ضائعون في سفن مهجورة

محمد موسى
سفينة ركاب مغربية متروكة للصدأ بعد حجزها في ميناء فرنسي إثر مشاكل مالية لصاحبها مع دائنيه، سوريون يعملون في سفن تنقل ماشية لتباع على الجانب العربي من البحر الأبيض المتوسط، مغاربة يتناقشون في أمور الدين في غرف سفن قليلة الإنارة، هذه هي بعض شخصيات ومشهديات الفيلم التسجيلي “اليابسة” (الفيلم له عنوان أجنبي هو: ” Terra Firma”) للمخرج الفرنسي من الأُصول المغربية “لوران آيت بنعلا”، والذي قضى أشهرا عديدة يصور الحياة اليومية في ميناء فرنسي، وخرج منها بفيلم شديد الاختلاف عن السائد من الأفلام التسجيلية، بابتعاده عن السرد التصاعدي والمقاربة التقليدية، وتماهيه وتفاعله مع أجواء المكان الخاصة، والذي كان دائماً نقطة التقاء غرباء وتجار وضائعين وباحثين عن الأحلام والعمل.
من بين شخصيات الفيلم، شاب سوري لم يصل إلى الثامنة عشر من العمر، لكنه يبدو وكأنه يحمل هموم العالم على كتفيه، فالحرب أجبرته على ترك مدينته حمص، وهو الآن يعمل على واحدة من السفن التي تنقل الماشية من فرنسا إلى الشرق الأوسط. يتشكل زمن الفيلم من صور موحشة، بسبب الطبيعة الخشنة للمنطقة الصناعية للميناء التي يبقي الفيلم ضمن حدودها الجغرافية، ولما تعكسه الشخصيات العربية في الفيلم من قلق، وثقل ما تحمله من أزمات العالم البعيد الذي أتت منه. بدت شخصيات الفيلم من العرب ضائعة ومهزومة، وهذا سيقرب الفيلم وعلى نحو ما من مجموعة الأفلام التسجيلية في السنوات الأخيرة، والتي تقرأ الواقع العربي عبر البحث في القصص الذاتية لناس من المنطقة.

بدأ المخرج “لوران آيت بنعلا” بإخراج الأفلام في عام 2003، وفيلمه “اليابسة” والذي شارك فيه في الدورة الأخيرة لمهرجان دبي السينمائي هو السادس له.
وفي الآتي حوار مع المخرج عن فيلمه الجديد:
لا يوجد سرد واضح في فيلمك التسجيلي، والذي تحل محله سلسلة من المشهديات والشخصيات التي تمر دون أسماء أو تعريفات، وأجواء متميزة بعتمتها. ما هي قصة هذا الفيلم، ولماذا لم ترغب أن تتبع مسّاراً تقليدياً في إخراجه؟
نعم هذا الفيلم كان مدفوعا بالرغبة في تصوير المناظر الصناعية، والهرب من مناطق السينما التي نعرفها أصلاً. كنت أريد للفيلم أن يجد طريقه بشكل آخر وبدل تتبع مسار واضح، كنت مهتماً بمنح المشاهد الشعور بأنه ضائع في الزمان والمكان. وخلق حالة من الوعي تجعلنا نأخذ بنظر الاعتبار ونحسّ بما حولنا من البشر و الحيوانات والمعادن والغيوم، المطر .. إلخ. كما أني أردت أن أقارب حاله شبه الهجران على السفن التي اعتدت أن أركبها عندما كنت طفلاً وعلاقتها بحركة الحياة من حولها.
مصدر آخر للإلهام في هذا العمل، كان فيلم المُخرجة البلجيكية الراحلة شانتال أكرمان “D’Est “، والذي صُوّر في وسط أوروبا والاتحاد السوفيتي السابق، في نفس الوقت الذي كنت أعيش في تلك المنطقة. الفيلم ذاك لم يكن يتضمن حواراً أو سرداً تقليدياً، وهذا خاطبني حقا، وفتح الباب لاكتشاف عناصر قوة السينما (الصوت والصورة). وهو أمر نادراً ما يتم اكتشافه عن طريق هذه الثنائية. السينما حالها حال الفنون الأخرى يجب أن تكون الوسيلة لتجربة حرياتنا عن طريق استكشاف إمكانياتها.
كيف سمعت بهذا الميناء، وما الذي وجدته مُثيراً هناك؟
بالحقيقة لقد صورت الفيلم في نفس المكان في فرنسا الذي كنت أصل إليه كطفل في طريقي لزيارة أهلي في فرنسا، وكحال الكثيرين الذين يعيشون في المغرب، كان هذا الميناء ولحد الآن نقطة اتصال بين طنجة وشمال أفريقيا بشكل عام مع الجهة المطلة على البحر الأبيض المتوسط في أوروبا. عندما سمعت أن السفينة التي كنت أبحر فيها عندما كنت طفلاً تم حجزها بسبب ديون على صاحبها، شعرت أن حقبة زمنية على وشك الانتهاء، وقررت أن أقابل آخر العاملين الذين بقوا على السفينة، والذين كانوا يأملون بالحصول على معاشاتهم غير المدفوعة بعد بيع السفينة.
لكن لا شيء حدث وكانوا ينتظرون وينتظرون. عندها قررت أن أوجه انتباهي إلى الحركة حولهم، واكتشفت حينها أن هذا الميناء هو النقطة الرئيسية في فرنسا لنقل الماشية إلى مناطق البحر الأبيض المتوسط. حضور وتجارة الحيوانات في الميناء مكنني من رؤية المكان من وجهة نظر تقترب من الأسطورية. هذا إضافة إلى منظر السفن العملاقة المهجورة، والشعور بالإنسانية المفقودة في تلك المحطة الانتقالية كلها أشياء أثارت اهتمامي وشكَّلت نقطة البداية لتطوير هذا الفيلم.

ما نوع التحضيرات التي قمت بها، وكيف كنت تعد شخصياتك للحديث للكاميرا، بخاصة أنك لم تكن تسعى إلى مقابلات نمطية على غرار الشائع في معظم الأفلام التسجيلية؟
لقد كانت عملية طويلة لأجل الحصول على تصريحات الدخول إلى الميناء. لا أعتقد أنه من الممكن اليوم الحصول على نفس الأذونات بسبب الأعمال الإرهابية التي ضربت فرنسا العام الماضي. عندما دخلت إلى الميناء عرفت سريعاً أنه ليس هناك وصفة سريّة من أجل اكتشاف المكان والناس، سوى أن أقضي أوقاتاً طويلة هناك. لقد تطلب الأمر مني تسعة أشهر من الوجود هناك لتصوير هذا الفيلم.
كان هناك عدة سفن تتعامل مع نقل الماشية في الميناء. الشباب من سفينة ” ETAB” والذين يختصون بنقل الماشية الحيّة، كانوا الأكثر تعبيراً بوجوههم وتصرفاتهم، لذلك كان طبيعياً أن أصور في سفينتهم. عندما طلبت الإذن بالتصوير في السفينة قام قبطانها بالاتصال بمسؤوله في لبنان لطلب تصريح لي، والذي وافق وهذا سرّع الترحيب بي هناك. لكن في خلال التسعة أشهر التي قضيتها في الميناء، عادت السفينة إلى الميناء ثلاث مرات فقط، وقضوا هناك أياماً قليلة فقط، قبل أن تتوجه السفينة إلى وجهتها النهائية. ولأنهم كانوا يلتقون بي كل مرة يصلون بها إلى الميناء، تحول تصويرهم إلى عملية طبيعية، لذلك لم تكن هناك حاجة لتحضيرات. زُرت السفينة مع صديق لي من أُصول جزائرية، يعمل كباحث في علم الاجتماع، وكنا نقضي الأوقات في الحديث مع الناس مع كؤوس من الشاي.

الوضع السياسي، وما يحدث في الشرق الأوسط في الأعوام الأخيرة يُخيم كغمامة سواء حول فيلمك، هل الجانب السياسي كان أحد دوافعك لإخراج هذا الفيلم؟ لكي تكون قريباً من شخصيات من الشرق الأوسط في هذا الزمن الاستثنائي؟
لقد وصفت ما حدث بشكل ممتاز، في البداية لم يكن البعد السياسي السبب الرئيسي لهذا الفيلم، إذ أردت التعبير عن إنسانية ضائعة تنتظر أوقاتاً أفضل، لكن وبينما كنت أصور الفيلم، بدا البعد السياسي بالنضوج، وبعدها بدأت أدرك أن الناس الذين كنت أصورهم كانوا هناك بسبب التطورات الجيو- سياسية في منطقة الشرق الأوسط وعواقبها المتواصلة.
عندما سمعت بتفجير وتدمير قبر النبي يونس في الموصل في العراق والذي جاء بعد كل الكوارث التي حدثت في المنطقة، قررت أن ذكر “يونس” سيفتتح ويختتم هذا الفيلم. في مقدمة رواية الكاتب الأمريكي هرمان ملفيل “موبي ديك”، دخلت الشخصية الرئيسية إلى الكنيسة وسمعت بالقسّ وهو يذكر النبي يونس قبل البدء برحلته. أنا مهتم بفكرة الحرية التي يجسدها رجل يحاول التخلص مما ينتظر منه. الأساطير لا يُمكن قتلها، هي إرثنا المشترك وبالخصوص في فضاء البحر الأبيض المتوسط، والجهل هو واحد من الأخطار الكبرى في زمننا.
بدا الشاب السوري في الفيلم ضائعاً، وبعد ما مرَّ به في سورية، كيف كان العمل معه؟
رغم حداثة سّن الشاب السوري – هو كان في السابعة عشر من العمر فقط- بدا لي وكأنه عاش حيوات عديدة مثل الشخصيات الأسطورية. قصته لها صدى كوني، هو لا يستطيع العودة إلى مدينته حمص التي دُمرت، كما أنه قد يُرسل إلى الخدمة الإلزامية في جيش النظام السوري حال عودته. هو أيضاً كان يعيش حتى الثمالة ما يُمكن أن يطلق عليه الحاضر الأبدي، وهو مليء بالتوقعات والرغبة في الحياة.
أعتقد أني قابلته أثناء توقف السفينة التي يعمل فيها في الميناء الفرنسي لبضعة أيام. إذ لم يكن ممكناً للعمال السوريين في السفينة أن يغادروها. كان للسوري ذاك طاقة الشباب، وكان مستعداً للوقوف أمام الكاميرا وفهم ما أريده منه. حاولت منذ فترة إرسال رسالة له لمعرفة أخباره. لكن لم يجب أحد على رسالتي.

كيف تكون عمليات المونتاج لفيلم يرتكز على المناخات مثل فيلم “اليابسة”، هل لك أن تصف سير عمليات المونتاج في فيلمك؟
كانت عمليات المونتاج طويلة، بسبب عدم وجود مسار أحداث واضح في الفيلم. كان هناك عدة قصص مُتوازية، لذلك كان من الصعب إيجاد الاتجاه الصحيح والتوازن بين هذه القصص، ارتكزت الدراما بشكل أساسي على طبيعة الصور والأصوات. أردت أن يبدأ الفيلم بحركة من الظلام إلى النور الحارق، كاستعارة لوضعنا الحالي. ظلام يشبه بطن الحوت الذي انتقل منه النبي يونس إلى الأرض اليابسة، أردت أن أخلق توتراً يرتكز على صور الغيم والسماء ونقل الماشية إلى السفن، القسم الأخير من الفيلم يمكن رؤيته كتحضير للوداع، والذي يتألف من المشاهد المضيئة.
فيلمك هو التسجيلي الثالث الذي أشاهده هذا العام لمخرجين شباب من دول المغرب العربي والتي تجنبت السرد التقليدي، وابتعدت تماماً عن الروح والبناء التلفزيونيين، هل لديك أيّ أفكار حول هذه الموجة الجديدة من صناعة الأفلام التسجيلية؟
عندي فضول لمعرفة الأفلام التي تقصدها، في حالتي وربما لهم أيضاً، ما قمت به في هذا الفيلم هو البحث عن حريتي الخاصة بعمل الأشياء وكما أحب أن أعملها. هل تعرف مقولة المخرج جان لوك غودار التي تتعلق بالفروقات بين صناعة فيلم سياسي وصناعة الأفلام سياسياً ربما هذا ما سعيت إليه عبر هذا الفيلم. ما لفت انتباهك في الأفلام التي أشرت لها ربما يكون علامة عن جيل من المخرجين يحاولون تطوير ومشاركة رغبتهم بالحرية.
هل لك أن تخبرنا عن نفسك، في أيّ بلد وُلدت، وأين درست؟
ولدت في فرنسا من أُمّ فرنسية وأب مغربي، عشت طفولتي في المغرب وحتى انتقال أسرتي إلى فرنسا عندما كنت في الثامنة من العمر. في فرنسا كان جدي يقوم بتصوير العديد من الأفلام أثناء التجمعات العائلية، وعرض عليّ النظر من خلال عدسة كاميراته عندما كنت في العاشرة. كان اكتشاف حقيقي وقتها: عالم من الضوء يُم��ن رؤيته من خلال مُربع من الظلمة.
بعدها، وعبر برامج التبادل الطلابي، قضيت سنة في روسيا عندما كنت في السابعة عشرة. كنت آمل وقتها أن أتمكن من دخول مدرسة ” VGIK” للسينما في موسكو، لكن الحياة في روسيا كانت غالية كثيراً ولم يكن مُمكناً لي تحمل تكاليفها. لذلك درست نظريات السينما في الجامعة، وتعلمت الجانب العملي عن طريق العمل كمُشغل كاميرا في مدينة صغيرة في جنوب فرنسا حيث أعيش.