عبير زيبق حداد تتحدى المسكوت عنه
حاورها: محمد موسى
تدخل المخرجة الفلسطينية عبير زيبق حداد في فيلمها التسجيلي الجديد “نساء الحرية”، في تعقيدات قضية جرائم الشرف في المجتمع الفلسطيني، والتي تعد إحدى القضايا الحساسة التي تتهرب من مواجهتها معظم المجتمعات العربية والشرقية. تذهب المخرجة في فيلمها في عدة اتجاهات، فتقابل فلسطينيات نجون من القتل بأعجوبة ويعشن اليوم مُتخفيات عن أهلن، وعائلة فلسطينية مازالت في حداد طويل على ابنتها طالبة كلية الطب التي قُتلت تحت ما يسمى المحافظة على الشرف، وتتساءل “حداد” عن لامبالاة السلطات الأمنية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيات اللواتي يقتلن، وكيف تقفز هذه السلطات إلى خلاصات متعجلة ومُريبة أحياناً بأن لا جدوى من التحقيقات الجنائية، إذ إنها تعتبر فعل قتل الفلسطينيات له علاقة وثيقة بتقاليد المجتمع الشرقي المتخلف الذي أتين منه.
وعلى رغم أن مقاربة الموضوع المحرم وحده يستنزف الكثير من الجهد، الا أن المخرجة تعثر أيضاً على المعالجة السينمائية المبدعة للخوض في هذه القضايا الشائكة، فتبتكر مثلاً حلولاً متميزة حقا لتفصيلة إخفاء وجوه نساء الفيلم دون أن تثقل العمل، وكما يحصل بالعادة مع الأفلام التي تختار التمويه الإلكتروني للوجوه.

تنطلق المخرجة من تجربة ذاتية، إذ تحاول أن تعثر على تفاصيل عن حكاية فتاة فلسطينية سمعت عنها في طفولتها، قتلتها عائلتها بالسم. هذا سيشكل أحد مسارات الفيلم. في حين يبدأ الأخير برسالة قانطة أرسلها شاب فلسطيني من السجن حيث يقضي عقوبة لأنه قتل شقيقته، وينتهي برسالة لفتاة فلسطينية تعيش مختبئة خوفاً من عائلتها، وستتحدث هي الأخرى بيأس شديد عن حياتها التي انطفأت منذ هروبها. بين الرسالتين، تقدم المخرجة عالماً قاسياً مُعقداً ونساء فلسطينيات يحاولن كسر دائرة العنف المتواصلة.
وفيلم “نساء الحرية” هو الثاني للمخرجة بعد فيلمها المهم الآخر “دُمى” (2011)، والذي تناول موضوع الاعتداءات الجنسية على الفتيات ضمن العائلة أو المحيط الصغير الذي يعشن فيه. يمكن اعتبار الفيلم الجديد استكمالاً للفيلم السابق لجهة خوضه في المحرمات والمسكوت عنه، ليس بدواعي الإثارة، ولكن إيماناً بدور السينما في فتح نقاشات عامة، وليضيف الفيلم إلى جهود الجمعيات النسوية وغيرها من جمعيات المجتمع المدني في فلسطين لتصحيح مفاهيم، وتحذير من عنف يُرتكب ضد نساء فلسطينيات وتحت مُسميات شتى.

وفي الآتي حوار مع المخرجة عبير زيبق حداد:
بَدا في فيلم “نساء الحرية” أنكِ تملكين علاقات واسعة وقوية بمؤسسات المجتمع المدني وبالخصوص المنظمات النسوية في فلسطين عام 1948، فهل أنتِ نشطة في عالم هذه المنظمات والمؤسسات؟
كلا. خلفيتي مسرحية تمثيلية. معي ماجستير في المسرح، وعندي كتاب اسمه “المسرح الفلسطيني في الجليل”. كنت مشغولة بشكل أساسي في مجال المسرح وليس السينما. عملت في الماضي مسرحيات للأطفال. في عام 2006 أخرجت مسرحية اسمها “شوكولاته” تحكي عن الاعتداءات الجنسية التي يتعرض لها الأطفال. فازت المسرحية بأربع جوائز في مهرجان حيفا للأطفال. لكن لصعوبة وصول المسرح إلى الجمهور الواسع، فكرت بالسينما كوسيط بديل. شكَّلت بعض أفكار المسرحية المذكورة الأساس لفيلمي “دُمى”.
يبدأ فيلم “نساء الحرية” برسالة صوتية لشاب فلسطيني أرسلها من السجن حيث يقضي عقوبة طويلة لقتله شقيقته. كيف وصلتِ إلى هذه القصة وكيف أقنعتِه بكتابة تلك الرسالة المؤثرة؟
جمعني لقاء مع نساء حول القضايا التي يتناولها فيلم “نساء الحرية”، وهنّ من أخبرنني بوجود شاب يقضي عقوبة السجن لأنه قتل أُخته ضمن ما يعرف بجرائم الشرف، وبعدها أعلن ندمه على فعلته وأرسل رسالة عامة يكشف فيها عن موقفه الجديد. حاولت أن أصل إلى ذلك الشاب لكنه كان من الصعب الذهاب إلى السجن أو مقابلته، كما أن لقاءَ من هذا النوع سيكون صعباً لي على الصعيد الشخصي، بأن ألتقي شخصاً قتل أُخته. وكنت في صراع نفسي، ما إذا كنت أرغب فعلاً في مقابلته أم لا. وحائرة وقتها بين منحه شرعية ليتحدث في الفيلم أم أنه لا يستحق هذه المنصة.
في النهاية قررت أن أحاول أن أحاور هذا الشاب بالتحديد. لكن ترتيب اللقاء كان صعباً للغاية، بسبب الأمور الإجرائية مع إدارة السجن، إذ إنني لا أملك علاقات هناك. كما أن عائلته هي من تزوره فقط. في النهاية طلبت إذنا بزيارته على أساس أن واحدة من عائلته. في البدء رفض الحضور لمقابلتي لأنه لا يتوقع الكثير من الزوار وكان مُرتبكا، بعد ذلك جاء وتحدثنا. قال لي وقتها إنه لا يعتقد أن الفيلم سيساعد في التغيير وأن المجتمع سيبقى على حاله. حاولت حينها إقناعه بأن صوته مهم، وأن ظهوره يُمكن أن يغير من أفكار الشباب الذين في أعمار فتية، وأن الشباب فئة مهمة، وشهادته تصب في منع الجريمة القادمة.

بعد حوالي نصف عام حاولت مرة أخرى مع هذا الشاب، وذهبت إلى السجن عدة مرات لهذا الغرض لكنه كان يرفض. عندها طلبت منه أن يكتب لي رسالة دون أن أحدد ماذا يجب أن يكتب. بعد فترة أرسل رسالة، واتصل بعدها بي ليتأكد من وصولها. بعد أن وصلت الرسالة بدأنا التساؤل ماذا يمكننا أن نفعل بها. واستغرق منا وقتاً طويلاً لإيجاد طريقة لتوظيف الرسالة ضمن سياقات الفيلم. كل تفصيلة صغيرة في الفيلم أخذت منا الكثير من الوقت حتى نعالجها.
تناولت قضية حساسة أخرى ضمن فيلمك، والتي كانت عن التعامل غير الجدي للسلطات الإسرائيلية مع جرائم القتل المتعلقة بالشرف في المجتمع العربي، وخطورة هذا من حيث أن البعض يمكن أن يستغل لامبالاة السلطات لارتكاب جرائم وتغطيتها بالعادات والشرف.
الذي يحصل أن كل فلسطينية تقتل توصم قضيتها بجرائم الشرف. وهذا يجعلنا نسأل السلطات، ما إذا كانت حققت في هذه الجرائم أو قامت بالفحوصات المطلوبة، وكيف يمكن أن تصل السلطات الأمنية الإسرائيلية إلى هذه الخلاصات، أحياناً بعد ساعات من وقوع الجرائم. هذه أسئلة تقلق الكثيرين هنا. وهذا كان رأي عاملين في منظمات نسائية مثل النائبة عائدة توما والتي كانت وقت تصوير الفيلم رئيسة جمعية “نساء ضد العنف” في الناصرة.

كان مُهماً كثيراً لي في هذا الفيلم مُحاورة ناس من جيلي يعيشون في المناطق نفسها التي عشت فيها، وعرض جهودهم لتغيير المفاهيم التي تخص هذه القضية داخل المؤسسات الأمنية والإعلامية الإسرائيلية. من هذا أعتقد أن الفيلم يطرح أسئلة عن دور مؤسسات عديدة ويدفعها للتفكير بمسؤولياتها تجاه قضية جرائم الشرف.
هل كان صعباً إقناع العائلة التي ظهرت في الفيلم والتي خسرت ابنتها طالبة كلية الطب في “جريمة شرف”، بخاصة أن أعضاء هذه العائلة لم يغطوا وجوهم وكشفوا عن هوياتهم على خلاف الآخرين في الفيلم؟
في الحقيقة كان لي تصور آخر للفيلم، إذ كنت أريد أن أركز على موضوع القتل. لكن عندما قابلت عوائل بعض اللوتي قتلن، والذين رفضوا بالإجماع الظهور في الفيلم وقالوا لي نحن نريد أن ننسى ما حصل، فأرجوك لا تفتحي جروح الماضي، فكرت حينها بمنح مساحة لعوائل الفتيات. بعدها بدأت بالذهاب إلى تلك العائلة وزيارتها للحديث عن مشروع الفيلم، والذي وافقوا عليه بدون شروط وكانوا متعاونين للغاية مع المشروع والتعامل معهم كان سهلاً، وبدأنا التخطيط لمشاهد العائلة والتي مرَّت هي أيضاً بصيرورة طويلة واختيارات خاصة بالصور التي نريد أن تصل إلى الفيلم، وكيفية إرجاع الشخصيات إلى حالات نفسية معينة.

لم ترغبِي مع تلك العائلة بالدخول في تفاصيل تخص ابنتهم المقتولة، كيف قُتلت ومن القاتل، هل كان هذا خياراً واعياً منك أم هو شرط للعائلة مقابل الحديث لك؟
لا لم أحب الدخول في تفاصيل تلك القضية الجنائية، لأن ذلك سيعني أننا سننتهي بفيلم آخر مختلف. بالحقيقة كل فتاة في الفيلم كانت قصتها يمكن أن تكون فيلماً مستقلاً. ماحاولته مع هذه العائلة هو القبض على مشاعر الحزن والإحباط والفقدان التي يعيشون فيها. المهم بالنسبة لي ما تحدث به الأب في الفيلم، بأن المحقق الإسرائيلي قال إنها جريمة شرف عائلي، ورده عليه بأنه كيف توصل إلى هذه النتيجة بهذه السرعة. ثم كيف يقول أحدهم لأب أرسل ابنته إلى مدينة أخرى لتدرس الطب بأن مقتلها هو قضية شرف عائلي؟
في الفيلم ذهبتِ إلى أخيك وفتحتِ النقاش معه ومع ابنه عن قضية جرائم الشرف، ووجهتِ النقد لنفسك حول المعايير المزدوجة وتعقيد قضية الشرف في المجتمعات العربية.. ما أسبابك لذلك؟
أعتقد أن المسؤولية جماعية. لا نستطيع أن نقول إن جرائم الشرف تحدث في مجتمعات معينة أو عند فئة غير متعلمة. هذه ظاهرة ممكن تحدث لكل واحد منا، وكل منا يجب أن يتحمل المسؤولية لتغيير هذه الظاهرة وظواهر أخرى، لأن الفيلم يتضمن أبعاداً أخرى أكثر من مجرد التركيز على ظاهرة جرائم الشرف. إشراك أخي في الفيلم كان إشكالية ليّ. رغم أن أخي هذا هو متعلم ومتحرر كثيراً، وكانت له مواقف شخصية في حياته أعرفها جيداً تُثبت انفتاحه.
رغم كل هذا، وعندما تضع نتائج البحث الميداني الذي أُجري في مدينة حيفا حول مواقف الشباب العرب من جرائم الشرف، والذي يبين النسبة العالية كثيراً للشباب الفلسطيني الذي يؤيد قتل النساء، ويقول إن المرأة هي السبب فيما يحصل لها، كان يتوجب عليّ أن أسال أخي. هو لا يؤيد قتل النساء لكن يقول إن المرأة هي المسؤولة عما يحصل لها. رغبت من هذه الأسئلة أن أجعل المشاهد يفكر بمسؤوليته، بمن فيهم النساء، فعندما تُقتل امرأة تبدأ حتى النساء المثقفات يتساءلن ما إذا كان المقتولة قد اقترفت أمراً ما يخالف التقاليد وهو السبب الذي أدى إلى قتلها.

كيف كانت تجربة التصوير لك كامرأة، وأنتِ التي قضيت وقتاً طويلاً مع أولئك النساء ثم كان عليك بعد نهاية التصوير أن تودعيهن؟
ربما بسبب عملي المتواصل لم أجد الوقت لكي أعاني أو أفكر (تضحك). هذا كان وقت تصوير الفيلم، أما بعد الانتهاء منه فكنت مشغولة بالترويج له ومحاولة إيصاله إلى أكبر جمهور ممكن. بالنسبة إلى فتيات الفيلم، أعتقد أنهن قويات بما يكفي ليكملن حياتهن. علاقتي مع الفتيات كانت مبنية على الاحترام الكبير. لا نلتقي يوميا لكني اتصلت بهن لأريهن الأجزاء الخاصة بهن في الفيلم. واحدة من الفتيات رفضت مشاهدة الفيلم بأكمله، لما يُمكن أن يؤثر ذلك على حالتها النفسية، لكنها كانت راضية عن الجزء الخاص بها في الفيلم.
الشيء اللافت في فيلمك الأخير وحتى فيلم “دُمى” هو المعالجة السينمائية الأصيلة لموضوع صعب. كيف تغلبت مثلاً على قضية تغطية وجوه الفتيات اللواتي لم يرغبن بكشف هوياتهن؟
هذه النقطة بالتحديد أخذت الكثير من الوقت، وهي القضية التي واجهتنا في فيلم “دُمى” أيضاً، أي كيفية التعامل مع موضوع إخفاء هويات النساء في الأفلام. التحدي كان: كيف نشعر ونحسّ بهؤلاء النساء من دون أن نرى وجوههن. وجدنا الحل عبر عدة أساليب: كرؤيتهن من وراء ظلالهن، وتصوير انعكاس صورهن على المرايا والزجاج. فكرنا كثيراً وتكلمنا عن الحلول، وبقينا في حيرة إلى يوم التصوير. على صعيد التجهيز لتلك المشاهد، كنا نستغرق نصف نهار من أجل تصوير حوار واحد لتعقيد ما كنا نصوره. ولاحتياجنا إلى تجهيز إضاءة وغيرها من التفاصيل التقنية.
حاولت في “نساء الحرية” إيجاد طرق جديدة تختلف عن “دُمى”، رغم أوجه الترابط الموضوعي بينهما. لكني لم أرغب في تكرار نفس الوسائل التي استخدمها في الفيلم السابق والبحث عن حلول جديدة. مثل التصوير عبر حوض السمك. كل كادر في الفيلمين السابقين أخذ الكثير من الوقت والتحضيرات. وحتى عندما انتهى الفيلم الذي كانت نسخته الأولية بطول 70 دقيقة، بقيت قلقة على صور الشخصيات في الفيلم، واشتغلت مع الفريق التقني حتى نخفي هوية الفتيات تماماً.
التحدي كان تقديم صورة سينمائية مُتماسكة ومُؤثرة والمحافظة على خصوصية الفتيات وعدم عرض ��جوههن. رغم أن الفتيات أنفسهن قلن لي إنهن لم يعد يهتممن وأن ما يشغلهن هو أن تصل رسالة الفيلم، لأن كل واحدة من شخصيات الفيلم كانت تحمل بدورها رسالتها الخاصة، ورغبن بأن يشتركن في الفيلم على أمل أن يساعد هذا في تغيير المجتمع من حولهن.

هناك الكثير الذي يربط بين “نساء الحرية” و “دُمى”، هل تخططين للبقاء في هذه المنطقة الحساسة، وإخراج فيلم ثالث عن القضايا ذاتها؟
ربما يتوجب عمل شيء جديد في نفس الاتجاه، رغم أن فيلما مثل الفيلمين السابقين سيأخذ سنوات من العمل ومن حياتي.
هل أخذ الفيلم الأخير سنوات من التحضيرات؟
نعم بالتاكيد، عندما يشاهد الناس الفيلم على التلفزيون والذي يستغرق ساعة من وقتهم يعتقدون أن العمل عليه استغرق عدة شهور فقط، لكن العمل بالحقيقة يأخذ الكثير من الوقت. عندما عدت بعد انتهاء العمل إلى الفكرة الأولية التي كتبتها له، لم أجد فروقات كبيرة بين تلك الفكرة والمنتج النهائي. لكني أقرّ بصعوبة عمل فيلم يمسّ مشاعر الناس. هناك فرق بين عمل برنامج تلفزيوني تسجل فيه مقابلات سريعة وإنجاز فيلم سينمائي. حيث تصل القضية عن طريق الإحساس والشعور. فيلم يدفع إلى التأثر وحتى البكاء.
كان صعباً عليّ القيام بفيلم جديد بعد “دُمى”، والذي أخذ حيزاً كبيراً من وقتي وجهدي، والذي لازال ورغم أنه أُنتج في عام 2011، فإنه يُعرض في دوائر معينة. القريبون مني يسألونني كيف يُمكن أن أقوم بعد فيلم “دُمى” بإخراج فيلم جديد، لأنهم يعرفون كيف كان العمل في الفيلم ذاك متطلباً ومضنيا.