شبحان من الحرب العراقية الإيرانية
يكاد العقل لا يصدق مُصادفات ومسّار حكاية “زاهد” و”ناجح”، والتي بدأت أثناء واحدة من معارك الحرب العراقية الإيرانية الطاحنة في ثمانينات القرن الماضي، حيث تعثر “زاهد” الإيراني الذي كان مُلتحقا بصفوف وحدة خاصة لليافعين في الجيش الإيراني بجندي عراقي مجروح أسمه ناجح، وعندما شاهد زاهد صورة امرأة تحمل طفلاً ملقاة الى جانب الجندي العراقي حَنّ قلبه عليه وقرر مساعدته وإسعافه، وتسليمه بعد ذلك الى القوات الإيرانية، ليقضي ناجح بعدها سنوات في الأسر الإيراني، قبل أن يتم إطلاق سراحه ضمن اتفاقيات تبادل الأسرى ابان الحرب العراقية الإيرانية. سيلتقي الرجلان بعد ذلك بعشرين عاماً وبالصدفة في كندا، البلد الذي لجأ إليه، وبالتحديد في عيادة نفسيّة، حيث كانا يتعالجان من آثار الحرب القاسية التي تقاتلا فيها على جبهتين مُتضادتين.
يستعيد الفيلم التسجيلي الطويل “عدوي، أخي” للمخرجة الكندية آن شين هذه الحادثة في سياق تسجيليه لأحوال شخصيتيه والصداقة الفريدة التي نشأت بينهما، ويقوم الفيلم برحلات شديدة العاطفية معهما، اذ أن ناجح العراقي سيعود الى البصرة حيث ولد وعاش فترة حياته الأولى ليبحث عن حبيبته التي فرقت بينهما سنوات عديدة وحروب، وعن ابن وُلد من علاقة مع المرأة ذاتها، والتي لم تكلل وقتها بالزواج، في الوقت الذي سيعود “زاهد” الى منطقة الشرق الأوسط في مسعى للقاء والده الذي كان يُصارع الموت في إيران.
تُعيد المخرجة تمثيل وقائع مهمة من حياة زاهد وناجح، وتذهب الى مدينة البصرة العراقية لتسجل محاولات “ناجح” البحث عن امرأة لم يكن يعلم بوجودها أحد من عائلته أو أصدقائه، ويبدو البحث عنها في بلد تسوده التقاليد الاجتماعية الصارمة ضرباً من الجنون. يتقرب الفيلم من ألمّ شخصيتيه، والتركات الثقيلة التي يحملاها من حياتهما في الشرق الأوسط، ويغدو لقاؤهما الصدفة في كندا رمزياً، يُذكر بمصالحة تاريخية غير مكتملة، فيما كان الرجلان بهمومها الكبيرة ولغتهما الشاعرية وحياتهما التي توقفت منذ زمن الحرب تلك، أقرب الى الشبحين الذين يذكران بالحرب الدموية تلك والتي خلفت مئات الآلاف من القتلى.
تعتبر المخرجة والمنتجة آن شين من الأسماء اللامعة في عالم السينما التسجيلية في كندا، وحصلت على جوائز عالمية عديدة. كما عُرضت أفلامها على شاشات محطات تلفزيونية عريقة مثل: “أتش بي أو” و “أي بي سي” الأمريكيتين. عرض فيلمها السابق “المنشق: الهروب من كوريا الشمالية” في عشرات المهرجانات السينمائية العالمية، وفاز بجوائز أفضل فيلم تسجيلي وأفضل اخراج في كندا. أنطلق عروض فيلم “عدوي، أخي” في الدورة الأخيرة لمهرجان “هوتدوك” للسينما التسجيلي، وليبدأ الفيلم بعدها رحلة على المهرجانات السينمائية.
في الآتي لقاء مع المخرجة عن فيلمها الأخير:
ممن سمعتِ بقصة الرجلين؟
سمعت بقصتهما عن طريق صديق لي يعمل في القسم العالمي في الإذاعة الهولندية. أخبرني وقتها أنَّ الرجلين يعيشان في مدينة فانكوفر في كندا. عندها بحثت عنهما في دليل الهاتف واتصلت بهما. قلت لهما في أتصالي الهاتفي حينذاك بأني أحب أن ألتقي بهما وأن اسمع قصتهما. هما رحبا مباشرة ووجها دعوة لي لزيارة مدينتهما. عندما ذهبت هناك، جلسنا نشرب الشاي معًا، وبدءا بأخباري عن قصتهما. بعد ثلاثة ساعات من الحديث المتواصل وجدت نفسي غارقة في دموعي ومتأثرة للغاية مما سمعته. بعدها سألتهما إذا كان بإمكاني مرافقتهما وسرد قصتهما، فوافقا. وهكذا بدأت قصة هذا المشروع التسجيلي.
قبل فيلمك التسجيلي الطويل هذا، كنت قد أنجزتِ فيلماً قصيراً عن الشخصيتين، ماهي الأسباب التي جعلتك تعودين الى القصة ذاتها، وتقديمها مجدداً ضمن فيلم طويل هذه المرة؟
عندما كنت أبحث عن مصادر تمويل للمشروع، كنت أعرض خطة لإنجاز فيلم تسجيلي طويل. لكني واجهت صعوبات بإيجاد الدعم الإنتاجي للمشروع كفيلم طويل. ولم أحصل وقتها إلا على مبلغ يكفي لإنتاج فيلم قصير. عندها قررت أن ابدأ بعمل فيلم قصير يركز على جانب واحد محدود من قصتهما. الفيلم ذاك حصل على اهتمام نقدي كبير، فعرض في مهرجانات سينمائية مرموقة للفيلم القصير ورشح للفوز بجائزة إيمي في فئة الفيلم القصير.
ركزت في الفيلم القصير على الماضي فقط. وبدأت من الموقف الذي قابل زاهد ناجح على خطوط تماس إحدى معارك الحرب العراقية الإيرانية، حيث خاطر زاهد بحياته لإنقاذ ناجح المصاب وقتها، ثم لقاء الرجلان بالصدفة وبعد عشرين سنة على تلك الحادثة في غرفة انتظار عيادة نفسيّة في كندا. وكيف أن اللقاء الأخير ألهمها للتغلب على مشاكل حياتهما، بخاصة “زاهد” الذي كان يمرّ وقتها بظروف صعبة للغاية، إذ حاول أثناء سنوات حياته في كندا الانتحار. وأن لقائه ب ناجح مجدداً منح حياته معنى. ذلك أن ناجح ساعده كثيراً على تقبل والاحتفال بالحياة في كندا. في هذا المعنى، ناجح كان قادراً على إعادة جميل زاهد.
أما بالنسبة للفيلم الطويل. فهو يرتكز على قصة ناجح، والذي وبعد لقائه بزاهد في كندا بدأ يلحّ عليه خاطر أن يجد حبيبته وابنه الذين فقد الاتصال بهما منذ أَسَرَه من قبل القوات الإيرانية، فربما يجدهما كما وجد صديقه الإيراني. هو بحث عنهما قبل ذلك التاريخ بسنوات لكن بحثه وقتها لم يكن موسعاً ولأسباب عديدة، لذلك كان يتمنى أن يعاود المحاولة. عندها عرفت أني أُريد أن أتبعه في رحلته هذه. باختصار، ركزت في الفيلم القصير على ماضي الشخصيات، أما في الفيلم الطويل فحاولت أن أوسع المقاربة وأُدخل الظروف المعاصرة للقصة التي أريد أن أرويها.
يمكن وصف زاهد وناجح بأنهما شخصيتان مُعذبتان ومتضررتان بسبب ما مرَّ بهما من ظروف. هل كان صعباً إقناعهما بالحديث معك عن ماضي حياتهما؟
لم يكن صعبا اقناعهما، الأمر الذي كان قاسياً عليهما هو استعادة تلك الذكريات المؤلمة من حياتهما. خلال السنوات التي كنت أصورهما، تحدثنا مراراً عن جوانب مختلفة من حياتهما، عن الماضي والحاضر. الأمر اللافت أنه كلما عادا الى ذكريات الحرب العراقية الإيرانية، والتعذيب الذي تعرضا له والذي تم في ظروف مختلفة، كان بادياً تأثرهما الشديد. استعادة تلك الأزمان فتحت جروحاً قديمة. لكنهما في المقابل أحبا أن يرويا قصتهما، وإخبار العالم عن قسوة الحرب تلك، والجروح والندوب النفسية التي يحملاها لليوم.
عندما أخبرك ناجح برغبته بالعودة الى العراق للبحث عن زوجته وابنه، هل عرفتِ وقتها مباشرة بأنك ستذهبين الى هناك لتسجلي تلك الرحلة، وما هي الاستعدادات التي قمتِ بها للتصوير في مكان خطر كثيراً مثل العراق؟
نعم كنت أريد أن أكون مع ناجح وأصور رحلته الى بلده الأصلي. في التحضيرات لتلك الرحلة تحدثنا لمجموعة من شركات الأمن الدولية التي تعمل في العراق، ومجموعة من العراقيين في العراق، من الذين يقومون بمرافقة وتسهيل عمل فرق التصوير الأجنبية. بعض شركات الأمن تلك اخبرتنا بأننا يجب ان نتنقل بثلاثة سيارات مدرعة، وأن علينا أن نكون في السيارة التي تسير في الوسط. وجدنا هذه التفاصيل مجنونة للغاية (تضحك). صناعة فيلم تسجيلي هي بشكل عام عملية حميمية للغاية، فكيف يمكن أن تؤدي عملك مع كل هذه الإجراءات الأمنية المشددة. والتي ستحظى باهتمام كبير من الناس هناك، والذي من شأنه أن يعقد العمل الذي ننوي القيام به.
بعد التفكير ومناقشة هذه التفاصيل مع ناس في العراق وفي البصرة تحديداً حيث تعيش عائلة ناجح. وطلب النصيحة من بعض الإعلاميين الذين يعملون هناك، ومنهم مُراسل لقناة الجزيرة الفضائية. قررنا الاستعانة بعراقيين على الأرض، حيث أننا سنحتاج الى حمايتهم في أيام التصوير الخارجية، بخاصة أن جُلَّ عملنا سيكون تصوير ناجح في بيت أخواته واقربائه. وحتى لا نلفت الكثير من الانتباه قمت بارتداء الحجاب الإسلامي أثناء وجودي هناك. بالحقيقة سارت الأمور على خلاف خططنا وتوقعاتنا أحياناً، اذ صورنا الكثير من المشاهد الخارجية في شوارع البصرة، والتي مرَّت بدون مشاكل، اذ كان الناس لطفاء كثيراً، بخاصة بعد أن يسمعوا بقصة ناجح، وسبب وجوده في البصرة.
احتفظت المشاهد الخارجية في البصرة بحميمية جيدة، ولم يربكها تجمع الناس حول الكاميرا وكما حدث أحياناً، هل كان فريق التصوير صغيراً؟
نعم. مُصور الفيلم هو من أصل عراقي إيراني اسمه دريد منجم، والذي كان مناسباً تماماً للقصة التي يقدمها الفيلم (تضحك). هذا المصور كان ضمن فريق تصوير فيلمي: “خزانة الألم” و “Zero Dark Thirty ” للأمريكية المعروفة كاثرين بيغلو. بالنسبة للصوت، قام بالعمل بمهندس صوت من البصرة نفسها. فترة التصوير في البصرة استغرقت أسبوعين. صورنا أيضاً وخلال فترة بقائنا في العراق في بغداد أيضاً. كل شخص قابلناه هناك رحب بنا بكل دفء. أخوات ناجح رغبن أن أبقى في بيوتهن وألا أذهب الى الفندق. الناس كانوا دافئين وكرماء للغاية. كان أمراً رائعاً التقرب من مجتمع النساء في البصرة، فطيبتهن وذكائهن والحياة الداخلية داخل هذا المجتمع هي أمور أسعدتني كثيراً.
أعدت تمثيل بعض المواقف المهمة من حياة ناجح من ثمانيات القرن الماضي. تلك المشاهد تميزت بقربها من أجواء المكان والناس من تلك الفترة، كيف أنجزت تلك المشاهد، وأي نوع من البحوث قمتِ بها؟
بحثنا في لباس الجنود في الجيش العراقي في تلك الفترة. تحدثت أيضاً مطولا مع ناجح حول ذكرياته الشخصية عن تلك الفترة. عن شكل سوق الخضار الشعبي حيث قابل المرأة مثلاً. كما حاولنا أثناء زيارتنا الى البصرة وبغداد التركيز على بعض التفاصيل من أجل المشاهد التي ننوي تصويرها. كما ذهبنا الى الأردن حيث تعيش جالية عراقية ضخمة، وقمنا بالتصوير هناك أيضاً. الأردن يتميز بأن بعض المناطق القديمة فيه تشبه عراق الثمانينات. كما شاهدت أرشيفاً صورياً عن العراق من تلك الفترة. الذي ساعد أيضاً أن الزمن لم يتحرك في بعض مناطق البصرة. وهذا ساعد في تكوين صورة ما عن المدينة في ذلك الوقت. وكجزء من التحضيرات لاختيار الممثلة التي تقوم بدور حبيبة ناجح، طلبت من ناجح أن يصف شكلها وحركاتها، وكان معنا فنانين تشكيليين ساعدوني على رسم ملامح تلك المرأة.
ركزتِ بشكل أكبر على ناجح وحظي زاهد باهتمام أقل، رغم أن قصة الأخير مؤثرة للغاية، من طفولته المعذبة والتحاق بوحدة اليافعين في الجيش الإيراني. هل سعيت الى تحقيق توازن ما لجهة الوقت الممنوح لكلا الرجلين؟
كان تحقيق التوازن بين القصتين أمراً صعباً. بسبب قوة وعاطفية المهمة التي كان ناجح ينوي القيام بها بالبحث عن عائلته. في تلك الفترة لم يكن لدى زاهد أي خطط لزيارة عائلته في إيران، بيد أنه عندما سمع بمرض والده، قرر هو أيضاً السفر الى المنطقة على أمل لقاء والده. كنت أعرف أن لقاء زاهد بوالده الذي كان عنيفا للغاية معه في طفولته سيكون لحظة فاصلة في حياة الأبن ومؤثراً للغاية. لكن وبسبب قلق زاهد – المبرر بالكامل – من الملاحقة الأمنية إذا زار إيران، فكر بلقاء عائلته في تركيا، والذي تعثر أيضاً بسبب مرض والده، وعدم قدرته على السفر، لتحضر شقيقة زاهد وحدها الى تركيا لرؤيته.
كان لحظة سعيدة في الفيلم، عندما ظهر زاهد في واحد من المشاهد الختامية مع زوجته وابنه. ليبقى ناجح الوحيد الذي لازال يصارع الماضي والحاضر؟
عندي أخبار جيدة حدثت بعد الانتهاء من التصوير. إذ أن ناجح يعيش اليوم استقرارا مادياً بفضل ما يحصل عليه عن طريق شركته الصغيرة لنقل الأثاث، وما يقوم ببيعه من أثاث مستعمل في سوق الخردة، وبدأ بترتيب حياته وانتهت الفترة التي كان يعيش فيها في بيت غير مُرتب، والذي كان يبدو وكأنه امتداداً لسنوات السجن التي عاشها. وزاهد الذي عانى كثيراً في حياته في كندا، افتتح هو الآخر مشروعاً تجارياً صغيراً.
الأحداث في فيلمك هي أغرب من الخيال، هل أنتِ قلقة أن المشاهد ربما لا يصدق ما يراه في الشاشة؟
(تضحك).. لو خير لي كتابة فيلم روائي، لم أكن لأكتب قصة تشبه قصة ناجح وزاهد، فلا أحد سوف يصدقني. لكننا قمنا ببحث موسع في قصة الفيلم وغيرها من القصص المشابهة عن مصادفات نادرة، وصادفتنا أشياء غريبة حقاً، حتى أننا فكرنا وقتها بعمل ما يشبه المسلسل المتالف من حلقات تسجيلية عن مصادفات لا يُصدقها العقل أحياناً. قصص مثل واحدة عن طيار نازي سقطت طائرته في الحرب العالمية الثانية قريباً من قرية فرنسية لينقذه مزارع فرنسي، ولقاء الألماني والفرنسي بالصدفة بعدها بسنوات. هذه الأشياء تحدث في الواقع رغم غرابتها الكبيرة.
من الصعب مشاهدة الفيلم دون التفكير بأزمة اللاجئين المتواصلة. أنتِ تعيشين في كندا التي استقبلت الكثير من اللاجئين، هل تعتقدين أن مهمة صانعي الأفلام أصحبت مضاعفة الآن، للبحث ونقل قصص هؤلاء التعساء الذين يجبرون على ترك بلدانهم؟
أعتقد أن مهمة مخرجي الأفلام التسجيلية هو تقديم قصص لم تسرد بعد، أو توجيه الانتباه إلى تفاصيل تسير عكس السائد إعلامياً أو ما نعرفه عن منطقة أو قومية ما، وهذا كان السبب الأساسي الذي جذبني الى قصة ناجح وزاهد؛ بسبب العناصر المؤثرة والرسالة الكونية التي تملكها قصتهما، وكيف أنهم تغلبوا بشجاعتهم على اختلافاتهم. ما أردت أن أقوله في فيلمي، أن هذه قصة عن رجلين من العراق وإيران، كانوا على جانبين مختلفين في الحرب بين بلديهما، رغم ذلك فحكايتهما تتضمن الكثير من العناصر الإيجابية. هذا في الوقت الذي نادراً ما نسمع فيه هنا في الغرب بقصص إيجابية عن الرجال المسلمين في منطقة الشرق الأوسط.
أما بخصوص المناخ السائد حالياً… فأتمنى أن الفيلم يقدم رسالة تتضمن الأمل، إذ أن كندا التي استقبلت كلا الشخصيتين بشكل منفرد، ورغم أنهما أتيا من مناطق نزاع دموية، إلا أنهما وجدا حياتهما في كندا، وهما يساهمان كل على طريقته في إغناء الحياة في بلدهما الجديد، فهما يعملان بكل ما يستطيعان من قوة لتحسين حالتهما الاقتصادية.