أخوة الصمت
حاوره محمد موسى
قضى المخرج الكردي التركي تيلان مينتاس أربع سنوات وهو يصور فيلمه التسجيلي “أخوة الصمت”، موثقاً أزماناً من الحياة اليومية لشخصيات من عائلته الكبيرة التي تسكن في قرية نائية على الحدود التركية الأرمنية، وسيركز بالخصوص على أخوين أبكمين من أبناء عمومته يعملان في تربية الحيوانات والزراعة، عارضاً مشّاق الوجود في بيئة جغرافية متطرفة في تناقضاتها، من القسوة الشديدة في فصل الشتاء، إلى الجمال الأخاذ في الربيع والصيف.
صور المخرج التركي الشاب الفيلم بنفسه دون فريق فنيّ، وهذا سيضيف، وبجانب روابط المخرج العائلية مع الشخصيات التي تظهر في الفيلم، إلى التلقائية والحميمية التي كانت لافتة في سلوك الشخصيات أمام الكاميرا. يرافق الفيلم الذي يخلو من التعليق والشروحات الأخوين في حياتهما اليومية، في حين ستوفر فصول السنة الفرص للانتقالات الموضوعية الكبيرة في الفيلم، للسمات الخاصة لكل فصل على صعيد التغييرات في البيئة الجغرافية المحيطة، أو في طبيعة المهام المختلفة التي تنتظر أهل القرية والذين لا يتوقفون يوماً عن العمل المرهق.

ينضم الفيلم إلى مجموعة متزايدة من الأعمال التسجيلية والدرامية التركية من السنوات الأخيرة التي تهتم بعلاقة الطبيعة الجغرافية القاسية لبعض المناطق التركية بالإنسان هناك، ودورها في تشكيل وجوده وهواجسه، وأثرها في حياته اليومية. كما يفرد فيلم “أخوة الصمت” مساحة منه لعلاقة أهل القرية بالحيوانات، ويقدم في هذا الاتجاه مشاهد مؤثرة للغاية عن طبيعة هذه العلاقة وتجذرها في السلوك والوعي الجمعي. في حين ستكون عدم قدرة الأخوين على الكلام، تفصيلاً فقط، إذ إن الفيلم يعثر على لغته الخاصة، لينقل قلق ومسرات الأخوين وحياتهما الصعبة.
عُرِض الفيلم التسجيلي في الدورة الأخيرة لمهرجان إسطنبول السينمائي وحاز وقتها على اهتمام إعلامي وشعبي كبير، وليبدأ بعدها رحلته على مهرجانات سينمائية خارج تركيا، كانت أول محطاتها مهرجان صوفيا السينمائي في بلغاريا.
في الحوار الآتي يكشف المخرج تيلان مينتاس عن ظروف صناعة فيلمه التسجيلي “أخوة الصمت”:

متى بدأت التفكير بمشروع هذا الفيلم، وما هي الأفكار الأساسية التي كنت تحملها وقتها لمقاربة الحياة في القرية التي ولدت ونشأت فيها؟
عندما ذهبت إلى القرية وبعد سنوات من مغادرتها للدراسة والسكن في إسطنبول، كان عندي مشروع فيديو فنيّ تجريبيّ أردت أن أنجزه هناك، ويتلخص بتصوير وجوه وأماكن من التي بدأت أنساها بسبب حياتي بعيداً عن المكان الذي ولدت وقضيت سنوات طفولتي وشبابي فيه، مع نية عرض هذه الفيديوهات عندما أعود إلى إسطنبول حيث أعيش.
الذي حصل أني لم أعرض الفيديوهات التي صورتها من القرية في معرض فنيّ وكما كنت أخطط، لكنها تحولت إلى فيلم اسمه “أخوة الصمت”، والذي يجول حالياً على المهرجانات السينمائية. القرية التي أتيت منها تبعد مسافة يوم أو يومين من السفر من إسطنبول، لذلك ولغرض عمل فيلم تسجيلي كان لآبد من البقاء هناك لفترات طويلة، حتى يمكنني العودة إلى روتين الحياة اليومية في المكان، والتعود على قضاء وقت مع أبناء عمي والأقرباء في القرية، ومنهم الأخوان الأبكمان. بعد مكوثي بضعة أيام في القرية قررت أن قدم حياة هذين الأخوين في فيلم تسجيلي.
إذن كنت تعرف وعند بداية تصوير مشاهد الفيلم، أنك تريد أن تسجل يوميات الأخوين؟
في الحقيقة، وفي خلال أسبوع فقط من وجودي في القرية عرفت أن الفيلم سيكون تسجيلا يوميا لحياة الأخوين، وزوجتيهما القويتين، والقرية بشكل عام. وكذلك كنت مهتماً بلغة الإشارة للبُكْم بين الأخوين، والتي ترتكز على اللغة الكردية لأهل القرية، حيث تم تطويرها هناك دون مساعدة أحد، وأصبحت لغة التفاهم بين الأخوين والناس المحيطين بهما. كل هذا شكَّل أساس الفيلم. والذي صورته في أربعة أعوام وضمن بناء فصول السنة الأربعة الزمني.
ما هي التحديات التي واجهتك في تصوير شخصيتين غير قادرتين على الكلام؟ وهذا هذا دفعك للتفكير بشكل أكبر باللغة السينمائية الصورية حتى تعوض عن غياب الحوارات؟
على رغم أن تتبع شخصيات غير قادرة على النطق له صعوباته، بيد أن المشروع التسجيلي تضمن الكثير من الأشياء الجميلة. كان أصعب جزء بالنسبة لي هو فهم عمليات تطور لغة الإشارة للأخوين في سنوات غيابي عن القرية. في هذا الاتجاه، كانت الابنة الصغرى لأحد الأخوين الأكثر دعماً لي، ومثلت أيضاً دور مساعد المخرج أثناء التصوير والتحضير لهذا الفيلم. ولأني خريج دراسات فنون بصرية، حاولت الاستفادة على قدر الإمكان من المميزات الشكليّة الخاصة للشخصيات والمكان الجغرافي. أعتبر في النهاية أنه أتيحت لي فرصة رائعة بتصوير هاتين الشخصيتين الفريدتين وجغرافيا المكان الخاصة.

بَنيت فيلمك حول الفصول المناخية الأربعة للسنة، هل توصلت إلى هذا الشكل أثناء التصوير أم بعد الانتهاء منه وبعد بدء عمليات التوليف؟
قررت من البداية تصوير الفيلم ضمن إطار زمني ينقسم على فصول السنة الأربعة. لأن هذا من شانه أن يوفر الفرصة لتصوير أحداث وشؤون مختلفة ترتبط بكل فصل من هذه الفصول والتحضير لمجيئها. بالنسبة لناس القرية والحياة الدائرة هناك، كل فصل يحمل معه الكثير من العمل والمشاكل والتحديات. اعتقدت وقتها أنه من المهم للفيلم أن يعرض تأثيرات هذه التغييرات الطبيعية على الشخصيات والمحيط العام.
هل كان صعباً تتبع الشخصيات ذاتها لفترة أربع سنوات كاملة؟ وهل أعربوا أحياناً عن ضجرهم أو تعبهم من حضور الكاميرا لفترات طويلة في حياتهم اليومية؟
لا أبداً .التحدي الأكبر لنا كان القلق من عدم تأمين ميزانية كافية لإنجاز الفيلم. صادفتنا بعض العوائق، لكن كانت هناك دائماً جوانب إيجابية تشجعني على الاستمرار. أعتقد أنه لو كانت لي ميزانية أكبر كان يُمكن أن أستعين بفريق فنيّ لتصوير الفيلم وبدل ترتيب كل شيء بنفسي. لكن هذا كان ربما سيعيقني من إقامة تلك العلاقة الصادقة والدافئة مع شخصياتي. ولأن الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم هما من أبناء عمومتي، هما وعائلتاهما شعروا بالراحة الكبيرة معي. وربما لن يشعروا بنفس الأمان مع ناس آخرين. وهذا يُمكن أن يكون عائقاً كبيراً امام إنجاز فيلم مثل هذا.
عندما كنت أن أسجل صوت الشخصيات والطبيعة هناك، كنت أعطي أحياناً أجهزة التسجيل التي أخذتها معي إلى الأطفال في العائلة، حيث تحول كل واحد منهم إلى مساعد ليساعدني في الأمور التقنية خلف الكاميرا. كانت هناك الكثير من المشاكل لأني كنت أريد أن أتابع الحياة اليومية للشخصيات وعوائلهم، وهذا كان يعني حضوراً دائماً للكاميرا. الأمر الذي قاد إلى مواقف كوميدية كنا نضحك عليها كثيراً كعائلة.
تركت القرية منذ سنوات وتعيش منذ ذلك الحين في مدينة إسطنبول، كيف أثر العيش في مدينة عملاقة على رؤيتك للحياة في القرية وبالتالي الطرق التي صورتها فيها؟
هناك الكثير من التأثيرات على وجه اليقين. لكن الشيء الأساسي بالنسبة لي كان مراقبة تطور لغة الإشارات الكردية للأخوين في القرية، وحياتهما ووجودهما هناك في بيئة صعبة كثيراً. الشخصيتان هما من أبطالي، وشكلا مصدراً للإلهام لي طوال حياتي كلها. هذا الفيلم لم يكن ليتحقق بدون التعليم والخبرات التي تلقيتها وعشتها في مدينة إسطنبول. المدينة العملاقة التي جعلتني أشعر على نحو أكبر بعزلة القرية.
الفيلم أظهر العلاقات القوية بين أهل القرية وحيواناتهم، هل يمكن أن تحدثنا أكثر عن هذا الجانب بالتحديد في الحياة هناك؟
الحيوانات والطبيعة هي الشخصيات الأخرى في الفيلم، الحيوانات في القرية تأتي في المرتبة الثانية في الأهمية بعد أفراد العائلة. في الحقيقة عندما تنظر إلى الحياة هناك ستجد أنها لم تتغير كثيراً عما كانت عليه قبل مئات السنوات. دورة الحياة بما تتضمنه من قسوة وبدائية على حالها في تلك المنطقة المعزولة. فيما عدا بعض التغييرات التي جلبتها الأدوات الإصطناعية الحديثة.
أعتقد أن مشهد ولادة البقرة لعجلها الميت في الفيلم يمثل مثالاً هائلاً عن عمق العلاقة بين الإنسان والحيوان هنا. لأنه يختزل الصراع اليومي للحيوانات والبشر في القرية. الطبيب البيطري لا يستطيع الوصول إلى القرية، لأن الثلج سَّدَ الطرق المؤدية إليها. ابن عمي ساعد البقرة في الإنجاب. هو سَّخر في تلك اللحظة روحه وجسده من أجل هذه المهمة.
الحيوانات تملك علاقات رائعة مع الناس وتستطيع التواصل معهم بطرق ذكية. الناس في تلك المنطقة الجغرافية يمنحون أسماءً لحيواناتهم وكما يفعلون مع أبنائهم.

هل شاهد أفراد عائلتك الفيلم، وماذا كان رأيهم أو انطباعاتهم؟
أستطيع أن أقول إن تفصيلة رأي العائلة كانت الأهم لي، والأكثر قلقاً وإثارة. عندما انتهت العمليات الفنيّة في الفيلم، كانت الأسئلة تلحّ عليّ طوال الوقت، عما إذا كنت أميناً وأخلاقياً في نقل قصة وحياة الشخصيات، وهل يمكن للفيلم أن يؤذي العلاقات العائلية للذين ظهروا في الفيلم، وكيف ستكون ردود أفعالهم على مشاهدة أنفسهم على الشاشة.
كل هذه الأسئلة وجدت أجوبة لها بعد مشاهدة الفيلم في عرضه الأول في مهرجان إسطنبول السينمائي والذي حضره الأَخَوان اللذان كانا واعيين أن الفيلم لخص بشكل جيد حياتهما. وتركا صالة السينما بعد العرض وهما سعيدان للغاية. أستطيع أن أقول إنني مرتاح البال جداً بسبب ردود الأفعال تلك، بخاصة أنها جاءت قبل أن يبدأ الفيلم رحلته على المهرجانات السينمائية.
عملت في الفريق الفنيّ الذي أنجز فيلماً تسجيلياً قصيراً عن رائد فضاء سوري لجأ إلى تركيا قبل سنوات وبعد الثورة المتواصلة في البلد العربي؟ أي دور قمت به في ذلك الفيلم، ولماذا كان زمنه قصيراً كثيراً، علما أنه كان يمكن التوسع به؟
نعم، الفيلم يحمل عنوان ” من الفضاء، سوريا هنا” وأخرجه وأنتجه أخي إيرول مينتاس. عملت مصوراً سينمائياً في الفيلم ومونتيرا ومساعد منتج. يختلف ذلك المشروع كثيراً عن فيلم “أخوة الصمت” لجهة الميزانية، إذ لم يكن من الممكن في الفيلم الأخير الاعتماد على أموالنا الخاصة وكما فعلنا في الفيلم السابق. فيلم “أخوة الصمت” أخذ أربع سنوات من التحضيرات. أما بشأن قصر الفيلم، فأحب أن أخبرك بأننا نرغب كثيراً العودة إلى الموضوع مجدداً، وتحويل قصة رائد الفضاء السوري إلى فيلم طويل في المستقبل.