المخرج العراقي رعد مشتت للوثائقية: لا بد من تحرير السينما العراقية من قيود المؤسسات الرسمية
قيس قاسم

رعد مشتت فنان متعدد المواهب، فهو مخرج سينمائي وتلفزيوني وشاعر، حضر إلى مهرجان قرطاج السينمائي مع وفد عراقي جاء للمشاركة ضمن احتفاء الدورة الـ٢٩ بالسينما العراقية، ومن بين الأفلام المختارة فيلمه الروائي الطويل “صمت الراعي”.
عن تجربته حدثنا رعد مشتت ووصل في خاتمة هذا الحديث إلى هموم السينما العراقية وواقعها اليوم. تركتُ له حرية اختيار نقطة البداية فانطلق من الشعر، وقال “جئت إلى الوسط الثقافي عبر الشعر، وكواحد من جيل السبعينيات الشعر كان التجربة والمخاض الإبداعي الأول”.
ما بين الفنون الجميلة والسينما
ولأنه درس الإنجليزية اهتم بالشعر الإنجليزي بشكل خاص، وعن اهتمامه بالشعر أخبرنا:
غادرت العراق عام 1979 أثناء خدمتي العسكرية، ولهذا فأنا “أفرار” أي هارب من الخدمة من وجهة نظر المؤسسة العسكرية، وبالنسبة لي أنا هارب من فكرة “العسكرة”، وكنتاج للفكرة كان عنوان مجموعتي الشعرية الأولى “الجنود” وهي من إصدار “رابطة الكتاب والصحفيين والفنانيين العراقيين في الخارج”.
علاقتي بالمسرح كانت قوية أولا بسبب متانة صِلاتي بعدد كبير من المشتغلين فيه، وثانيا لأنني من المتأثرين بمقاربة تشيخوف للحياة. لكن حب السينما ظل هو الأقرب إلى نفسي، فحاولت الدخول إلى أكاديمية الفنون الجميلة ودراسة السينما لكنني لم أوفق، لأنها كانت من الكليات “الحساسة” التي خصصها حزب البعث لأعضائه، واشتُرط إعلان ولاء الطالب الدارس فيها للحزب الحاكم. وبعد الحملة الشرسة ضد المعارضين للنظام اضطررت للرحيل إلى الجزائر وأمضيت فيها خمس سنوات، وهاجرت بعد ذلك إلى لندن لأبدأ دراسة السينما وتحقيق حلمي الأول.
درست السينما لمدة أربع سنوات، وأنجزت خلالها عملين باستخدام كاميرا سوبر ١٦ ملم والأجهزة الكلاسيكية. ولأنني كنت طالبا متقدما سعيت لإنجاز أعمال مختلفة أولها كان اسمه “لحظة للحب لحظة للموت: أنكيدو” بطول ١٢ دقيقة، أما الثاني فطوله أربعون دقيقة وحمل عنوان “ترنيمة الجندي” المأخوذة قصته من قصيدة كتبتها عن الجندي العراقي.

وثائقيات تلفزيونية تبعها عودة إلى الوطن
يستعرض رعد مشتت الصعوبات الجدية التي تواجه الطالب الغريب الذي أنهى دراسته لدخول عالم السينما البريطانية، فاتجه للعمل في مؤسسة “إم بي سي” العربية فيقول: في بريطانيا العمل في حقل السينما صعب، عملت في قناة “إم بي سي” كمنتج ثم قمت بعدها بإعداد برامج ثقافية مثل برنامج “قراءات”. لقد كانت محاولة جديدة للذهاب إلى أمهات الكتب العالمية، ورحلتي إلى بيت شكسبير كانت رحلة مشوقة حقا.
توفرت لمشتت فرصة إنجاز وثائقيات لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) ولم يتوان في استثمارها، فقدّم “بعد العاصفة”، وهي محاولة بصرية لقراءة أحوال الجالية العربية في بريطانيا، وعنها يقول “الجالية العربية في بريطانيا ضخمة، فالعراقيون جاؤوا إليها منذ الأربعينيات وبعدهم وصل الفلسطينيون، إضافة إلى الجالية اليمنية التي تُعتبر من أعرق الجاليات الموجودة فيها”. ويضيف “لقد كانت تجربة غنية ومثيرة تُوجت بوثائقيات أنجزتها لصالح القناة 4 حملت عنوان “نحن عرب.. أنت لا!”، وهي بحث في تاريخ الثقافة العربية”.
بعد مغادرته “بي بي سي” راح لمقابلة الشارع العربي عبر أعمال وثائقية تلفزيونية لفضائية أبو ظبي، وكانت بالنسبة إليه تجربة جديدة بعد انقطاع عن العالم العربي طال سنوات، يتذكرها مشتت بحنين واعتزاز ويقول:
بدأت تجربة الوثائقي العربي التلفزيوني مع الصحفي الراحل أحمد مهنا، وأنجزنا معا سلسلة “الساعة الخامسة والعشرون”. بعدها أنجزت وثائقيا عن المخرج المصري يوسف شاهين، قابلته وسجلت تفاصيل حياته اليومية، والمحصلة كانت “بورتريه” مدته ثلاث ساعات. وبعده مباشرة انطلقنا للعمل في مشروع “بين زمنين”، وكان عبارة عن قراءة سينمائية في تاريخ العراق المعاصر، حيث تزامن العمل بها مع اللحظة التي سقط فيها نظام صدام حسين، لهذا بدت وكأنها استكمال لحلقات “بين زمنين”. ذهبنا مباشرة إلى بغداد محملين بأحلام و”يوتوبيات” مستقبلية، اشتغلنا في بغداد بحماس وأكملنا “خمسة وجوه” الوثائقي المستمد عنوانه من رواية “خمس أصوات” للروائي غائب طعمة فرمان، وفي خضم العمل ودون شعور منا قررنا البقاء في العراق وترك العمل في الخارج.

“صمت الراعي”.. عار طفلة وقمع السلطة
ساعد رعد مشتت خلال وجوده في بغداد في تأسيس عدة قنوات تلفزيونية، لكن رغبته في إنجاز عمل سينمائي ظلت كامنة في داخله. وكما يخبرنا فإن فيلم “صمت الراعي” جاء بتأثير خبر صغير نُشر حينها في الصحافة العراقية، يقول:
في يوم من أيام عام 2010 كنت جالساً في مقهى مع الكاتب أحمد السعداوي حيث روى لي خبرا مثيرا قرأه عن طفلة صغيرة خرجت من بيتها واختفت، وظن أهلها بها سوءا فاعتبروها هاربة جلبت لهم العار، لكن الحقيقة التي ظهرت بعد فترة جعلتهم يندمون على استعجالهم، والأكثر مدعاة للألم سكوتهم بعد معرفتهم السبب الحقيقي لفقدانها، والمرتبط بممارسات السلطة القمعية.
يكمل رعد مشتت:
كنت أشتغل وقتها على نص “بين ظلمتين” وهو عبارة عن سيناريو بالإنجليزية يروي تجربة سجن أحد الشخصيات العراقية المرموقة، لكن الخبر وبسبب إقامتي في العراق هزّني ودفعني لكتابة سيناريو الفيلم، وبعد خمسة أشهر كانت قصة “صمت الراعي” جاهزة للتصوير.

سينما عراقية تنشد الاستقلال
على مستوى المساهمات السينمائية يتوقف رعد مشتت عند تجربته الشخصية مع المخرج عدي رشيد في تأسيس “المركز العراقي المستقل للسينما”، ويقول: شكلنا أنا وعدي ثنائيا سينمائيا طموحا، وكان لدى عدي طاقة إيجابية نادرة، فقد قدم مشروعي إلى دائرة السينما والمسرح لتدرجه ضمن مشاريع “بغداد عاصمة الثقافة العربية”، وأنضج معي مشروع “صندوق دعم السينما”. تجربتي في المركز قربتني من السينمائيين الشباب وعرفتني على قدراتهم وأحلامهم في تأسيس سينما عراقية حقيقية بعيدة عن المراكز الرسمية.
التمترس وراء السينما
يعتبر رعد مشتت العمل في حقل الثقافة في العراق وخاصة السينما سلاحاً يحمي المثقف نفسه به من الخطر الكامن في الشارع، وعلى حد تعبيره:
وجود المليشيات في بغداد يهدد حياتك، لهذا نحن نتمترس خلف إبداعنا ومعاركنا مع المؤسسة الرسمية المعنية بالإنتاج السينمائي في ظل غياب قاعدة سينمائية حقيقية، فهو جزء من حماية مشروعنا وحلمنا السينمائي، إضافة إلى أن مطالبتنا بالدعم متأتية من إيماننا بحقنا في جزء من ثروات وطننا، تعززها أيضاً حقيقة أن الظروف التي يعمل بها السينمائيون الشباب صعبة جدا، وفي ظل غياب قطاع خاص وضعف علاقات السينمائي العراقي بالخارج كان لا بد من مطالبة المؤسسات الثقافية الرسمية بحقوقنا.
السينمائيون والدوائر البيروقراطية.. صراع حقيقي
إن الجدل حول موضوع “الدعم” إشكالي، وذلك بسبب ترفع البعض عن العمل مع المؤسسات الرسمية، بينما يرى البعض الآخر فيه مطلبا مشروعا نابعا من طبيعة الدولة الريعية، وفي كل الأحوال جرّنا الموضوع إلى العلاقة بين المثقف والدولة؟
لا يتردد رعد مشتت في تبيان رأيه إزاء ذلك بوضوح فيقول:
للأسف العلاقة سيئة، والمشاريع الجادة لا تجد طريقها للتنفيذ بسبب الفساد السائد، ومع ذلك لا ينبغي الاستسلام، لا بد من العمل من أجل ترسيخ وتقوية العناصر المؤمنة بقوة الفن ودور السينما في المجتمع، فالشباب والمؤسسة على تقاطع كامل ومع ذلك يوجد هنا في قرطاج شباب عراقيون. علينا الاعتراف بأن دوائر الثقافة وموظفيها ما زالوا يعملون بنفس أعراف النظام الشمولي، وأنهم ما زالوا متمسكين بامتيازاتهم وقناعاتهم بأن حضور أي مهرجان حتى ولو كان سينمائيا يجب أن يكون لهم وليس للمخرج صاحب الفيلم.
باختصار ثمة صراع حقيقي اليوم بين السينمائيين وبين الدوائر البيروقراطية، وهذا ما دفعهم إلى إنتاج أفلام قصيرة بميزانيات بسيطة جدا وبجهود شخصية، خذ مثلا فيلم مجد حميد “مصور بغداد”، لقد قام صديقنا الممثل مناضل داود بإنتاجه من جيبه الخاص، فميزانية الفيلم لم تتعد بضع مئات من الدولارات، وهناك آخرون مثله أنتجوا أفلامهم خارج المؤسسة.

التحرر من قيود التمويل
واحد من أهم مشاغل السينمائيين العراقيين اليوم هو كيف يمكن لهم تحرير قيودهم من سلاسل التمويل، وكيف بإمكانهم أيضا تأسيس سينما مستدامة؟ عن هذه الجوانب يقدم رعد مشتت تصورات ورؤية طموحة ويقول:
كما تعلم لا يوجد في صناعة السينما شيء اسمه “التمويل” الصافي، لا يوجد مفهوم اسمه “تمويل”، ثم تعقبه نقطة في نهاية السطر. فالتمويل مرتبط عضويا بالتسويق والترويج للمنتج المدعوم، ومن هنا علينا تأسيس صناعة سينمائية مستدامة تشترط عودة الجمهور إلى الصالات، وبحث الكيفية التي نخلق بها آلية لجلبه إلى قاعة العرض السينمائية، ومثال ذلك فيلمي الروائي “ساطع”، فهو لم يعرض حتى اليوم في الصالات.
إن تحريك السوق السينمائية وتطوير الصناعة السينمائية المستدامة هي سبيلنا في التحرر من الدولة ووزاراتها.