الممثلة الجزائرية نادية قاسي للوثائقية: كل أفلامي عُرضت في تونس ولم تُعرض في الجزائر.. لماذا؟

حوار: محمد علال 

نادية قاسي: ربحت في الهجرة راحة في مشواري الفني وحياتي دون أن أتعرض إلى مضايقات أو أحكام مسبقة من طرف أشخاص لا يحبوننا

هادئة في طبعها، هكذا هي الممثلة الجزائرية نادية قاسي (48 سنة)، فهي سيدة جزائرية قادها القدر نحو الهجرة، لكنها تصر على المضي بالحوار إلى برّ “الإجابات الصريحة” وفق فن الاستماع الجيد، حتى ونحن نحاول “الانقضاض” عليها بالأسئلة التي تبدو حادة.

تقرر نادية قاسي التعامل بوضوح مع القضايا المطروحة في العالم العربي وتحديدا الجزائر منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا، سواء فيما يتعلق بأسباب الهجرة أو الهوية والبحث عن فرص العمل، تَفتح جُروح الذاكرة الجزائرية لتسلط الضوء على القضايا الحساسة.

حكاية نادية قاسي هي مجموعة من الأسئلة التي تَعبُر من الضفة الجنوبية إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط حيث تُقيم منذ 24 عاما، فهي مِحور التفاصيل التي تُؤرق أي مُهاجر. حكايتها كما يوحي لقبها، تفاصيل اختيارات “قَاسية” وأسئلة مُحيرة تعترض طريق من يريد تفككَ مفهوم الهُروب من رصيف لم نعد نشعر فوقه بالأمان، إلى رصيف آخر نقف فوقها بصعوبة.

“الجزيرة الوثائقية” التقتها على هامش مشاركتها في عضوية لجنة تحكيم مسابقة مهرجان “أيام قرطاج السينمائية”، وأجرت معها هذا الحوار الذي يُفتش عن ملامح المرأة العربية بعد حوالي ربع قرن من اتخاذ قرار الهجرة بحثا عن الأحلام، حيث تقول نادية قاسي اليوم إنها وجدت ذاتها في فرنسا رغم الصعوبات، لكنها في المقابل تصر على التعبير بكل فخر عن هُويتها الجزائرية.

نادية قاسي تقرر التعامل بوضوح مع القضايا المطروحة في العالم العربي وتحديدا الجزائر منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا

  • غادرتِ الجزائر إلى فرنسا منذ 25 سنة تقريبا، ما الذي كنت تبحثين عنه في الهجرة؟

لم تكن عندي الرغبة في الهجرة بل كانت (الهجرة) متعطشة لكي أكون ممثلة لها. ��لفرصة الكاملة في الحلم؛ هذا الشغف حرك مشاعري وأنا شابة لم أتجاوز الـ25 عاما. كنت أبحث عن ذاتي في الجزائر لكنني لم أجدها للأسف، لقد كان أمرا صعبا جدا أن نمتلك أحلاما في الجزائر، والأصعب عندما يتعلق الحلم بالتمثيل، لم يكن أمامي سوى بعض العروض للمشاركة في أعمال تلفزيونية رمضانية أو مسرحيات غير موزعة بشكل حرفي وسط الفرص القليلة جدا للإنتاج السينمائي نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، هكذا بدأت أشعر برغبة في الهروب فقررت المغادرة في النهاية لأنني امرأة لها حلم.

  • هل يعني أن العشرية السوداء التي مرت بها الجزائر لم تكن سببا أساسيا لاتخاذ قرار الهجرة؟

سأصدمك، نحن لا نحب مشاهدة الحقيقة، الحقيقة هي أنني كامرأة بدأت أكره أنوثتي، وأكره كوني امرأة في مجتمع ذكوري. لم أكن أشعر بالراحة في بلادي وفي عيون الناس وحركاتهم في الشوارع، المرأة مجرمة فقط لأنها ليست رجلا، والمرأة تدفع الثمن غاليا في المجتمعات التي لا تحترم الحرية.

كان هناك اضطهاد ممارس بكل الأشكال في كل مكان، لم أكن وحدي فالآلاف من النساء شعرن بذلك، أمي كذلك كانت تشعر بالخوف والحصار. كنت أفكر في المستقبل، ماذا لو أنجبت أولادا في هذا المجتمع، ما ذنبهم؟ هكذا فكرت في أن أهرب بأحلامي، وأن أنجو بأيامي القادمة إلى برّ الأمان.

نادية قاسي: نحن لا نحب مشاهدة الحقيقة، الحقيقة هي أنني كامرأة بدأت أكره أنوثتي، وأكره كوني امرأة في مجتمع ذكوري

  • ما الذي نحتاجه لاتخاذ قرار الهجرة، وما شكل الحقيبة التي نحزم فيها أحلامنا؟

 هناك عوامل تدفعنا إلى الهجرة، لكن في النهاية لا أحد يرغب في الهجرة، فنحن نُدفع إليها مُرغمين خوفا من المجهول. لقد كنت أمام خيارين أحلامها مُرّ؛ العشرية السوداء البشعة التي مزقت الجزائر وسط نظرة قاصرة تجاه المرأة، والبحث عن أحلامي وبداية حياة جديدة، فالبحث عن العمل في فرنسا لم يكن سهلا.

وجدت صعوبات في الاندماج في بداية الطريق ولم تكن فرنسا جنة، واحتجت إلى طاقة كبيرة، ففي المدرسة الفرنسية كانوا يتعاملون معي على أساس أنني جزائرية، فالتمييز الذي شعرت به دفعني نحو التفكير بالعودة، وحينها بدأت أشعر بالحصار بين الجزائر التي لم تعطني الفرصة لتحقيق الأحلام، وبين فرنسا التي كانت تعزلني، إلا أنني كنت ملزمة بالمقاومة والبقاء في فرنسا وإثبات ذاتي.

  • الصراع الداخلي الذي تتحدثين عنه يشبه حكاية قصة فيلم “السعداء” لصوفيا جاما الذي شاركت في بطولته في شخصية أمل؟

هل تقصد أنني كنت سأواجه مصير”أمل” لو بقيت في الجزائر؟ لا أعلم، ربما. لكن الحكاية هي قصة عدد كبير من الناس في الجزائر حاصرها الخوف من كل جانب، لا يوجد أبشع من إحساس التخوين، لم أكن أنتمي إلى طبقة غنية، وكان من السهل عليها إيجاد الحلول، إيجاد الكنز الذي لم أعثر عليه؛ “الحرية”.

المسألة تتعلق بكوني امرأة في مجتمع لا يرحم، النساء هن المجتمع وهن نصف الشعب وهن الأمهات ومشاريع الأجيال، هن مقاومة كل تلك القيود. كنت أشعر بالخوف على مستقبل عائلتي، ولا أعلم بالضبط مصير باقي النسوة. لم يكن لديهن الخيار، لكن في النهاية لكل واحدٍ ظروف تحدد مصيره، وهو من يرسم طريقا لأحلامه.

حكاية “أمل” في فيلم “السعداء” أنها سيدة قررت البقاء في الجزائر، ولم تكن تملك الرغبة في المغادرة، فهي فضلت أن تكون مع عائلتها وزوجها وذكرياتها في بلادها رغم الآلام، لكن كل تلك الأحزان عوّضتها بمشاعر الأمومة التي منحتها القوة، فكانت تبحث عن الأمان بين أحضان أفراد العائلة، فهي الدفء الوحيد الذي يتوفر لك في النهاية.

 

  • رغم الغياب بقيتِ مُرتبطة بالمخرجين من الأصول العربية مثل نوري بوزيد وعلواش ونذير مقناش، لماذا؟

عملتُ مع عدة مخرجين فرنسيين أيضا منهم برتران تافيرنيه في فيلم “بدأت اليوم” سنة 1999، وصحيح لقد كنتُ قريبة من المخرجين المغاربة، لكن الاختيار لا يرجع فقط لكونهم مغاربة بل كنت أبحث عن المعاني في الأشياء.

التجربة المميزة كانت مع مرزاق علواش في فيلم “باب الواد سيتي” عام 1994، فدور ياسمينة تعكس اختياراتي، لم أكن أفكر في العمل من أجل راتب أو من أجل الظهور فقط، فما يهمني المعنى الذي يقدمه المخرج وكيف يفكر والسيناريو، هكذا أختار أدواري بعناية شديدة ووفق قناعاتي كامرأة.

أنسى أحيانا كيف اقترحوا علي الأدوار ولا أتذكر التفاصيل الأولى، لكنني لا أنسى التجربة مع نوري بوزيد في فيلم “بنت فاميليا” عام 1997، كانت تجربة مميزة لي لأنها عمل يحكي قصة عميقة بملامح إنسانية، فهذا ما أبحث عنه دائما، الأسئلة التي يطرحها الفيلم، فأنا أريد المشاركة في الأفلام الملتزمة والتي لها معنى.

هناك أمور أخرى تحدد اختياراتي، ولأنني أم وعندي عائلة فالأمر مختلف، لا أستطيع مغادرة عائلتي بشكل دائم، فأنا أحب ذلك الإحساس الأسري والعائلي، نقوم بالاختيارات في السينما أحيانا من خلال العلاقات التي تجمعنا بالمخرجين الذين نعرف فلسفتهم في السينما، لهذا اخترت المشاركة في أدوار فاطمة في فيلم “بنت فاميليا” وياسمينة في فيلم “باب الواد سيتي” وأمل في فيلم “السعداء”.

الممثلة الجزائرية نادية قاسي (48 سنة)، هي سيدة جزائرية قادها القدر نحو الهجرة

  • عندما نختار الهجرة نربح أشياء ونخسر أشياء، هل هذا صحيح؟

ربحت في الهجرة راحة في مشواري الفني وحياتي دون أن أتعرض إلى مضايقات أو أحكام مسبقة من طرف أشخاص لا يحبوننا، مثلا أن أستطيع تناول الطعام في المطاعم بحرية وأن أسير في الشارع دون مضايقات. من المحزن قول هذا لكنها الحقيقة، وعندما فكرت في الهجرة لم أبحث عن المال، بحثت عن الاحترام والحرية، وأنا ألاحظ كيف تسير الأمور بشكل سيء جدا في بلادي.

ما خسرته في الهجرة هو ملامسة تلك الأمور الشعبية كروح الناس العادية الذين لا نجدهم في المدن العالمية، هناك تواصل فريد من نوعه بين الناس في المدن البسيطة، هذا التواصل كنز يُشعرنا بالسعادة أحيانًا، للأسف لقد غادرنا مُرغمين وأنا بخير في فرنسا، وكنتُ أتمنى أن أكون بخير في الجزائر.

  • ولدتِ في الجزائر ودرستِ في الجزائر، لكن الوصف اليوم هو الممثلة “الفرانكوجزائرية”، كيف تشعرين أمام هذا الوصف؟

العالم واسع، ولديّ هوية لا أحد يستطيع أن ينزعها مني، فأنا نادية الجزائرية كبرت في شوارع الجزائر، أسافر مع هذه الهوية وأحاورها كل يوم، أحزنُ معها وأفرح معها، ولا أحد يستطيع تغيير جلده مهما هاجر ومهما سافر وارتحل، نعيش بالذكريات.

لدي جواز سفر فرنسي أيضا، فقد قضيت نصف حياتي في فرنسا ومن الطبيعي أن أحمل جواز سفرها، أتحاور بين ثقافتين، لست أنا أول من فتح نافذة هذا الحوار، تاريخنا مشترك كما يقول الروائي الجزائري الراحل كاتب ياسين “لدينا غنائم من الحرب، فاللغة الفرنسية غنيمة بالنسبة للشعب الجزائري”، هذا أمر مهم وهناك أمور أخرى مشتركة البعض يرفضها، لكنني أعتقدُ بأننا نستطيع العيش بين الثقافتين الفرنسية والجزائرية بطريقة هادئة، هذا الإحساس يُشعرني براحة شديدة رغم بعض المتاعب. فعندما أصل إلى فرنسا البعض يقول إنني لست فرنسية، وعندما أصل إلى الجزائر البعض يقول إنني لست جزائرية، لكن أنا هكذا بين الاثنين ولا يزعجني ذلك، نظرة الناس تخصهم ولا تهمني، فأنا متصالحة وسعيدة في هذا الوضع وفي حياتي.

نادية قاسي: السينما في الجزائر تعاني وتصارع البقاء، والفكرة في السياسة الثقافية، فهناك ضبابية كبيرة

  • أثناء صعودك لمنصة افتتاح “أيام قرطاج السينمائية” قلت “للأسف لا تتوفر الفرصة للمرور إلى الجزائر”، ماذا تقصدين بالضبط، هل السبب هو عدم حصول فيلمك “في الوقت أختبئ لأدخن” على تأشيرة العرض في الجزائر؟

المشكلة ليست هنا فقط، ليست أفلام نادية قاسي وحدها التي تتعرض للحصار، المشكلة في عدم وجود قاعات للسينما، إضافة إلى غياب الإدارة السياسية لإحياء السينما في الجزائر، والقاعات أصبحت خرابا، هل شاهدنا مهرجانا سينمائيا في الجزائر يشبه مهرجان قرطاج؟

السينما في الجزائر تعاني وتصارع البقاء، والفكرة في السياسة الثقافية، فهناك ضبابية كبيرة، لقد تم تكريس عقلية الاحتفالات فقط، الأفلام تعرض مرة واحدة فقط، تصفيق وباقة ورود ثم يتم وضع الفيلم في الأدراج، هذا ما أتحدث عنه وهذا ما يجب أن نناقشه، الأمر مرتبط أساسا بالحوار ومراجعة عدة ملفات، الفن السابع في الجزائر يختنق ولم يعد قادرا على التنفس، يجب أن يشاهد الجمهور الجزائري الأفلام الجزائرية، لا أفهم هذه القطيعة فالأمر مقلق ومخيف.

السينما هي مرآة كل شعب، ونحن في حاجة لكي يرى المواطن نفسه عبر مرآة السينما من أجل الوصول إلى مصالحةٍ مع الذات والتاريخ، لكن السؤال هو إذا لم يشاهد الناس الأفلام لماذا نُنتج أفلاما إذن، هل لتبديد الأموال؟ الأمر نفسه يتعلق بالمسرح، فالشعوب المتحضرة هي التي تمتلك الفرصة لمشاهدة المسرح والسينما والموسيقى، يجب أن يكون هناك نافذة بين المواطن والثقافة لطرح الأسئلة عبر السينما بصوتٍ عال. كل أفلامي التي صورتها عُرضت في تونس، لكن لماذا لم تعرض في الجزائر؟ أنا أطرح السؤال فقط.

نادية قاسي: أحب المسرح، فقد كبرت عليه وشاركت في أعمال مسرحية لكتّاب جزائريين من بينها "الفناء في البلاد اليائسة" للكاتب زيني شريف عياد عام 1992

  • مسارك ثري بين المسرح والسينما وحتى التدريس، فأيهم أقرب إليك؟

أحب المسرح، فقد كبرت عليه وشاركت في أعمال مسرحية لكتّاب جزائريين من بينها “الفناء في البلاد اليائسة” للكاتب زيني شريف عياد عام 1992، كما كتبت مسرحيات مثل “نساء يبحثن عن الأرض”، بالنسبة لي الأمر المهم هو سير الممثل بين المسرح والسينما، لأنه بذلك يحمل إلى شخصيته القدرة على تجسيد أدوار مركبة ويستطيع محاورة الخيال. المسرح له سحر فوق الخشبة بشكل يُغذّي ذاكرة وموهبة الممثل، فأحيانا أقوم بتقديم دروس في التمثيل للشباب، وهذا الشعور بالعطاء أمر مهم، فأنا أتعلم معهم أثناء الدروس ومن خلال الأسئلة التي يطرحونها.

  • يصف البعض نجاح الروائي الجزائري كمال داود في فرنسابأنه نجاح مزيف، وذلك نتيجة كتاباته ضد العرب، حيث يُقال إن مواقفه تخدم الأجندة الفرنسية،بينما يصفكم البعض بـ”أولاد فرنسا”[1]؟

 هذه وجهة نظرهم، وقد تلقيت تهما من هذا النوع عام 2000 عندما قمت بأداء دور جولي في فيلم “ناشيونال 7” مع المخرج جان بيار سينابي، إن أداء أدوار من هذا النوع لا يعني أننا نقدم أجندة سياسية أو بروباغندا. صحيح عندك أدوار للعرب كُتبت للمثلين العرب لكن أنا سيدة قراراتي، وقد رفضت عدة أدوار لا تخدم أفكاري، لكن لا يعني ذلك أنني أقدم أدوارا لكي يرضى عني الجميع في الجزائر، لا أحد يستطيع أن يخنقني، إن لم تتركوني أتكلم في الجزائر فإنني سأتكلم في الخارج، ففي الهجرة نحن ملزمون بالحديث بصوت عال، فالغرب لا يحب التركيز على المواضيع المحلية، وإنما كبشر وأشخاص نتشارك المآسي والأفراح حيث الحديث عن الإنسانية أهم شيء، من ناحية السن فأنا بالغة وواعية جدا بالمستوى السياسي، والمال ليس محركي نحو السينما فأنا أريد العيش بكرامة وبطريقة صحيحة.

[1]  عبارة “أولاد فرنسا”،هو وصف يطلقه بعض الجزائريين على أبناء الجزائر الذين يحققون نجاحات في فرنسا ويحملون جواز سفر فرنسي،حيث يتم التشكيك في هويتهم الجزائرية خصوصا لأنهم يفضلون الحديث بالفرنسية، ويعتبرون “العربية” لغة من الدرجة الثانية

 


إعلان