الجنابي: ” قصص العابرين ” يمثلني

محمد موسى

يحكي الوثائقي " قصص العابرين" لمخرجه " قتيبه الجنابي" قصص النفي والشتات للعراقين في الثلاثين عاماً الأخيرة .

يصعب تصنيف جديد المخرج العراقي البريطاني قتيبة الجنابي والذي يحمل عنوان “قصص العابرين”، فهو يجمع فيه مشاهد من أفلامه الروائية القصيرة السابقة والتي صورها في ظروف مختلفة في الثلاثين عاماً الماضية، ويقدمها ضمن بناء تسجيلي يروي قصص المنفى والتشتت لشخصية تشبه كثيراً المخرج نفسه، وهو الذي ترك العراق في مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي، ضمن واحدة من هجرات العراقيين العنيفة التي لا تتوقف بعيداً عن بلدهم.

تهيمن حكايات الهجرة القسرية والاغتراب على جميع أفلام المخرج العراقي السابقة، لذلك لن يكون ربطها معاً في عمل يستعيد النفي الأول عن الوطن عملية مقحمة.  صور المخرج أفلامه السابقة في هنغاريا التي درس فيها، وبريطانيا التي انتقل إليها فيما بعد. كما سيعود المخرج إلى العراق بعد عام 2003 بنية تحقيق أعمال فنيّة، والتي ستتعثر بسبب الوضع الأمني والفوضى التي لازالت تهيمن على مفاصل عدة في البلد.

يواجه المخرج في جديدة أشباح الماضي وأوجاعه، ويضيف عبر المشاهد والصور الفوتوغرافية الجديدة التي صورها خصيصاً للفيلم قتامة جديدة إلى الأجواء المعتمة أصلاً لعوالم شخصيات أفلام الروائية السابقة. كما يفتح المخرج جرح والده الذي لم يندمل، والذي اعتقل في ستينيات القرن الماضي لأسباب سياسية وتم إعدامه، حيث إن هناك إشارات عدة لهذا الوالد عبر زمن الفيلم. وكحال الطرق التي كانت شخصيات أفلام الجنابي تهيم بها، لا ينتهي فيلم “قصص العابرين” بمحطة واضحة، حيث إن الطريق مازال طويلاً وغير واضح المعالم، مثله مثل طريق العجلات الطويل في العراق والذي صوره المخرج في يوم غائم بمشهد طويل مؤثر.

عن الفيلم الذي اشترك أخيراً في مسابقة الأفلام الوثائقية في مهرجان دبي السينمائي، أجرينا هذا الحوار مع المخرج قتيبة الجنابي:

تهيمن حكايات الهجرة القسرية والاغتراب على جميع أفلام المخرج " قتيبه الجنابي" مثل فيلم " الرحيل من بغداد " .

كيف تصف أسلوبك في بناء فيلم “قصص العابرين”، وهو العمل الذي يتشَّكل بشكل رئيسي من مقاطع من أفلامك السابقة، والتي صورت في ظروف مختلفة وضمن أعمال درامية مستقلة هل عملت وفق أُطر زمنية أم عاطفية؟

عندما كنت في هنغاريا، كنت الطالب الأجنبي الوحيد في كلية الفنون حينها، كان يدرسنا خمسة مخرجين وخمسة مدراء تصوير. لم أدرس الإخراج حينذاك، بل كان اختصاصي التصوير الفوتوغرافي. في تلك الفترة ولظروف الدراسة في هنغاريا، وظروف البلد الذي أتيت منه كنت أفكر كيف يمكن أن أواصل عمل السينما، بخاصة أن الآتي من بلد آخر لم يكن يملك نفس مميزات ابن البلد. وصلت إلى فكرة حينها بأن أعمل أفلاماً قصيرة عديدة، وفي النهاية سوف أصل إلى الفيلم الطويل الذي أنشده. هكذا سارت حياتي وقتها، والتي أشبهها بأني كنت استخدم عيناً للتصوير الفوتوغرافي الذي كنت أعمل وأنشغل فيه، والعين الأخرى كانت للسينما. لم تفارقني الكاميرا الفوتوغرافية في كل البلدان التي كنت أزورها. في الوقت الذي عكست الأفلام التي صورتها في تلك الفترة حياتي الشخصية بتسلسلها الزمني الذي سارت عليه. لذلك لم أحتج الكثير من أجل توليف “قصص العابرين” حيث أن التسلسل الزمني كان موجوداً أصلاً.

كل ما قدمته هذه الأفلام هو أحداثاً حقيقية مرّت بي. حتى الخصائص اللونية والمكانية للأفلام لها جذور في تجربتي الحياتية الفعلية، إلى درجة أن أخي في العراق وعندما شاهد الفيلم قال لي بتعجب أن هذه قصتك التي نشاهدها في الفيلم. بدأت حياتي المهنية في جريدة الشعب والعائدة للحزب الشيوعي العراقي، وعندما كان عمري السابعة عشرة، لأني سمعت وقتها أن مخرج الصور المتحركة عليه أن يعرف كيف يصور الصور الثابتة، لم تكن السياسة تشغلني في ذلك الوقت، إذ كنت مهووساً بالصور. زملائي في الجريدة كانوا يشجعوني على التصوير في الأماكن الطبيعية، وهذا جذب أعين السلطات لي. أُمّي بدأت بالقلق وبعد أن بدأ الناس يحذروها بأن ولدها يمارس مهنة خطرة، ونصحوها بأن تحثني على السفر خارج العراق. هذه التفاصيل أبقيتها كما هي في فيلم “قصص العابرين”.

يمكنني أن أقول إنني عملت على هذا الفيلم لثلاثين سنة أو أكثر، وهذا يبدو جليّاً من تطور الصناعة السينمائية الذي يعكسه الفيلم، إذ بدأنا التصوير بأفلام 16 ملم ثم 35 ملم، وبعدها انتقلنا إلى تقنية الفيديو وبعدها الديجتال، ومن الأسود والأبيض إلى الملون. لا يوجد خلفي مليشيات أو حزب، بل أعمل بمفردي، و”قصص العابرين” من أحب الأفلام إلى قلبي.

ماذا عن التعليق الصوتي، كيف تصف مراحل كتابته بخاصة أنه شديد القرب منك شخصياً، ويعكس انفعالات وهواجس ذاتية خاصة؟

مرّت عملية كتابة التعليق الصوتي بعدة مراحل ومحاولات. اشتغلت على التعليق الصوتي لستة أشهر كاملة، كنت وحيداً في هذه المهمة، لأنه كان من الصعب طلب المساعدة في عمل خاص مثل هذا. كنت أجرب كثيراً وأغير بعض الكلمات حتى عثرت على النبرة الملائمة، حتى أن عملي كان يشبه ما يقوم به الملحن الموسيقي. في المراحل الأولى لصناعة الفيلم فكرت بعمل التعليق الصوتي باللغة الإنجليزية، كما فكرت في زمن ما من العمل على المشروع بإلغاء التعليق الصوتي بأكمله من الفيلم.

يركز الفيلم على الغربة والنفي التي تعرض لها المخرج وجيله عندما تركوا العراق في نهاية السبعينيات من القرن الماضي بسبب الظروف السياسية في العراق وقتها.

لم تشأ أن تضع شروحات إضافية أو صور عائلية شخصية في الفيلم، هل رغبت أن يرتكز الفيلم بالكامل على الصور السينمائية التي صورت الكثير منها في أوقات سابقة من حياتك؟

منذ عشر سنوات وأنا أفكر بعمل شيء عن والدي الذي أُعدم في العراق في ستينيات القرن الماضي، حتى تحول الموضوع إلى هوس لي. في هذا الاتجاه صورت حوارات مع إخوتي جميعهم، وقابلت أناساً عرفوا والدي. هذا رغم أني لم أعرفه، إذ تم اعتقاله عندما كان عمري عامين فقط. أملك بعض الذكريات المشوشة وربما غير الحقيقية عنه. بيد أنى لم أريد أن أجعل فيلمي هذا تسجيلي، بل أحببت أن يكون سينمائيا صرفاً، وأن يتركز على الصور السينمائية.

أردت للفيلم أن يعبر عن جيلي الذي ترك العراق في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، والذي كان نفيه قاسياً للغاية، إذ وصلنا إلى منفى قاتم كثيراً. لم أكن متهيئاً – وأنا الذي كنت في الثامنة عشر ةمن العمر عندما تركت العراق – للغربة. لم أكن اعرف أُمّي بطريقة جيدة مثلاً، كما لم أحب أهلي على النحو الذي يفعله البالغين. أبناء الجيل الذي خرج في بدايات التسعينيات من القرن الماضي كانوا هاربون من “عراق” مدمر وكانوا سعداء بالبعد عنه. البلد الذي تركه جيلنا كان فيه وهجاً خاصاً، وكان يقترب أن يكون لنا نحن أبنائه. نحن تعرضنا إلى عملية قلع مُدمرة.

من الطبيعي أن العودة إلى أفلام الماضي الشخصية كثيراً لم يكن أمراً هيناً. كيف تنظر إلى هذه التفصيلة بالذات، هل ساعدتك على التصالح مع هذا الماضي، أو أخذ موقف منه؟

بالفعل حدث نوع من التصالح بيني وبين الماضي. حدث هذا في الصالة السينمائية أثناء العرض الأول للفيلم. شعرت أن هذه المرحلة خرجت مني، والتي كان يجب أن تتركني. كنت أشبه الشخصية التي ظهرت في الفيلم والتي كانت تحمل صخرة على ظهرها. كنت أحمل صخرة، وفي النهاية دفنت هذه الصخرة. لذلك يشكل الفيلم نقطة تحول في حياتي، وهو من أكثر الأفلام قرباً لي على الصعيد الذاتي. سألني صحفي بعد عرض الفيلم الأول: هل تعد نفسك مُصوراً فوتوغرافياً أم مخرجاً في هذا الفيلم؟ إجابتي كانت: أن الفيلم يقدمني كإنسان قبل أن أكون مُخرجاً.

هناك جانباً آخر في سيرتك المهنية، هو التصوير الفوتوغرافي، إذ تعد أهم مصور فوتوغرافي صور المنفى العراقي منذ بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي. هل لك أن تصف العلاقة بين عملك في التصوير وانشغالك السينمائي، وهل ساعد الأول الثاني؟

قلت لك سابقاً، الذي لا يجيد تصوير الصور الثابتة سيتعثر وهو يصور الصور المتحركة. الصور المتحركة تتكون من لقطات ساكنة منفردة. التصوير يحتاج إلى تدريب مستمر للوصول إلى وهج العثور على الكادر المتميز والإنارة الملائمة. يجب أن تحدث حالة خاصة في الروح عند التصوير. أعتقد أن الرحم الأساسي لصناعة مدير تصوير سينمائي جيد هو التصوير الفوتوغرافي.

يقوم الفيلم على أحداثاً حقيقية مرّت بالمخرج. حيث يفتح جرح والده الذي لم يندمل، والذي اعتقل في ستينات القرن الماضي لأسباب سياسية وتم إعدامه.

هل توقفت الآن عن التصوير الفوتوغرافي؟

لا لم أتوقف، بالحقيقة أفكر حالياً بالعودة المكثفة للتصوير الفوتوغرافي، والذي قضيت حوالي ثلاثين عاماً فيه. أحياناً أسأل نفسي متى ترى الناس صوري الفوتوغرافية على نحو واسع. كنت بالحقيقة بخيلاً كثيراً بعرض صوري في معارض عامة حتى أنجز هذا المشروع السينمائي.

كيف اخترت الموسيقى للفيلم؟

لم أريد أن أغير موسيقى مقاطع الأفلام القصيرة التي استخدمتها في الفيلم، لأنها كانت جزءاً عضوياً من تلك الأفلام. ساعدني البريطاني توم دونالد في اختيار المقاطع الموسيقى الأخرى في الفيلم، وهو نفسه الذي أشرف على موسيقى فيلمي السابق “الرحيل من بغداد”.

تتكرر مشاهد الطرق المفتوحة، وسكك القطارات الفارغة أو المزدحمة في أفلامك، والشخصيات غير المستقرة، التي ينتظرها دائما رحيل أو سفر.

نحن مسافرون ونبقى دائماً على الطريق بانتظار أن نصل إلى محطتنا القادمة. أعيش في بريطانيا منذ سنوات عديدة لكني أُسأل أحياناً عن أصلي ومن أين أتيت. هذه التيمة تشغلني وظهرت في جميع أفلامي تقريباً. هذا هو عالمي. كنت متحفزاً لتصوير بعض المشاهد التي شاهدتها في الفيلم، وكأني كنت أنتظر ثلاثين عاماً حتى أُحققها.

أهديت الفيلم لأولادك ولمدينة بودابست التي درست فيها، ما قيمة هذه المدينة لك على الصعيد النفسي والمهني؟

نحن خرجنا مهزومين من العراق. واستقبلتنا مدن المنفى بالإمكانيات التي تمنحها. في العراق لم أكن أتجرأ أن أصور في الشارع. كما أن معظم عملي السينمائي كان في بودابست وليس في لندن التي انتقلت إليها لاحقاً، رغم أني عشت في لندن أكثر من بودابست. ترتبط بودابست بأشياء حميمية وخاصة في حياتي، فالحب الأول كان فيها، والقبلة الأولى، والمعرض الفوتوغرافي الأول، وفيها أخرجت أول أفلامي السينمائية القصيرة.

ماذا تحضر الآن على صعيد الإخراج السينمائي؟

اشتغلت على مشروع فيلم “شتاء داوود” لأربعة أعوام. استفدت كثيراً في تلك السنوات على صعيد جمع خبرات في كتابة السيناريو، كما دخلت دورات تدريبية كثيرة. لكن المشروع أخذ الكثير من الوقت الثمين في حياتي، وما زلت أنتظر تنفيذه. في الفترة الأخيرة صرت أفكر بأن أرجع إلى جذوري القديمة والاعتماد على ميزانيات ذاتية بسيطة لعمل أفلامي وكما فعلت حياتي كلها.

في الوقت الحاضر أُحضر لعمل أفلام لا تعتمد على أموال صناديق الدعم بل على العمل التطوعي والجماعي مع الشغوفين بالسينما. أعمل حالياً على مشروع سينمائي يحمل عنوان “رجل الخشب”، والذي أفكر أن أنجزه بلقطة واحدة وبدون توليف.

تعرض أبناء العراق إلى إلى عملية قلع مُدمرة من بلدهم وهذا هو محور تركيز أفلام المخرج دائماً.


إعلان