الأبديّة في مصنع هندي

محمد موسى 

إذا كان من الممكن عمل قائمة من الآن لأهم الأفلام التسجيلية التي عرضت في العام الحالي، فإن فيلم “مكائن” للمخرج الهندي الشاب “راهول جين” سيحجز موقعاً مهماً فيها. فهذا العمل التسجيلي هو رحلة بصريّة مُذهلة وغير مسبوقة في يوميات عمال هنود منسيين يشتغلون في أحد المصانع الهندية التي تنتج أقمشة تصدر حول العالم. قضى المخرج الشاب ثلاث سنوات وهو يعمل على فيلمه هذا، وخرج بمحصلة شديدة التأثير، سواء عبر سرديته السينمائية الصامتة المفعمة بالأسى والتي تتشكل على مهل، أو بما يستدعيه الفيلم من أسئلة عن حال الطبقة الاجتماعية المسحوقة التي يقدمها.
تدخل كاميرا الفيلم إلى مصنع الأقمشة، ولا تخرج منه إلا في المشهد الختامي، وتضيع في ضجيج المكان المعتم مسجلة أزمان بدت كالأبدية، مسحورة حينا بألوان الأقمشة الزاهية التي تخرج من مكائن صدئة، ومارة أحياناً اخرى على العمال الشباب الذين يعملون هناك تحت ظروف قاسية. ينتمي الفيلم إلى سينما المراقبة، ويبرز جماليات مختبئة في الغفلات البشرية، كما يصل الفيلم إلى لحظات صعبة كثيراً على المشاهدة، يتعثر بها بالصدفة أثناء وجوده الطويل في المصنع. بدأ الفيلم رحلته من مهرجان سنداس السينمائي الأمريكي المعروف، وعرض بعدها في مجموعة من أهم المهرجانات السينمائية في العالم، وفاز بجوائز هنا وهناك كأفضل فيلم تسجيلي وأفضل مخرج.
وفي الآتي حوار مع المخرج الهندي “راهول جين” عن فيلمه التسجيلي الأول: 

ستمرّ دقائق طويلة قبل أن نسمع الكلمة الأولى في الفيلم، والذي حجزت الحوارات والمقابلات مساحة قليلة للغاية مقارنة بالمشاهد الصامتة، هل خطر ببالك عمل فيلم يخلو من الحوارات تماماً.. فيلماً تسجيلياً يرتكز على الصور وقوتها؟
نعم.. بالحقيقة كانت هناك 87 نسخة من الفيلم، ما شاهدته هو النسخة الثامنة والثمانين. النسخة الأولى كان تتشَّكل تماماً من الصور. واحدة من نسخ الفيلم الأولية كانت 40 دقيقة من المشاهد الصامتة ونصف ساعة من المقابلات. لكن كان عندي 517 مقابلة أجريتها خلال سنوات تصوير الفيلم، فما الذي كان يُمكن أن أفعله بكل تلك المواد؟ لا يمكن بسبب الطموح أو التجريب الفنيّ إغباط حق العواطف التي تظهر عند سماعك لقصص الشخصيات في الفيلم. بالنسبة لي، أملك صوتاً ويمكن أن أعبر عن صوتي هذا براحة وبدون خوف. لكن التعبير عن صوت الآخرين فهذه مسؤولية كبيرة. أثناء المونتاج شعرت أن الذين كانوا يتحدثون في المقابلات كانوا يقولون الشيء نفسه، وكنت أتساءل لماذا عليّ أن أعرض كل هذا؟ حيث إننا نعرف مُقدماً هذه المشاكل. كنت متردد جدًا. على الجانب الآخر أحسست بأهمية سماع شخصاً يتحدث ويفتح قلبه ويشهد على زمانه، كل هذه الأشياء التي تسمح بها السينما غير الروائية، أيقنت حينها أن رؤيتي الفنية الشكليّة غير قادرة وحدها على نقل كل شيء.  في الماضي وعندما كانت أشرطة السينما غالية كثيراً، كان التفكير حينها ينصب على الاقتصاد فيما يجب تصويره، لذلك كان لكل لقطة حساب. أما في عصر الديجيتال الذي نعيش فيه فبمقدورك تصوير ما يحلو لك. أفكر بهذا الجانب كثيراً، لجهة ماذا يعني هذا بالنسبة للصور التي نريد أن نصورها. كمخرج ربما تشعر بالتشتت والضياع أمام الاحتمالات التي توفرها الكاميرات الحديثة وما يُمكن أن تصوره. 

هل قضيت وقتاً طويلاً في المصنع قبل أن تبدأ التصوير لتكتشف المكان والمناخ الخاص والتعرف على العمال هناك؟ 

كان جدي يملك مصنعاً قريباً كثيراً بظروفه من المصنع الذي رأيته في الفيلم. كطفل لم أكن غريباً عن هذه الأجواء. كان جدي يعيش فوق المصنع مباشرة حتى كان يستطيع مُراقبة العمل والعمال. عندما كنت أزور جدي في عطلات الصيف. كان المصنع يقع تحت المكان الذي كنت أبات فيه. كنت أحب الذهاب إلى هناك عندما كنت طفلاً، وامتزجت صور الطفولة لي بما شاهدته في معمل جدي. 
بالطبع عندما صورت فيلمي هذا كنت شخصا يختلف عن ذلك الطفل، شخصا يعرف جيداً الامتيازات التي كنت أتمتع فيها مع فضول لما يحدث بين أجواء العمال الفقراء. حتى عندما كنت طفلاً، كنت مشغولاً بأسئلة الحياة الكبيرة عن العدل والمساواة، ومن هذه التساؤلات وُلِّدَ هذا الفيلم. فكرت أن أذهب إلى المصنع وأشتغل هناك لفترة شهر أو شهرين حتى أفهم الحركة الجسديّة اليومية للعمال، وأيّ قسم من جسدي سوف أحتاجه في هذه الحركة، لكني تراجعت عن هذه الفكرة. 

ذكرت قبل قليل أنه كانت هناك 87 نسخة أولية من الفيلم، ما أريد أن أسألك بخصوصه هو عن بناء الفيلم نفسه، إذ أنه يبدو أحياناً وكأن الفيلم هو تسجيل ليوم عمل كامل من الصباح إلى المساء، ثم تتغير طبيعة المشاهد، ليبدو الفيلم حينها وكأنه يتبع مراحل إنتاج القماش في المصنع؟

تمرّ علينا كمتلقين مئات بل آلاف الصور والقصص كل يوم. أصبح عقلنا يتوقع مسّار ونمط تقليدين للحكايات التي نراها في الأفلام. بيد أن الحياة هي معقدة كثيراً وليست سهلة على الأطلاق، فكل يوم يمرّ لن يكون بأي شكل من الأشكال “يوماً في حياة “. فكرت في البدء في تتبع وكما ذكرت مراحل صناعة الأقمشة في المصنع. لكن ما انتهيت إليه كان يشبه فيلم ترويجي لمصنع من التي يعرضها التلفزيون أحياناً. الفيلم ليس عن القماش. رغم أني حاولت أن أستغل جمال الأقمشة في أخذ المتفرج إلى مكان آخر. لم تكن عملية إيجاد البناء هينة أبداً، أُصبت وقتها بالاكتئاب لأني لم أعرف وقتها إلى أين أتوجه لجهة الأعمال والمرجعيات التي يمكن أن تساعدني على إيجاد ما أبتغيه. لستة أشهر كنت أنجز نسخ بعد نسخة من الفيلم لكني لم أكن راضياً على أيّ منها. قرأت قبل فترة أن الحدسّ هو في الحقيقة نتيجة لوعيك العميق بما تفكر به، وحدسّي هو الذي قادني في النهاية إلى النسخة الأخيرة من الفيلم.  المشكلة عندما تشتغل على فيلم لفترة طويلة جداً – وكما حصل لي – أنك تبدأ تفقد عقلك، إذ لا تفارق صور الفيلم خيالاتك. كل الذين عملوا معي في الفيلم ملَّوا مني وتركوني. من تفاصيل عمليات المونتاج، أني كتبت على الورق النصوص الكاملة للحوارات (حوالي 60 ساعة) التي أجريتها مع الشخصيات في المصنع وحاولت أن أحللها. ثم وصفت في كلمة واحدة كل حوار عملته، ووضعت هذه الكلمة على الخط الزمني للفيلم. عندما عملت ذلك وجدت الطريق أخيراً لبناء الفيلم، وأصبح الأمر أقل صعوبة.

هل لك أن تحدثنا عن مصور الفيلم “رودريغو تريخو فيلانويفا”، والدور الذي قام به في الفيلم، والعلاقة بينكما؟

هو صديق طفولة، درس السينما في الهند، وتعلمت منه الكثير على صعيد رؤية هذا العالم عن طريق عدسات الكاميرا. ذوقنا السينمائي يتشابه كثيراً، رغم أننا آتين من خلفيات اجتماعية مختلفة. على صعيد التصوير، كنت أُصور كل شيء عن طريق كاميرا هاتفي وأعرض الكادر عليه، ثم نتناقش بعدها، وإذا اتفقنا يبدأ هو بعدها باستخدام كاميراته المتقدمة لتصوير الكوادر ذاتها. كان يصور بنفسه، وكنت أقوم بتسجيل الصوت في الفيلم. فقدت السمع أثناء وجودي الطويل في المصنع بسبب الضوضاء هناك.  

بخصوص سلسلة المشاهد الهائلة القوة والعاطفية التي صورت الصبي وهو يقف على ماكينته وكيف كان يغفو أحياناً من التعب ويسقط رأسه إلى الأسفل، كيف صورتم تلك المشاهد؟ هل حدثت بالصدفة؟

زميلي المصور هو من قان بتصويرها، كنت قبلها أخبرته عن رغبتي الشديد بأن نصور العمال وهم نيام. كان هذا الأمر سهلاً كثيراً، إذ أنهم وبسبب ساعات عملهم الطويلة كانوا ينامون أثناء الاستراحات. بالطبع كان علينا أن نأخذ موافقتهم على التصوير. بعد أن تجمعت لدينا مجموعة من المشاهد في هذا الاتجاه، شعرت أن تصوير شخص يُغالب النوم ستكون أكثر قوة وتأثيراً بكثير. شخصاً يكون ما بين النوم واليقظة.
في هذه الأثناء تعرفت على صبي كان دائماً يصارع النعاس والنوم، وطلبت من المصور أن يصوره. المشاهد الأصلية لعذاب ذلك الصبي كان طولها يقترب من 45 دقيقة. ما حصل في نهاية المشهد الطويل أن يد الصبي عَلِقت في ماكنته وجرح وكانت هناك دماء في كل مكان. لكننا قررنا عدم إظهار الدَم. أعتقد أنه يجب أن يكون هناك سبب وجيه لاستخدام مشاهد عنيفة في السينما. كما أن وجود مشهداً عنيفاً مثل هذا سيُحيد انتباه المشاهد عن القضايا الأخرى في الفيلم.

كيف أقنعت صاحب المصنع في التصوير في مصنعه وهل اشترط شروطاً معينة، أو شاهد النسخة النهائية من الفيلم؟

عندما بدأت التفكير بالفيلم، لم أكن قد قابلت صاحب المصنع، لكن تربطني به رابطة قرابة بعيدة. عندما فاتحته في نيتي التصوير في مصنعه أخبرته أن الهند بلد عظيم وأننا عملاق نائم وقريبين من الهيمنة على العالم، وأريد عبر فيلمي أن أبيَّن كيف استطاع تشغيل مئات الناس في مصنعه (يضحك). كان عليّ أن أقول له ذلك حتى أقنعه. بالمناسبة هو لم يشاهد الفيلم بعد، وكما أي من العمال أو الشخصيات التي صورتها. فيلمي لا يتضمن التشهير أو كشف حقائق، كل ما عرضته هو معروف للجميع. والمصنع يقع في وسط المدينة ومفتوح للعامة. هل تعرف أن رئيس وزراء الهند قد شرع عمل الذين يتجاوز عمرهم الرابعة عشر من العمر، أي أن عمالة الأطفال مسموح بها اليوم في الهند. التشريع الرسمي لا يعني هنا أن تشغيل الأطفال هو عمل جيد. عندما أعرض الفيلم في الدول الغربية، أتلقى دائماً الأسئلة ذاتها من المتفرجين هناك، والذين يستفسرون عن كيفية المساعدة في وقف ما يحدث هناك من تجاوزات. لا أعرف بالحقيقة أجوبة على هذه الأسئلة، فإذا توقفت عن شراء الملابس المصنوعة في الهند فهذا يعني أن ملايين من الناس سيجدون أنفسهم بدون عمل. أرغب بعرض الفيلم على متخصص بالاقتصاد لأعرف رأيه. الأفلام لا تغير الواقع لكنها وأن كانت صادقة وجيدة تدفع المشاهد للتفكير. أتمنى أن يساعد فيلمي بزرع بذرة ما للتغيير. 

كان هناك مشهد في نهاية الفيلم لرجال خارج المعمل يتحادثون فيما بينهم. يبدو المشهد غريباً عن سياقات الفيلم، فما هي ظروفه ولماذا رغبت أن تضمه إلى فيلمك؟

شعرت أننا لم نخرج أثناء التصوير من المصنع الذي كان مركزنا طوال تلك السنوات. وأننا لم نستمع إلا إلى وجهة نظر عمال من داخل المعمل أو من أصحابه، وأننا كنا نصور شخصيات لوحدها وهي تتحدث إلى الكاميرا. ولأني مهتم بالديناميكية التي تنشأ في المجموعات، حيث يمكن تعلم أشياء أكثر عن ظرف أو مكان بالاستماع إلى وجهات نظر مجموعة من الأشخاص، وهو السبب وراء ذلك المشهد. هناك منطق للجموع والذي يبدو ظاهرياً أن المنطق يغيب عنه. فالوضع قد يتطور إلى وجهات غير محمودة مثل الحرائق التي تندلع فجأة. كما أن الحقائق التي تخرج من حوارات مع مجموعات تختلف عن تلك التي يزعمها شخصيات منفردة. كنت أريد أن أستخدم هذا في الفيلم. كما أن إضافة المشهد الخارجي في نهاية الفيلم يمنح رؤية أكبر. في تلك المشاهد كان مجموعة الرجال تتحدث عن الحياة الريفية التي أتوا منها والتي دمر الكثير منها بسبب التغييرات المناخية، لو كنت وضعت تلك المشاهد في بداية الفيلم ربما كان المشاهد سيتعاطف مع الشخصيات حتى قبل أن يبدأ الفيلم وهذا أمر لم أكن أريده. 

حصل الفيلم على حفاوة نقدية كبيرة وعرض في مهرجانات سينمائية مرموقة كيف ترى الفيلم اليوم، ولماذا وأنت الذي تعيش في الولايات المتحدة اخترت قصة من الهند لأول أفلامك؟

عندما بدأت في دراسة السينما في الولايات المتحدة، لم أكن أخطط لعمل فيلم غير روائي. فيلمي التسجيلي هذا حدث بالصدفة، وهو الآن يعرض في مهرجان متحف “موما” للفن الحديث في نيويورك كأول الفيلم تسجيلي يعرض في هذا المهرجان الفنيّ والخاص كثيراً. استغرق الفيلم ثلاث سنوات من التصوير، واحتجت إلى ستة أشهر لكي أنسي الصور في الفيلم، والآن لا أستطيع مشاهدة الفيلم مجدداً. لم أستطع عمل شيء في أمريكا، لأني لم أرى نفسي أمريكيًا. كنت أُريد أن أجد شيء أشعر به.  كنت قلقاً من ردود أفعال الجمهور على الفيلم، وإذا كان سيمّل من رؤية كل هذه الأقمشة، أعرف أن البعض يعجبه هذا الجمال المجرد، ويمكن أن يجد أن عملية المشاهدة تشبه التأمل. كان عليّ أن أجد التوازن المناسب بين الصور والمحيط الذي صور فيه الفيلم وقصص العمال.  ما رغبته لأجواء وبناء الفيلم أن تكون لا نهائية، ويتداخل فيها الليل والنهار وكما يحدث في المصنع الذي لا يتوقف العمل فيه، أردت أن يشعر المتفرج بالضياع ولا يعود يعرف الفروقات بين الليل والنهار في الفيلم. لم أكن أرغب ببناء واضح وكنت أحاول أن أقلل من أيّ تركيبية زائدة، بل أجعل الفيلم يتدفق.

هل ستعرض الفيلم في الهند؟ وما هو الاستقبال الذي تتوقعه للفيلم هناك؟

أتمنى أن الاحتفاء النقدي الذي حصل عليه الفيلم في الغرب، سيدفع الناس هناك لأخذ الفيلم بجديّة والتفكير بالعوالم التي يقدمها. أتمنى أن يشاهد الفيلم أكبر عدد ممكن من الهنود. هذا الفيلم يفترض أن يُشاهد من قبل جمهوراً واسعاً. أتصور أن ردود الأفعال على الفيلم في الهند ستختلف بحسب الطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها المشاهد. عندي أمل ضعيف أن أعرض الفيلم في المدينة الصغيرة التي صورت فيها لكي يشاهده عمال المصنع أنفسهم. سوف أذهب بالفيلم إلى عدد كبير من المدن التي تضم مصانع مثل مصنع الفيلم وسوف أؤجر صالات سينما هناك لعرضه. نخطط لعرض الفيلم في مئة مدينة هندية.

 

 


إعلان