجنود وجود الكاميرا ولم يعودوا يلتفتون لها. وعندما أصبح الوضع الأمني سيئاً هناك، لم يعد الجنود يملكون الوقت على الإطلاق للاهتمام بحضور الكاميرا.
شخصياً، أحب اللحظات التي يمكن رؤية معدات الصوت في الكادر. وحتى عندما يظهر ظل الكاميرا في المشهد، كما حصل عندما أصيب زميل للجندي الذي كان يصور، مما اضطر الأخير لحمل زميله بينما واصل التصوير باليد الأخرى. هذه اللحظات تأتي مغلفة بروح الحقيقة.
هناك مشهداً في الفيلم لرجل إعلام غربي كان ينصح الجنود وقادتهم عن أفضل الطرق الحديثة للميديا، ثم رأينا بعدها فريقاً من محطة “سي إن إن” الإخبارية الأمريكية وهو يلتقي قادة من الجيش البوروندي فيما كان كاميرا فيلمك تصورهم، هل كان صعباً إقناع محطة “سي إن إن” بتصوريهم أثناء عملهم، خاصة أننا نعرف أن المحطات التلفزيونية الغربية لا تسمح بالعادة بتصوير كواليس عملها؟
لم أكن موجوداً اثناء حضور الإعلام الغربي في المشهد الذي تقصده، لكن التصوير بدا أنه تم دون مشاكل. الجنديان الذين كان يعملان لمشروع هذا الفيلم كان يصوران طوال الوقت، وكان هذا معروفا لجميع العاملين في الوحدة العسكرية. كان الجميع هناك يعرف غاية التصوير (جمع مادة لفيلم تسجيلي قادم)، لكن البعض نسى ذلك وبدأ يعتقد أن التصوير هو لأغراض شخصية وهذا ساعد أيضاً في عدم اهتمام الجنود أو ضيوفهم بحضور الكاميرا. الشيء الذي أسعدني جداً أن المشهد ذاك يُبين الفروقات بين أن يقوم جندي من هناك بتصوير ما يحدث وتغطيات الإعلام الرسمي التي يتم التحضير لها جيداً.
يحتوي الفيلم على العديد من المشاهد العنيفة والقاسية جداً التي تظهر جثثاً، وجرحى، وأسرى من الأطفال، ونساء صوماليات ربما كن يحاولن أن يبعن الجنس لجنود بورونديين. كيف تعاملت مع الأسئلة الأخلاقية لهذه المشاهد؟
النسخة النهائية من الفيلم هي أقل حدة بكثير من المادة المصورة الأصلية. الكثير من المادة المصورة التي وصلت إلينا لا تصلح للعرض بسبب وحشيتها. لم يكن مصورا الفيلم يملكان الشفرات والقوانين الأخلاقية التي تتعلق بتصوير الحروب والنزاعات المسلحة والتي يملكها بالعادة الآتون من القارة الأوروبية. أعتقد أنهما أيضاً يفكران بالموت على نحو مختلف. أظهرنا في الفيلم بعض الصور العنيفة لأننا كنا نريد أن نصنع فيلماً صادقاً قريباً من انطباعات الذين صورا المادة والبقاء مخلصين لمنظارهما للعالم من حولهما.
اخترنا مشاهد تعكس الرعب الذي عاشه جنود وحدة الجيش البوروندي، وما يعانيه أيضاً الصوماليون الذين يسكنون هناك. كما أردنا أن يحترم الفيلم ذكرى الضحايا ولا يتجاوز الحدود. لذلك انتقينا مشاهد لا يمكن التعرف فيها بسهولة على الضحايا. مثلاً أظهرنا جثة كانت متحللة يستحيل التعرف على هوية صاحبها.
كانت قرارات صعبة كثيراً عن الذي يمكن أن تظهره أو الذي يجب أن يصل إلى الفيلم. تناقشنا كثيراً وشعرنا أننا يجب أن نظهر العالم كما هو وما يجري فيه من وحشية، وعدم إخفاء كل شيء، لان إخفاء بشاعة الحرب هو الاشتراك على نحو ما فيها. كما كان علينا في نفس الوقت الالتزام بمعايير معينة. أتمنى أننا نجحنا أن نجد التوازن بين هذه القضايا الصعبة.
كما تعرف أن بعض مناطق الشرق الأوسط مُغلق الآن بوجه الإعلام وصانعي الأفلام بسبب العنف، هل تنصح باستخدام أسلوبك في عمل فيلم “جنود مقديشو” للذين يرغبون بعمل أفلاماً عن مناطق خطرة؟ وماذا عن الموضوعية؟ كما تعرف مقاربتك في هذا الفيلم هي مثيرة للجدلّ، إذ لا يمكن على نحو جازم لك كصناع أفلام الوثوق بكل الصور التي وصلتك، حيث إنها بالنهاية ما أراد الجنديان تصويره، ولا يمكن لك كمخرج التأكد منها؟
مُقاربتنا في فيلم “جنود مقديشو” تعّد وعلى عدة مستويات صعبة كثيراً في صناعة الأفلام التسجيلية. كما أني أعتقد أن العمل بهذا الأسلوب يمكن أن يعطي صورة مشتتة وغير دقيقة عن الواقع. عملت الكثير من التحقيقيات بنفسي عما يجري في مركز اللاجئين الذي ظهر في الفيلم، لكني بالطبع لا أستطيع أن أكون متأكداً تماماً من دقة المادة الصورية التي وصلتني، أو التحقيق في التفاصيل والممارسات التي يقال إنها شائعة هناك، مثل اغتصاب فتيات من الصومال عن طريق جنود أفارقة، إذ أني لن أحصل – ولأسباب بديهية – على حقائق من هذا النوع من جنديين أفريقيين يخدمان في الصومال. بالطبع لا يمكن تعويض وجود المخرج بنفسه في مكان الحدث، لكن هذا كان أمراً محالاً بالنسبة لهذا الفيلم.
سأوصي أي شخص يريد أن يعمل الشيء نفسه لما قمنا به في فيلم “جنود مقديشو” بأن يكون حريصاً على التدقيق بما يصل إليه، وأن يجمع أكبر قدر من المعلومات عن موضوعته، وأن يحاول أن ينشأ علاقات مع أشخاص يعيشون هناك، حتى يستطيع مع هؤلاء التدقيق في المعلومات والصور التي تصل إليه من أطراف أخرى.