الوثائقية تحاور مخرج الفيلم السوري “مسافرو الحرب” الفائز بأربعة جوائز في قرطاج
حوار: محمد علال

“مسافرو الحرب” للمخرج السوري جود سعيد هو عنوان لواحد من أبرز الأفلام التي صنعت الحدث قبل وبعد عرضه في مهرجان “أيام قرطاج السينمائية”، وصنع أيضا المفاجأة في حفل الختام بإعلان تتويجه بثلاث جوائز يُضاف إليها جائزة النقاد الدولية “فيبرسي”. وهكذا عاد جود سعيد إلى سوريا بأربع جوائز، فهذه هي المرة الأولى التي تصل فيها السينما السورية إلى هذا المستوى بعد الحرب، وتصنع الفارق أيضا في أحد أهم المهرجانات العربية.
جاءت الجوائز لتعلن مصالحة المهرجانات العربية مع السينما السورية، فهذه الأخيرة لا تزال منذ ثماني سنوات متهمة في أعين البعض بأنها سينما “بروباغندا النظام السوري”، وقد جاءت رحلة “مسافرو الحرب” لتقدم فلسفة مختلفة خطفت قلوب “التوانسة”.
جمهور قرطاج ليس جمهورا عاديا، فهو ذواق جدا بشهادة وفاء للمهرجان عمرها 52 سنة، ولا يزال عميد المهرجانات العربية والأفريقية فخورا بطوابير الناس التي تقف لساعات من أجل مشاهدة الأفلام. وحسب الإحصائيات فإن حوالي ربع مليون تذكرة تم بيعها خلال أسبوع عروض أفلام قرطاج التي استمرت من 3 حتى 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2018.
“الجزيرة الوثائقية” التقت المخرج السوري جود سعيد[1] على هامش عرضه العالمي الأول لفيلم “مسافرو الحرب” في قاعة سينما “الكولزيه” في تونس، وأجرت معه هذا الحوار عن راهن السينما السورية، وحكاية “مسافرو الحرب” (إنتاج شركة “الأمير للإنتاج الفني” اللبنانية)، إضافة إلى ظروف التصوير وتفاصيل التهم التي تجعل من هذا المخرج الشاب محاصرا من المهرجانات، ودائما بين القذائف في سبيل تصوير أفلامه الروائية الستة.
- يحيلنا عنوان “مسافرو الحرب” إلى الخراب والدمار والقنابل، لكن الفيلم جاء مختلفا في النهاية، فلماذا هذا الاختيار؟
الفيلم يتحدث عن أثر هذه الحرب على الناس، فنحن نريد أن نقول إنه أصبح لدينا نوع من القدرة على أن نكون متصالحين مع ما عشناه، “التصالح مع الحرب” عبارة قاسية وصعبة وربما مستحيلة، و”الحرب” كلمة معقدة لا تفسير لها في القاموس العادي، كيف نتصالح مع الحرب إذن؟ مع الدماء؟
حاولنا تقديم مفهوم آخر في الفيلم عن الحرب، حيث قررنا أن نحاربها بالسخرية، وكما تقول بعض مشاهد الفيلم بالتبول عليها، فلتذهب الحرب إلى الجحيم، فنحن سوف نعيد بناء أحلامنا في سوريا ولو عن طريق الموت، ومن خلال ذلك نعيد بناء الحياة، حياة جديدة لها طعم مختلف في عالم مختلف، لهذا لم نختر أن ندخل بشكل مباشر في دهاليز الحرب، وقد لاحظتها في هذا الفيلم.
- إبعاد السينما عن مشاهد المعارك قدر الإمكان بعد ثماني سنوات، هل هو قرارك أم قرار السينما السورية بشكل عام، وهل نفتح صفحة أخرى من خلال السينما؟
هو قراري؛ الصراحة بالتحديد لموضوع هذا الفيلم، فمن الممكن أن تجدني في أفلامي القادمة عائدا إلى الحروب والصراع المسلح بمشاهد تشبه المعارك وتحمل القنابل والتفجيرات كديكور أساسي، لكن في فيلم “مسافرو الحرب” أردنا قيادة المشاهد إلى الأسئلة، كيف نعالجها وكيف نتعامل مع الحرب بطريقة مختلفة، كيف نعالج الوضع لنقول فتنتهي هذه الحرب.

- بعد ستة أفلام روائية طويلة، علاقتك بالضوء والنور كبيرة، وتبدو مهتما بهذه التفاصيل إلى درجة أن أفلامك تحمل توقيعا خاصا نكتشفه من خلال الصورة الأولى.
بعد ستة أفلام روائية طويلة أبقى منتميا إلى السينمائيين الذين يرون بأن الصورة وبنيتها هي أحد أهم عناصر وعوامل السرد، لهذا أفكر في هذا الأسلوب لتقديم ما نريد أن نرويه، هناك أساليب مختلفة مثل تقديم الشخصيات والتركيز على وجوهها أو التركيز على علاقتهم بالمكان. لا أحب تصوير الحكاية كحكاية، فأنا أرى بأن الجمهور يستحق أن يستمتع بالبنية البصرية التي تساهم في سرد تفاصيل القصة.
- لا أعتقد أن أحدا من الجمهور لم يفكر في هذا السؤال: كيف يتم التصوير في مناطق الحروب، حيث يكون ديكور الفيلم مباني دمرتها الحرب؟
لا يوجد أقسى من التصوير في أماكن هجرها أهلها، فأنت تشعر في داخلك أثناء تصوير الفيلم بأنك أمام واجب للاعتناء بكل التفاصيل، أن تمر بين الجدران المهدمة دون أن تغتصب وجود سكانها الأصليين، وبين الذكريات والحكايات ويوميات أشخاص لا نعرف عن مصيرهم شيئا، فالأمر مؤلم بلا شك خصوصا ونحن نقف أمام الجدران المهدمة، ونمشي بين أغراض من اضطروا إلى مغارة منازلهم وتوقفت حياتهم بسبب الحرب، يجب أن نمرّ بكل احترام على كل تلك الذكريات.
من الناحية العملية فتصوير فيلم “مسافرو الحرب” مقارنة بأفلامي السابقة كان أمرا أقل صعوبة، وذلك بحكم تحسن الوضع الأمني وقدرتنا اليوم على الحركة في المدن السورية التي عرفت الحرب، اللحظات الصعبة كانت في مدينة حلب، فعندما قمنا بالتصوير هناك كانت الأجواء الأمنية ساخنة جدا، وقضينا أسبوعا من التصوير في ظروف صعبة جدا ومقلقة، ومع ذلك فهذا واجبنا أمام مهنتنا وأمام الأحلام الصغيرة “السينما”، قررنا المخاطرة والتصوير في أماكن حقيقية بين القذائف التي كنا نسمع صوتها، لكن بشكل عام تتحسن الأمور اليوم بشكل كبير جدا، وأصبحت شروط التصوير أسهل في سوريا.

- كم فيلما صورته سوريا خلال الثماني سنوات الأخيرة التي أعقبت اندلاع الحرب؟
يتم تصوير ما بين أربعة وخمسة أفلام سنويا، واليوم في أرشيف السينما السورية حوالي 25 فيلما تم تصوريها خلال الحرب في الثماني سنوات الماضية. كل مخرج له تقنياته، مثلا المخرج عبد اللطيف صور أفلامه في الساحل، وكذلك المخرج باسل الخطيب، بينما صور المخرج محمد عبد العزيز في دمشق، أما أنا فأكثرهم جنونا كنت أحب المغامرة ولا أزال، أريد الذهاب إلى أبعد المناطق الساخنة في الحرب، كنت أذهب إلى حلب والمناطق التي تشكل عناوين الخوف بالنسبة للبعض، التجربة مختلفة ومهمة وتكللت بالنجاح بعزيمة 80 شخصا من فريق التصوير، ولم يتعرض أي واحد منا للأذى، فنحن خضنا التجربة مع بعض وخرجنا.
أود الإشارة إلى أن فريق الفيلم كان يضم كافة الآراء السياسية في سوريا سواء المؤيدة أو المعارضة، وممن يعيشون داخل سوريا ولديهم مواقف واضحة وصريحة. وفي الفيلم ممثلون سوريون لهم مواقفهم السياسية المعارضة والمعروفة.

- جود سعيد من السينمائيين العرب الذين يخطون خطوات جيدة، لكن التصوير في سوريا بدعم من النظام السوري يعرضك للهجوم، وفي عين البعض أنت سياسي ولست فنيا؟
صحيح وأشكرك على السؤال، فعلا أنا متهم، لكن إجابتي واضحة دائما، وهو أن “الفن يجب أن يكنس السياسة”. نحن لنا الحق أن يكون لدينا آراء في كل شيء في الحياة، لكن أنا أقولها علنا: لست من الأشخاص الذين يصنعون دعاية لأي شيء كان حتى ولو كان لون عيوني، فأنا أقول قناعاتي في الحياة من خلال الأفلام، ولا أروج لأي شيء ولن أقوم بذلك، حتى لو اضطررت لحذف اسمي من على جنيريك (تتر) الفيلم.
في الأخير لسنا أنبياء وجميعنا مخطئ، ولا أضع اسمي في المكان الذي لا يشبهني، والأمر يحزنني بلا شك خاصة عدم تقبل الآخر، وفي النهاية نحن لا نحمل السلاح.
وعلى المستوى الشخصي والعائلي أنا الذكر الوحيد في عائلتي، فوالدي توفي، والقانون معروف، فأنا غير مطلوب مني أداء الخدمة الوطنية العسكرية في سوريا، ولم أحمل السلاح في حياتي، وأنا شخص ضد الحرب لأنني أكرهها، أعلم أنها هي الواقع وتحدث، وهي طبيعة بشرية، لكنني كمخرج أقف على مسافة معينة وأعتقد أنه لا يوجد حرب محقة بأي شكل من الأشكال، وفي النهاية ممارسة فعل القتل هو فعل قاس وصعب جدا حتى لو كانت المهمة قتل أبشع المجرمين.

- هل تعرضت للإقصاء بسبب تلك الاتهامات، خصوصا من قبل المهرجانات؟
طبعا وكثيرا جدا عربيا وأوروبيا، لكن ما يعزيني دائما كلمة كان يقولها لي بعض النقاد، بأنه لو كانت الأفلام سيئة لكانوا تركوها تعرض لتقدم صورة سلبية عن السينما السورية، لكن هم يرفضون عرضها أصلا لأسباب غير فنية.
- في هذا الفيلم لمسنا الشاعرية، لماذا أردت أن تلامس مشاعرنا الإنسانية في الحوار والسيناريو الذي كتبته؟
أعتقد أن كلامك صحيح لأن معظم الأفلام العربية اليوم تنحو نحو القسوة، وهناك سينما القسوة، هذا الموضوع الذي حمل الحب والحلم، فقد أصبحنا نفتقد تلك المشاعر في حياتنا اليومية، أصبحنا نفتقد لمشاهد أفلام حالمة نخرج بعد مشاهدتها بقلوب واسعة قادرين على أن نحب، هذا هو المحرك الرئيسي لهذه الشاعرية الموجودة في الفيلم، وأنا من الأشخاص الذين يحبون السينما التي تنساب كالقصيدة في الصورة والحوار.

- بطل الفيلم هو الممثل أيمن زيدان إضافة إلى ممثلين من أجيال مختلفة، هل التعامل معهم كان صعبا؟
أتعامل مع الكل بطريقة أخوية، هناك صداقة تجمعني بالنجم أيمن زيدان وهو شخص كريم جدا تجاه زملائه وتجاه فريق العمل، شخص كما نقول بالسورية “ابن مهنة”، ويترك لأي شريك في العمل مساحته للتعبير”، فالممثل الجيد هو مستمع جيد وذكي يأخذ الملاحظة ويعيد إنتاجها.
العمل مع أيمن زيدان ممتع، فكل ممثل أتعامل معه حسب طبيعته وشخصيته، وأحاول الوصول إلى الحالة التي نريدها، ومن المستحيل أن أعطي ملاحظات على العلن، أذهب إلى الممثل وأتحدث إليه بشكل خاص، لهذا هناك علاقة حميمية بيني وبين الممثلين يمكن أن تلمسها في الشاشة.

- القلوب في سوريا مجروحة، والجدران أيضا، اليوم كيف يمكن إعادة بناء سوريا؟
بالمصالحة والمصارحة، هذا هو الحل الأول لبناء أرضية للانطلاق، يجب علينا أن نصل لنقطة “لا منتصر ولا مهزوم” ولا ينتصر الإخوة على بعضهم. في الفيلم نحاول طرح الأسئلة بطريقة مختلفة لم نسمعها من قبل، نجد الصراعات بين السلطة والإنسان، نضيء على من نحن وكيف نعيش، ولماذا وصلنا إلى هنا وكيف نعيد إنتاج الحياة.
- ركزت على الكوميديا السوداء في الفيلم وسط سينوغرافيا (البيئة المكانية للعرض المسرحي) جميلة جدا، هل تريد أن تجعل المتفرج السوري سعيدا يضحك أم يفرح؟
أكيد، فنحن لسنا شاحني مشاعر، لا نريد تعاطف الناس، فنحن أيضا قادرون على أن نضحك ونحب ونفرح رغم الحرب، ونبني المستقبل من خلال الضحك على ما فعله البعض، لهذا اخترت الكوميديا السوداء.
كنت أفكر في الإنسان فقط، ولم يكن هناك داعٍ لوضع العلم السوري في الفيلم، لا يجب صنع أي شكل من أشكال الدعاية لأي جهة، فحتى العسكريّ (الجندي) في الفيلم هو موجود لأنه موجود على أرض الواقع لا أكثر ولا أقل، والمقاتلون أيضا ضحايا لا نعرفهم، الموتى لا هويات لهم، فالفيلم لا يهتم بالاصطفاف.
بالنسبة للسينوغرافيا هي واحدة من الشخصيات مكانها في الجنريك (تتر الفيلم) مع النجوم، هي شخصية مهمة لها دور أساسي.
[1] جود سعيد، من مواليد 1980، حاصل على شهادة الماجستير في الإخراج السينمائي من جامعة لويس لوميير في ليون بفرنسا. أول أفلامه كان فيلم قصير بعنوان “مونولوج” من إنتاج المؤسسة العامة للسينما وذلك بعام 2007، أنجز بعده مع المؤسسة ذاتها فيلماً روائياً قصيراً بعنوان “وداعاً” وذلك بعام 2008.