“العربي بن مهيدي”.. حديث المخرج عن صراعه مع الأرشيف والبيروقراطية

حوار: محمد علال

حكاية الجزائر مع إنتاج فيلم يحكي تاريخ بن مهيدي الذي يعد أحد أبرز قادة الثورة التحريرية الجزائرية تشبه كثيرا حكايته الحقيقية التي أذهلت الجلاد؛ المستعمر الفرنسي. ففي مارس من عام 1957 اعتقل جيش المستعمر العربي بن مهيدي، وحاولوا أن يحصلوا على اعتراف أو تصريح منه يدلهم على رفاقه في جبهة التحرير الوطني، لكن الجنرال الفرنسي “مارسيل بيجار” فشل في استنطاق العربي رغم ما سلطه عليه من أبشع أنواع التعذيب، لكن البطل ظل يبتسم غير آبه بالألم، مما جعل الجنرال الفرنسي يقول: “لو أن لي ثلة من أمثال العربي بن مهيدي لغزوت العالم”.

ظل العربي بن مهيدي -الذي أنتجت الوثائقية فيلما عنه مؤخرا بعنوان “العربي بن مهيدي.. صندوق الأفكار” – حكاية تاريخية تحرج فرنسا حتى بعد استقلال الجزائر، فلم يكن من السهل تمرير سيناريو سينمائي عن بن مهيدي في ظل الفجوة التاريخية وضبابية المشهد، ففرنسا ظلت تتكتم على أرشيف الثورة، ولمدة 40 عاما كانت الطريقة التي قتل بها بن مهيدي سرا من أسرار الجيش الفرنسي، إلى أن اعترف الجنرال “أوساريس” لصحيفة “لوموند” عام 2001 أنه هو من قتل العربي بن مهيدي شنقا بيديه، ولم تكن تلك الحقيقة سوى قطرة من فيض لعشرات الحقائق التي لا تزال تتكتم عليها فرنسا، في مقابل تجديد الجزائر لمطلب إعادة أرشيف الثورة عند كل موعد للانتخابات الرئاسية الفرنسية، كما هو شأن تصريحات المسؤولين الجزائريين هذه الأيام، حيث تشكل الثورة الجزائرية محورا مهما في خطاب الجزائر تجاه الرئاسيات الفرنسية التي انعقدت شهر أبريل/أيار 2017.

في كل هذه الأجواء السياسية والتاريخية كانت المهمة صعبة جدا أمام المخرج بشير درايس الذي أراد إنتاج فيلم عن الشهيد الجزائري، وكان يحلم بأن يرتبط اسم الشهيد العربي بن مهيدي بفيلم يليق بمكانته، وقد أدرك المخرج الجزائري منذ البداية أن العملية ليست سهلة، وأنه سيتوه في دوامة البيروقراطية والقوانين ودهاليز التاريخ لفك شفرة تاريخ بن مهيدي.

ويأتي اليوم الذي تقرر فيه الجزائر إنتاج الفيلم في ظل ظروف معقدة كرستها سياسية الإنتاج السينمائي الجزائري في السنوات الأخيرة، فقد تنازلت السينما الجزائرية عن برجها العاجي منذ أن شاركت في إنتاج فيلم “معركة الجزائر” للمخرج الإيطالي الراحل “جيلو بونتيكورفو” عام 1966، واتجهت إلى إنتاج الأفلام بأقل كلفة والتركيز على المشاهد الداخلية.

“الجزيرة الوثائقية” التقت المخرج درايس في مكتبه بالجزائر العاصمة، وذلك لمعرفة المزيد عن حكاية فيلم بن مهيدي، والعودة بالذاكرة إلى بداية الفكرة وكيفية انطلاقها للمرة الأولى عام 2005.

“العربي بن مهيدي” وابتسامة التحدي خلال اعتقاله من قبل القوات الفرنسية نهاية شهر فبراير 1957

 

  • كيف بدأت حكاية فيلم “العربي بن مهيدي”؟

بدأت حكاية العربي بن مهيدي في نهاية عام 2005، وذلك عندما شاهدت فيلما وثائقيا على قناة “كنال بليس” اسمه “العدو الحميم”، وقد ضم الفيلم حوارا مطولا للجنرال الفرنسي “بول أوسارس”. ولأنني أقطن في نفس الحي الذي يقطن به الجنرال في “مونبرناس” تحفزت إلى الحديث معه بشكل مباشر في أحد المقاهي، وقد طرحت عليه عدة أسئلة بخصوص العربي بن مهيدي.

جمعت بعض الأفكار ثم اتصلت بالسيناريست والمخرج الجزائري عبد الكريم بهلول، وطلبت منه أن يكتب سيناريو عن بن مهيدي، وقد رفض بهلول في البداية وقال إن الأمر معقد، ولا يمكن الاعتماد فقط على شهادة “أوسارس” من أجل كتابة سيناريو الفيلم، لأنه لا يعلم الكثير عن بن مهيدي، فهو يعرف فقط آخر أيامه بعد الاعتقال. ومنذ ذلك الوقت بدأت أجمع الأرشيف والكتب التي تتحدث بشكل أو بآخر عن بن مهيدي، وقد جمعت تقريبًا 85 كتابا وقرأتها جميعها، وأجريت بحثا معمقا في الإنترنت ومكتبة التاريخ في “مرسيليا” ومكتبات “شان ميشال” بفرنسا، واطلعت تقريبا على كل مذكرات الجنود الفرنسيين الذين كتبوا عن الجزائر، كنت أجد أحيانا سطرا أو سطرين عن بن مهيدي.

  • كيف وجدت الفرق بين الكتب التي ألفها جزائريون وتناولت حكاية “العربي بن مهدي”، والكتب التي ألفها فرنسيون؟

في ذلك الوقت لم يكن هناك أي كاتب جزائري قد ألف كتابا كاملا عن العربي بن مهيدي، بل حتى الآن لا يوجد مؤرخ جزائري ألف كتابا شاملا عن العربي بن مهيدي، هناك كتاب للكاتب خلفة معمري لكنها كتب خفيفة المحتوى، كما أن هناك مؤلفات لـدحلب وبن خدة، وهي كتب كانت ممنوعة من دخول الجزائر. وبدأت بالاطلاع على الحوارات المصورة والمسجلة والكتب التي ألفها “بيجار” وغيرهم، لهذا اتصلت بالكاتب الجزائري عمر بربون الذي كان قد كتب سيناريو عن بن مهيدي، لكن النص لم يكن قويا ولم يكن من الممكن أن يُحوّل إلى فيلم.

  • ماذا قال لك “أوسارس” عندما التقيت به، هل أبلغته بفكرة الفيلم؟

نعم أبلغته بذلك ولم يتفاجأ، وقال “بن مهيدي بالنسبة لكم هو رمز وطني، وبالنسبة لي هو فلاقة وإرهابي”.

وقد قدم لي “أوسارس” معلومات مكتوبة وأرقام هواتف الشخصيات الذين كانوا معه وقريبين من بن مهيدي في أيامه الأخيرة ولا يزالون على قيد الحياة.

 

  • بدأت الفكرة عام 2006 لكنك بدأت في كتابة السيناريو عام 2010، لماذا؟

لأنني كمنتج كنت منشغلا بإنجاز أفلام أخرى، فأنا أفضل جمع المعلومات بتأن عن الأفلام التي أريد إنجازها. لذا لم نبدأ بكتابة سيناريو بن مهيدي بشكل رسمي إلا عامي 2011 و2012، لأننا كانت لدينا أسئلة عديدة مثل كيفية تمويل الفيلم، وهل ننجزه في فرنسا أم الجزائر؟ حيث إن كلا من البلدين لديه وجهة نظر مختلفة يريد إبرازها في الفيلم.

  • كيف حصلت على الدعم المادي لإنتاج الفيلم؟

في عام 2011 تقدمنا إلى وزارة الثقافة الجزائرية بطلب دعم إنتاج الفيلم إلى “أفداتيك” الذي كان يرأسه حينها أحمد بجاوي، وحصلنا على الموافقة لإنتاج الفيلم، لكن في ذلك الوقت اصطدمنا بتغيير في القوانين، حيث سُن قانون جديد في السينما الجزائرية يقضي بضرورة حصول أي فيلم يتناول موضوع الثورة الجزائرية على تصريح من وزارة المجاهدين. وهذا يعني مزيدًا من التعقيدات، فلم تكن موافقة وزارة الثقافة وحدها كافية، فتقدمت بطلب إلى وزارة المجاهدين في تلك السنة، لكن لم أحصل على رد إلا بعد ثلاث سنوات من الركض خلف البيروقراطية، حتى حصلت على الترخيص أخيرا في أكتوبر 2013.

  • ما مدى أهمية إنجاز فيلم عن العربي بن مهيدي بالنسبة للجزائر؟

الأمر بلا شك مهم جدا، فمنذ استقلال الجزائر حتى اليوم كان هناك الكثير من التشويه لتاريخ الثورة، حتى أصبحت الثورة موضوعا يُستخدم للتأثير في الرأي العام، فكل جبهة تريد التأثير على الرأي العام في الجزائر تسلط الضوء على الثورة وخصوصًا بن مهيدي. وفي هذا الفيلم أعود إلى علاقة بن مهيدي بكل من الإسلاميين والليبراليين وحتى علاقته بالمرأة ودورها في حياته.

أردت تسليط الضوء على اللغة والهوية وجمعية العلماء المسلمين وكل المواضيع التي تثير الجدل.

أريد أن تكون للأجيال الجديدة نظرة أعمق عن الثورة، ليست تلك النظرة السطحية الخاصة بالصعود إلى الجبل، لأن الثورة أفكار وكفاح، والكثير من الحقائق التي يجهلها الناس.

الجنرال “أوساريس” اعترف لصحيفة “لوموند” عام 2001 إنه هو من قتل “العربي بن مهيدي” شنقا بيديه

 

  • يقال إن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تدخل شخصيا لإنقاذ مشروع فيلم “بن مهيدي”؟

أعتقد ذلك، فوزير المجاهدين كان يقول لي دائما “أنا لا أملك السلطة، أنا في انتظار الضوء الأخضر كي أعطيك الترخيص”، لكن من كان يقصد؟ بلا شك يقصد ترخيصا من الرئيس بوتفليقة شخصيا، ويُقال أيضا إن بوتفليقة يتابع الفيلم وينتظر تاريخ عرضه الذي لم يحدد بعد. هناك أزمة ثقة بين النظام والجيل الجديد، فالنظام الجزائري لا يعرف بشير درايس الذي تقدم لهم بمشروع مكتوب، وهذه مفاجأة أن يمنح النظام الثقة في مخرج جديد وشاب.

  • لماذا اخترت التصوير في تونس؟

لديهم أستوديوهات للتصوير لا نملكها في الجزائر، كما أن لديهم إمكانيات ومعدات وإكسسوارات لا تملكها السينما الجزائرية. فعلى سبيل المثال عندما احتجنا إلى ديكور يشبه مدينة بسكرة في سنوات الثلاثينيات لم نجده في الجزائر، فلا يوجد شارع في ولاية بسكرة يشبه المرحلة التي عاش فيها بن مهيدي، لذا كان الحل الوحيد هو تونس لقرب المسافة، كما أن 90% من الأفلام الجزائرية لا تصور في الشارع بل في الأماكن المغلقة فقط، وهي المشاهد الأسهل، أو التصوير في الجبال والغابات وهي أيضا سهلة، أما التصوير في الشارع فيكلف ميزانيات ضخمة.

موقع إستوديو التصوير في تونس، حيث الإمكانيات والمعدات التي لا تملكها السينما الجزائرية

 

  • يُقال إن فيلم بن مهيدي هو أصعب تجربة في السينما الجزائرية، لماذا؟

إنه الفيلم الأكثر تعقيدا لأننا منذ فيلم “معركة الجزائر” لم ننجز فيلمًا بهذا التعقيد من ناحية التصوير بديكور يعود إلى خمسينيات القرن الماضي في الأسواق وغيرها، كما أنني كنت حريصا على إنجاز الفيلم بشكل يليق بمستوى بن مهيدي، ورفضت تحديد تاريخ معين لإتمام إنجاز الفيلم، فالمهم بالنسبة لي إنجاز فيلم جيد، وليس فيلما تحت الطلب.

  • كانت شقيقة العربي بن مهيدي قريبة من المشروع وتتابعه بالتفصيل. هل كانت لها وجهة نظر تريد أن تظهر في الفيلم؟

هي تؤمن بالمشروع وتدعمني لأنها تثق بي كمخرج، ورغم وجود الكثير من أعداء النجاح الذين تواصلوا معها من أجل سحب المشروع مني فإنها كانت تدعمني، ولم تطلب سوى الحقيقة واحترام شخصية أخيها، حتى إن قصة الحب بين بن مهيدي مع إحدى فتيات ولاية بسكرة هي قصة حقيقية، فقد كان بينهما مشروع زواج لم يكتب له الاستمرار.

  • من هو بشير درايس الذي سيُخرج فيلم بن مهيدي؟

لقد بدأت علاقتي بالسينما وأنا ابن 18 عاما واليوم عمري 48 عاما، مما يعني قرابة 30 سنة من الخبرة معظمها في إنتاج الأفلام والإخراج، وبن مهيدي هو ثاني فيلم طويل بعد فيلم “10 مليون سنتيم” عام 2006. تعاملت مع عدة مخرجين مثل “ألكسندر أركادي” ومرزاق علواش وعكاشة تويته وغيرهم، وقد توجتُ بجائزة مهرجان قرطاج للمنتج الأكثر نشاطا في الجزائر.

لقد جعلني الإنتاج قريبا جدا من الإخراج، ورغم المشكلات والأزمات فإنني أكافح من أجل هذه المهنة الصعبة جدا في الجزائر، خصوصا في تسعينيات القرن الماضي حينما كانت الجزائر تعاني من الإرهاب والأزمات المالية، مما جعل العمل في هذا المجال أكثر صعوبة، لكنني أنني لم أتخل عنه أبدا.


إعلان