” تحت الأرض”.. حياة مع الموتى

محمد موسى

يعيش " سكان المقابر" في الفلبين علي سرقة الجثث وما معها من ثروة صغيرة قد تكون مدفونة معهم كخاتم ذهب رخيص للبقاء على قيد الحياة.

في باكورته الروائية المتقنة والشديدة القسوة “تحت الأرض”، يُعيد المخرج الفليبيني الشاب دانيال بالاسيو سرد وقائع يومية قاتمة من حيوات حقيقية لفلبينيين مشردين يعيشون في مقابر عامة في البلد الآسيوي. يحدد الفيلم زمنه بأيام معدودة، ويقدم الحياة اليومية لشخصياته، وهي تكافح للبقاء على قيد الحياة، مُركزاً على عائلة شابة هُزمت تماماً أمام التشرد والعوز والإدمان، وبعد أن سقطت من حسابات المجتمع هناك. تُدبر العائلة هذه ما يسد جوعها اليومي من بيع حليِّ وأسنان ذهبية تسرقها من توابيت المقبرة التي تعيش فيها، وأحياناً من الاتجار ببيع جثث دفنت للتو.

في قلب الفيلم، هناك أزمة طفلة العائلة التي ينهش جسدها مرض قاتل، والتي ستضيف بعداً مأساوياً إضافياً على الحكاية كلها، ويُصعّب حضورها إطلاق الأحكام السهلة والجاهزة. لا مفاجآت كبيرة في الفيلم، ولا تنتظر شخصياته الرئيسية معجزات رغم تدينها الظاهري الملتبس. فالكل يسير نحو مصير معتم في دورة حياة مُعذبة وعصية كثيراً على الكسر.

يصوغ المخرج فيلماً مُلحاً وحاداً، ولا يخشى من تجسيد تفاصيل من الواقع كما هي رغم فظاظتها الكبيرة، ويُطور الإمكانيات المكانية للمقابر الحقيقية التي صور فيها فيلمه في تَشكيل أكثر تفصيلية للشخصيات وما تمرّ به من أزمات. كما يبرز التباينات بين الظروف والشخصيات، فبجانب ثنائية الموت والحياة التي كانت مُهيمنة على الفيلم، هناك ثنائية أخرى، حيث أن حضور “القبور” الشاحب والنهائي، يقابله طاقة شابة مُكبلة لا تخطؤها العين تحملها الشخصيات الشابة المُشردة التي تعيش هناك.

عُرض فيلم “تحت الأرض” للمرة الأولى في الدورة الأخيرة من مهرجان سان سيباستيان الدولي المعروف، وحظي وقتها باهتمام الصحافة السينمائية، ثم اختير بعدها للعرض ضمن تظاهرة السينما العالمية في الدورة الثلاثين لمهرجان طوكيو السينمائي.

من العاصمة اليابانية طوكيو، كان هذا اللقاء مع المخرج الفليبيني دانيال بالاسيو:

مخرج"تحت الأرض" دانيال بالاسيو" والذي يسرد فيه وقائع يومية قاتمة من حيوات حقيقية لفليبينيين مشردين يعيشون في مقابر عامة.

فيلمك مستوحى من أحداث حقيقية. متى وكيف سمعت بهذه الأحداث. وهل اتصلت بالناس الذين يستند فيلمك إلى قصصهم، أو تعاونت معهم بأيّ شكّل من الأشكال في مرحلة كتابة السيناريو أو في مراحل لاحقة من صناعة الفيلم؟

فكرة الفيلم بدأت في عام 2010. ليس غريباً أن ترى في الفلبين بشراً يعيشون في المقابر العامة، وعلى خلاف المقابر الخاصة المحمية والتي تخلو من المشردين. لذلك لم يكن من الصعب أبداً إجراء البحوث التي تخص الفيلم. ذهبت إلى سبع مقابر عامة وقابلت أناساً يعيشون هناك، بحثاً عن أكثر القصص تأثيراً. في أثناء البحث تعثرت بقصة السيد لور ينزو الذي عرفني بابنه “بانغيز”، والذي سيكون الشخصية الرئيسية في الفيلم. “بانغيز” والناس الذين كان يعيش معهم رحبوا بنا بأذرع مفتوحة. ساعدت الشخصيات الحقيقية ممثلي وممثلات الفيلم على التآلف مع أجواء المقابر، وأطلعوهم على الروتين اليومي لحياتهم فيها، وساعدوا في الكثير من التفاصيل الخاصة أثناء التصوير الفعليّ للفيلم.

ما نوع البحوث التي قمت بها من أجل كتابة هذا الفيلم، وطبيعة الحوارات والأسئلة التي طرحتها على سكان المقابر؟

بعد أن حاورت أناساً يسكنون في ست مقابر عامة لم أجد هناك ما أبحث عنه. معظم القصص في المقابر تلك كانت عن الفقر، والتي كنت أريد أن أبتعد عنها في فيلمي. لم أكن أريد أبداً أن أستغل قصص الناس فقط بسبب فقرهم. كنت في المقابل أبحث عن الإلهام والجمال في حكايات هؤلاء الناس رغم الظروف القاسية التي يعيشون فيها. واصلت بحوثي حتى اقترحت عليّ السيدة التي تساعدني في تنظيف البيت الذهاب الى المقبرة التي يعيش فيها “بانغيز”، والتي كانت تبعد خمس عشرة دقيقة من محل سكني. قصة “بانغيز” ليست فقط قصة عن سكان المقابر في الفلبين، هي تمثل التشرد والنبذ والطبقة المهملة في بلدي وحول العالم.

هذا هو فيلمك الأول، والذي اخترت أن تروي قصته بأسلوب واقعي مُتفجر وحاد كثيراً، حيث تعاملت مع أزمات المجتمع العامة عبر المآسي الشخصية للأفراد. كيف اخترت مقاربة هذا الفيلم؟ وهل الواقعية الاجتماعية التي ينتمي إليها فيلمك هي اتجاه قريب عليك كصانع أفلام؟

والد بانغيز الذي يقترب عمره من الخامسة والسبعين، وُلد هو نفسه في أحد المقابر العامة، وكون عائلته هناك. أدركت في وقت مبكر من بحثي أن الظروف الذي يعيش فيها ساكنو المقابر منذ وقت طويل جداً مازالت على حالها، ولا يبدو أن شيئا في طريقه إلى التبدل أو أن ما يحدث هناك سيدفع أي أحد للتحرك، مالم نعرض حياة هؤلاء الناس ونبيّن مساراتها عبر السنين. أردت أن أعمل فيلماً قريباً على قدر الإمكان من الواقع المعاش ومن الظروف الوحشية التي تعيش فيها الشخصيات. في هذا الاتجاه استخدمنا ناساً تعيش في مقابر كممثلين ثانويين في الفيلم ليزيد هذا من تقريبه من الواقع. الواقعية الاجتماعية هي أمر أساسي لمقاربة تتقصد أن تجعل بلداً من العالم الثالث مثل بلدنا يستمع إلى ما تود أن تقوله، ولمعرفة إذا كان الجمهور مستعداً للإصغاء أو المشاركة في التغيير، أو أنه سيغض الطرف.

يتألف العدد الأكبر من ساكني المقابر من فئة الشباب، يعيشون على وجبة واحدة في اليوم، فاقدين السيطرة على دفة حياتهم.

الفيلم يبدأ بمشهد قوي للغاية، هذا رغم أن تفاصيله لم تكن واضحة بشكل كامل، واحتجنا كمشاهدين بعض الوقت حتى نعرف ماذا كان يجري حقا أمام أعيننا، هل لك أن تحدثنا عن هذا المشهد بالتحديد؟

أردت من هذا المشهد أن ينظر المتفرجون إلى الميت في النعش الخشبي كما يراه “بانغيز” نفسه والناس الذين يعيشون هناك في المقابر. وبالتحديد التركيز على الفعل الذي يقومون به للبقاء على قيد الحياة. حيث لا يهم وقتها إذا كان عملهم من أجل الظفر بخاتم ذهب رخيص أو من أجل ثروة صغيرة قد تكون مدفونة مع الجثث، فهم يائسون إلى أقصى حد. كنت أريد أن أدخل إلى عقولهم بوقت مبكر جداً من الفيلم، وأثناء تحضيرهم لعملية سرقة جثة. كان قربيّ من جنازة فعليّة في المقبرة وقتها، وأثناء التصوير عاملاً أساسياً في كتابة هذا المشهد، بخاصة أن المشهد الافتتاحي لم يكن على هذا النحو في السيناريو الأصلي. أردت أن أمزج في المشهد بين احترام الناس لموتاها، وبين ترقب البعض خلوّ المكان من الناس حتى تُنهب الجثث وإهانتها في نهاية المطاف.

كيف اخترت الممثلين والممثلات لفيلمك؟ وهل ساعد هؤلاء في رسم تفاصيل الشخصيات والبيئة التي تجري فيها أحداث القصة؟

معظم كادر التمثيل من المحترفين، وبالخصوص الذين لعبوا الأدوار الرئيسية في الفيلم. لقد تعايشوا لأيام في نفس البيئات التي تعيش فيها شخصيات الفيلم وتحدثوا لأشخاص تعيش هناك، وهذا كان مُهماً كثيراً لي، لأني لم أعطهم أيّ سيناريو مكتوب. أخبرتهم فقط عن شخصياتهم. العمل على هذا النحو كان تحدياً كبيراً للممثلين والممثلات، بيد أنهم شعروا سريعاً جداً بالراحة والثقة في أجواء العمل. طريقة العمل هذه ساعدت على الحصول على أداء  عفوي وتلقائي من الممثلين والممثلات. حيث كنا نكتفي غالباً بتصوير المشهد لمرة واحدة فقط، ولم يكن هناك حاجة لعدة محاولات.

لاحظت أن معظم المشردين في الفيلم هم من الشباب، هل هذا يعكس الوضع العام في الفليبين في الوقت الحاضر؟

سؤال جيد. معظم المشردين من المتقدمين في العمر في الفليبين يعيشون في الأضرحة الدينية، لذلك يتألف العدد الأكبر من ساكني المقابر من فئة الشباب. الوضع مأساوي كثيراً، حيث ترى أحياناً في العاصمة المزدحمة مانيلا عوائل تتألف من ستة أو سبعة أفراد تعيش على الطرقات، أو تحت الجسور، يتناولون -إذا كانوا محظوظين – وجبة واحدة في اليوم. هم ناس فقدوا السيطرة على دفة حياتهم ويحتاجون المساعدة.

عايش الممثلون" سكان المقابر" حتي تزيد واقعية الفيلم.

المخرج الفلبيني المعروف بريلانتي ميندوزا هو المنتج التنفيذي لفيلمك، ماذا كان دوره بالتحديد، وكيف تصف العمل معه؟

بريلانتي ميندوزا كان إلى جانبي في كل مراحل ما قبل التصوير، بدءاً من تطوير السيناريو وحتى الانتهاء من كتابته. كما كان معي أيضاً “أرماندو لاو” الذي أشرف على السيناريو وكان مُوجها ليّ. تناقشت مع ميندوزا في كل تفاصيل المشروع السينمائي، وساعدني كثيراً في شحذ السيناريو بقوة كبيرة. في وقت التصوير تركني لوحدي للعمل. في العادة لم تكن تراه أبداً في موقع التصوير، لكن بين الحين والآخر كنت ألمحه وهو يساعد باستمتاع فريق التصوير والتقنيين. كان يريدني أن أطبع المشروع بشخصيتي الفنيّة الخاصة، وأن أطور أسلوب في الإخراج. إعجابي بـ “ميندوزا” تضاعف مئات المرات منذ أن عملنا سوياً

هناك العديد من الأفلام الممتازة التي تصل من الفلبين في السنوات الأخيرة، هل لك أن تصف لنا حال الصناعة السينمائية في بلدك، وهل سيتم عرض فيلمك في الصالات التجارية هناك؟

نحن مدينون بالتقدم الذي تشهده السينما الفلبينية للذين سبقونا من المخرجيين الفلبينيين الكبار وبالخصوص بريلانتي ميندوزا. والذين تحدوا التيار السينمائي التجاري السائد بأفلام مُغايرة، غير عابئين إذا كانت أفلامهم ستحقق العائدات المالية. ما حققه هؤلاء المخرجين عبد الطريق لنا نحن المخرجون الشباب لكي نعرض أفلامنا في المهرجانات السينمائية الدولية والمحلية. هم وضعونا على الخريطة الدولية. بسبب حضور أفلامنا في العديد من المهرجانات السينمائية المحلية، صار لنا موقعاً ضمن السينما التنافسية في بلدنا.

أتمنى أن يعرض فيلمي قريباً في الفلبين وبعد أن ينهي جولته في المهرجانات السينمائية. الفيلم يحتاج أن يشاهد من قبل الناس الذي يُمثلهم. ربما لن يغير الفيلم الكثير بالنسبة للموضوعة التي يعالجها، لكنه على الأقل يُحاول في هذا الاتجاه.

يحاول "تحت الأرض" تسليط الضوء علي المشردين ليس فقط في العاصمة المزدحمة مانيلا التي تكتظ بعوائل تتألف من ستة أو سبعة أفراد تعيش على الطرقات، أو تحت الجسور،بل في العالم كله.


إعلان