عائدون إلى بلاد العنف واللا معقول

المخرج وسام شرف

محمد موسى

تَنقل المخرج اللبناني وسام شرف منذ عام 2004 بين الفيلم القصير والتسجيلي، قبل أن يُقدِّم العام الفائت باكورته الروائية الطويلة “من السماء”، والذي عُرض في قسم جمعية الأفلام المستقلة للتوزيع “ACID” في مهرجان “كان” السينمائي. عاد المخرج هذا العام إلى فئة الفيلم الروائي القصير في فيلمه “فيما بعد”، والذي يقدم كحال سالفه قصة عن بطل يعود من المجهول وبعد غياب سنوات عديدة ليجد مجتمعًا لبنانيًا غائصًا في متاعبه ولم يُصفِّ حساباته مع تاريخه بعد، حيث العنف يتوارى تحت طبقة اليومي، والانفجار العام قريب دائمًا.

يصوغ المخرج في فيلمه الروائي الطويل “من السماء”، رؤية تقترب من الكابوسية لواقع لبناني، قُدّمت ضمن كوميديا سوداء، وترتكز على مفردات من الواقع اللبناني المعاش، كهاجس الهجرة الدائم، الأمن، الانهيارات النفسية، الجنون العام، وتمجيد الابتذال. يعود البطل في الفيلم والذي اختفى منذ زمن الحرب الأهلية إلى عائلته، لكن الفيلم يبتعد عن المقاربة الواقعية الشائعة، ويحيط عودة البطل تلك بغموض غير صارم، قبل أن يهزّ في نهايته الشاعرية الصادمة اليقين الذي بدأ به، دون أن تفقد الشخصيات والوضع العام الذي عرضه، حدتها أو قساوتها. 
إلى جانب الأفلام الروائية، جرب المخرج شرف في عام 2011 في السينما التسجيلية، عبر فيلمه “كل شيء في لبنان”، والذي قرأ بجودة وحرية لافتين الظواهر الفنيّة والإعلامية في لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية، في علاقتهما بالوضعين السياسي والاجتماعي في البلد، بما طرأ عليهما من تبدلات وتغييرات جوهرية، صاحب بعضها العنف الشديد.

عن أفلامه الأخيرة. كان لموقع الجزيرة الوثائقية هذا الحوار مع المخرج وسام شرف ..

يأتي بطلا فيلمي: “من السماء” و “فيما بعد”، من عوالم مجهول قريبة إلى الميتافيزيقا، ليعيدا شخصيات الفيلمين الأخرى إلى زمن الحروب اللبنانية السابقة، هل هما من أشباح الحرب أم منقذين أو محذرين لما يجري اليوم؟

بالفعل، الفيلمان الأخيران يدوران حول فكرة “العائد” (revenant). لا أحب الحديث عن “أشباح”، لأن لا أحد على الإطلاق رأى شبحًا ليكون قادرًا على وصفه. هناك تمثيلات لفكرة الشبح في الفن والأساطير، لكن قد تكون جميعها على خطأ. أحب في المقابل الحديث عن الحضور والغياب. شخصياتي تعود بعد غياب طويل، وحضورها يُعيد على النقيض التذكير بأشياء من الماضي، مثل البيت المهجور في فيلم “فيما بعد”، والشقيق المتروك في فيلم “من السماء”. 

هذه الشخصيات تأتي لتكشف أوضاعًا مُعينة. ليسلطوا الضوء عليها، وليجعلوا الصورة نفسها تبيّن تناقضاتها. وكما يحدث في التصوير الفوتغرافي. عندما عاد “سمير” في فيلم “من السماء”، جعلنا واعين بالفروقات والتحولات التي تعيشها عائلته وجيرانه والبلد بأكمله. في “فيما بعد”، عودة البطل إلى قريته تجعلنا نكتشف كيف مرَّ الزمن، وآثار اليأس والمساومة على الذين بقوا هناك.

 نعم، شخصياتي هي بين “العائدين” و”الأنبياء”، أو ببساطة أخوة ضائعين، لكنهم ليس بالضرورة يرغبون القيام بأفعال شريرة. هم يأتون بطريقة هادئة وتأملية.

مشهد من فيلم "من السماء"

إلى أي حد أثرّ بعدك عن لبنان في طبيعة قصص أفلامك، وأعني بالتحديد فترة الغياب للشخصيتين الرئيستين في فيلميك الأخيرين؟ هل الغياب في الفيلمين المذكورين يشبه البعد عن البلد؟ والعودة إليه تُهيج مشاعر غير متوقعة وتكشف إغتراب ووحدة وصدمة مما وصلت إليه أحواله؟

لم أكن أبدًا بعيدًا عن لبنان، فالرحلة إليه من باريس بالطائرة تأخذ أربع ساعات فقط. لذلك ليس الموضوع عن منفاي الخاص. التشابه بين الفيلمين الأخيرين لأنهما خرجا في الحقيقة من السيناريو نفسه. ولكن ولأسباب مُعقدة قسمته على فيلمين (“فيما بعد” و”من السماء”).
عودة البطلان في الفيلمين أثارت ردود أفعال. من الطبيعي أن نسأل أنفسنا: أين كان هذا الشخص كل هذا الوقت؟ لا أجعل شخصياتي تسأل هذا السؤال. بالنسبة لي السؤال موجود أصلاً، في الأوضاع نفسها. ليس من الضروري أن نسأل بصوت عالٍ. المشاهد سيشعر بالأبطال غريزيًا. عندها يكون الجواب غير مُهمًا بالحقيقة. المهم ما يحدث هنا والآن. والأوضاع والتحولات بين الهزلي والحنين التي يهيجها وجود الأبطال. وما التباينات الذي سيكشف عنها، والحالة المرضية في هذه العائلة، وبأثر مضاعف، للعديد من الأسر اللبنانية، والتي يمكن تعميمها على دول أخرى.

يتشَّكل الفيلمان من مجموعة من الصور والمشهديات الحادة القوية التي تستعيد الماضي وتهجو الحاضر، وتبدو أحيانًا مثل مقاطع من كوابيس، هل فكرت بها كصور منفصلة مثل الخواطر التي تمرّ فجأة، ثم شيدت بعد ذلك قصص الأفلام من حولها؟

من الدقيق القول إن أفلامي هي مجموعة من الصور، لأن الذاكرة عادة تأتي في شكل صور. لهذا لم تكن الأسباب الجمالية فقط التي دفعتني لأصور أفلامي عن طريق الأبعاد المربعة (square format)، وهو الشكل الذي يستخدم في الصور الفوتوغرافية الكلاسيكية.. الشكل الخاص بالذاكرة الفردية والذاكرات الجماعية.

هذان الفيلمان عن الذاكرة وكيف تتباطأ وتختفي ثم تعود مرة أخرى. غالبًا بطريقة إيقاعية وعندما لا نكون نتوقعها، كالبركان. لذلك الفيلمان غير تقليديان، وبإيقاع غير مألوف أو كلاسيكي. مثل الحياة في لبنان، حيث يبدو كل شيء على مايرام، لكن الحرب ممكن أن تنفجر في أي لحظة. نعيش حياة طبيعية لكن التهديد الوجودي فوق رؤوسنا. إنه أمر غير معقول، وأردت أن أرسم هذا الشك واللا معقولية في كل جانب من جوانب الفيلمين.

بالنسبة إلى الكتابة، معك حقك، لا أكتب بالطريقة التقليدية. لا أبدأ بفكرة، وأطور شخصيات وأتابع مسارها. ثم أصل إلى النهاية. بالمقابل أتخيل المشاهد والتي غالبًا لا ترتبط ببعضها، ثم أفكر بكيفية ربطها وإيجاد قاعدة مشتركة لها، غالبًا بشكل مجازي، وبعدها إيجاد ما يشبه القصة. تملك أفلامي غالبًا إطارًا سرديًا هشًا، لكن هذا ما أحبه في السينما: منح المشاهد المساحة لملأ الفراغات بنفسه. ربما يجد بعض المشاهدين أفلامي غير مريحة. أو تتطلب الكثير من الجهد الفكري. لكني لا أعتقد أن أفلامي تتطلب جهدًا كبيرًا لفهم ما يدور فيها. لأن القصص غالبًا هي أسهل مما يتصوره البعض.

مشهد من فيلم "فيما بعد"

هناك الكثير من السخرية في فيلمك “من السماء” من مشاكل لبنانية آنية معقدة، مثل: ثقافة السلاح والهوس بحماية النفس، الرغبة الدائمة في الهجرة من البلد، طغيان الفن المسطح وتصدر رموزه المشهد الحياتي العام، هل كان صعبًا ربط هذه التفاصيل مع قصة هي في الأساس عن الحرب وذكرياتها ومفقوديها؟

القصة لم تكن تدور بشكل أساسي عن الحرب. بل هي قصة عن عائلة، أو شقيقان يعرفان بعضهما جيدًا، ربما لحدود كبيرة جدًا، ولكن أيضًا ربما لا يعرفان بعضهما على الإطلاق. يمكن تعميم قصة الفيلم على المجتمع اللبناني. إذ أنها تعالج مجتمعاً مليئاً بالأعداء. حيث أصبح الجميع عدو الجميع.. سيكون مقاربة هذا الوضع حزينة جدا، لذلك كان أسلوبي هو معالجة الموضوع بالكوميديا، ليس بدواعي السخرية منه، ولكن بالأحرى لأني أعتقد أنك تبدأ في الضحك عن أشياء حزينة عندما تذهب إلى أبعد من اليأس.
هذا الفيلم هو عن القنوط وليس عن الكوميديا. لكن هناك خط رفيع جدًا بين هذين الشعورين. بشكل غير مباشر يتحدث الفيلم عن الحرب. لكنها تمثل جانبًا ضئيلاً من حياة الجميع. وهو الأمر الذي يجعل لبنان مكانًا غريبًا. هذه هي الحرب الحقيقية في الفيلم، هي الأشياء التي تدفع بـ “سعيد” لأن يترك البلد ويهاجر. وهي التي أفقدت الوالد في الفيلم عقله. وجعلت “عمر” يريد أن يحصل على سلاح. هذه ليست سلوكيات طبيعية، وهي سلوكيات الباقين على الحياة في منطقة حرب…!

هل ذكرياتك عن الحرب تكونت من معايشات فعليّة، أم صورًا شاهدتها على التلفزيون أو في الأفلام، وهل هناك صورًا معينة بقيت محفوظة لليوم في ذهنك؟

هناك بعض الجوانب في الفيلمين من سيرتي الذاتية، لكن الكثير من مشاهدات عامة. نشأت في بيروت أثناء الحرب الأهلية. تركت لبنان في عام 1998. لذلك حضور المسدسات والأسلحة لي ومثل كل اللبنانيين يشكل أمرًا معتادًا. جميعنا شاهدنا الأسلحة في فترة ما من حياتنا. لذلك كان أمرًا طبيعيًا أن يضم كل فيلم من أفلامي سلاحًا ناريًا. وكما يقال إن هناك مسدسًا تحت أي مخدة في لبنان. 

 

مشهد من فيلم "من السماء"

تعيش في فرنسا وتنجز أفلامك في لبنان. لا شك أن لهذا الوضع تحدياته وصعوباته. كيف تختار الممثلين مثلاً، هل تقوم بعمليات اختيار تقليدية؟ اسأل ذلك لأنك استعنت في “من السماء” بفنان تشكيلي ليقوم بأداء أحد الأدوار الرئيسية في الفيلم.

الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك. عشت في فرنسا لمدة خمسة عشر عامًا. لكني الآن عدت للعيش في بيروت. لكن لازال عليّ أن أجد التمويل لأفلامي في فرنسا. لذلك حياتي الآن رحلات لا تتوقف بين البلدين. وأملك نفس القدر من الاتصالات في البلدين. بالنسبة إلى الفنان التشكيلي رياض ياسين هو صديق منذ فترة طويلة وعمل في جميع أفلامي السابقة (ماعدا فيلم “فيما بعد” لأن أوقاتنا لم تتزامن). أحب “ياسين” لأنه غير نمطي. هو قوي جسديًا، لكنه يملك عيني طفل. وهذا شيء مُؤثر. 
أعتقد أن ياسين ممثل رائع، والمخرجون الآخرون يخسرون كثيرًا بعدم التعاون معه بشكل أكبر. ومثلما هو الحال مع بطل الفيلم الممثل اللبناني “رودريغ سليمان”، من الصعب كثيرًا تخمين عمر “ياسين”. ممثلو أفلامي يميلون بهيئاتهم في التجوال بين الأجيال. وهذا الأمر هو الذي يعطيهم المظهر “الشبحي”. شيئًا ما في إطلالتهم الخارجية بدون أن يكون هذا الشيء واضح كثيرًا. 

قدمت في عام 2011 فيلم “كل شيء في لبنان” والذي كان عملاً تسجيليًا مهمًا غير مسبوق في المنطقة العربية، من ناحية ربطه الظواهر الفنيّة والإعلامية بالتحولات والتغيرات المجتمعية والسياسية. هل تخطط لمزيد من الأفلام التسجيلية على هذا المنوال؟

“كل شيء في لبنان” كان مثل كُتيب، أو بيان سياسي كنت أحمله في قلبي وعقلي لبعض الوقت، صوت بديل للأقلية الذين يفكرون ويشعرون مثلي. عندما سنحت الفرصة لعمل هذا الفيلم أخذتها. الفيلم لم يتوزع بشكل واسع. بسبب – وهذا يحدث كثيرًا لي- أن المحطات التلفزيونية والمهرجانات السينمائية لا تعرف كيف تصنف أفلامي ضمن برامجها. لكنني أعتقد أن الفيلم كان له تأثيرًا أساسيًا على من شاهده.
العمل كان طلقة وحيدة في السينما التسجيلية لكني سعيد أني أنجزته. في الوقت الحاضر أنا متفرغ للفيلم الخيالي. لكنني سأكون دائمًا مفتوحًا لأي شكل سينمائي آخر، طالما أن هذا سيعني أني سأصور. أقول دائمًا: أن الطائرة تكون سعيدة فقط عندما تحلق في الجو. وبالمثل، المخرج سعيد فقط عندما يكون في موقع التصوير.


إعلان