الوثائقية تحاور المخرج الجزائري حميد بن عمرة عن هواجس المخرج المنفرد بنفسه

حوار: عبد الكريم قادري

عشقُ حميد بن عمرة للسينما يمكن كشفة بسهولة بمجرد مشاهدة أحد أفلامه، إذ ستعرف بأن هذا المخرج يستغل كل لحظة مهمة في حياته كي يسجلها بالكاميرا التي لا تفارقه،

عشقُ حميد بن عمرة للسينما يمكن كشفة بسهولة بمجرد مشاهدة أحد أفلامه، إذ ستعرف بأن هذا المخرج يستغل كل لحظة مهمة في حياته كي يسجلها بالكاميرا التي لا تفارقه، وذلك لوضعها في سياقها السينمائي بعد سنة أو 10 سنوات أو حتى بعد ثلاثين سنة كما فعل في العديد من أفلامه. المهم وسط كل هذا فهو قنّاص سينمائي يعرف متى وأين يقبض على مَشاهده كي يوظفها في أفلامه المختلفة عن السائدة، والتي تحمل هويتها الخاصة، وأصبحت أيضا لا تحتاج إلى أن يُدون عليها اسم صاحبها حتى تعرف مخرجها، بل البصمة تحققت وأصبحت تكشف عن مخرجها دون الحاجة لكتابة اسمه.

ولا ينتهي الأمر مع الحرف الضوئي لهذا المخرج بل يتعداه إلى الحرف الأبجدي الذي تم اكتشافه من خلال هذا الحوار الذي تحدث فيه عن علاقته مع كل فيلم أخرجه، وطريقته في العمل ونظرته إلى السينما وعلاقته بالمواضيع التي يتناولها في سينماه، إضافة إلى العديد من المواضيع الأخرى التي تطرق لها في هذا الحوار الذي يُعد بمثابة فيوضات حياتية وسينمائية كشفها المخرج، حتى إن هناك جوانب تطرق لها لأول مرة في حياته.

 

  • من يُشاهد أفلامك يخرج بفكرة مختلفة عما يراه عادة، كيف تخلق هذا الاختلاف وتخرجُ من السائد؟

من يخرج من فيلمي بدمعة أو ابتسامة أو تساؤل فهذا يعني أن السينما أدت دورها في التعامل مع ذهنية الجمهور. أعتبر دوما المتفرج ذكيا وأرفض تسذيج الخطاب خوفا من عدم فهمه، وذلك لأن الإحساس أولى من الفهم ولأنني أؤمن بالذكاء المختلف حسب كل متفرج، إن اجتماع كل هذه الحساسيات في قاعة واحدة يعطي ذكاء حادا لا يمكن أن تتجاهله قبل أن تكتب أي حرف من حوار أو مشهد.

فيلم “هواجس..” خرج الناس منه بفيض من السعادة والحزن في بلدان مختلفة دينيا وسياسيا واجتماعيا، فكيف يمكن للمادة الفيلمية أن تصل إلى مجموعة من الناس يختلفون جوهريا في كل شيء؟ لأن الكتابة السينمائية التي أمارسها لا تقصد نوعا معينا من الجمهور، ولأنني لا أفكر أبدا في استقطاب المشاهد الغربي أكثر من الأفريقي أو الأسيوي أقل من الأوروبي.

ولأن السينما التي أمارسها هي في جدليتها تركز على السرد المباشر الذي لا يخشى الإخفاق أو التعثر، ولأنني تعلمت الخطى الثابتة من الكاراتيه ولأنني أعرف أن قرار إشهار “الكاتانا” يعني أنك حسمت الأمر لصالحك؛ أي أنك لا تُظهر عملا حتى تتأكد بأن كل لقطة في جوار اللقطة التي تناسبها، أي لا تدخل حروبا تعرف أنك خاسر فيها. إنه باليه من اللقطات يتم ترتيبه بمنظار النملة وعين القمر الاصطناعي، لأن التجريد في تعاملي مع المشاهد يسمح بتمديد أو تقليص الديمومة بشكل مجهري.

ولأن البصمة الشخصية لا يمكن أن تتجلى إلا عندما تتمكن من حرفتك، فأنت تعرف تلقائيا من نوع الرغيف قيمة الخباز، وتعرف الكاتب من حروفه الأولى، وتعرف مهارة لاعب كرة القدم من لمسته الأولى، فمن يدخل إلى القاعة بعين شغوف لا يمكن أن يغيب عن نور الشاشة، فالسينما تحب الفضول.  

  • هل هامش الإبداع والتجديد في الفيلم الروائي أقوى وأوسع منه في الفيلم الوثائقي؟ 

التجديد يبدأ في الذهنية قبل أن يكون محور عمل، لكنه ليس حتميا لأن الالتزام بالأسلوب يحافظ على البصمة. والتعامل مع موضوع جديد لا يعني تغييرا في الأسلوب، فالمنظور الذي تقترب به إلى المشاهد لا يختلف عن طريقتك في الرد على رسالة أو مصافحتك لصديق أو سياقتك بالليل أو تحضيرك لقهوة الصباح. عادة ما أشبّه أفلامي في عنكبوتية نسيجها وفي حدة انفعالاتها وفي سلاسة خطابها وفي صراحة مواقفها. السينما لا تحب الجبن، لذا لا أخشى القوائم السوداء التي أترأس بعضا منها، ولا أخاف من أن يصيبني قلم ناقد إنشاء لست من عشيرته.

الفيلم ليس سلعة تُباع في نوادي النقاد تزركش حسب مناخيرهم، فالتجديد مرتبط بتسلسل الأفكار والقدرة على توليد ما بطن منها، إنها الجدية التي لا تفارقني في أي إنجاز سينمائي أو مرافق له، فالجد احترام للذات وللجمهور.

إن عدم الخوف من فقدان الامتيازات يحرر ذهنيتك، فالسينمائي باحث مستمر يفقه في الكرة والطبخ والخياطة والزندقة والدين والسياسة والشعر، ومتعطش بعين الطفل إلى ما يجري حوله ومن خلاله. كما أن التجديد استبطان مستمر لانعكاس العالم في مخيلتك، فالسينما لا تحب النوم، والإبداع طعم عتيق تضيفه إلى نكهة لقطاتك أو لون زعفراني تُجمّل به شعر بطلتك. إنها الروح التي يرقص بها قلبك والتي تنفخ في إطار صورتك ملامح كيانك ووزن ماضيك وصدى حبك. السينما عندي لا تعترف بالحدود بين الروائي والتسجيلي، لأنه وقبل كل شيء هناك من يروي ويسجل بصدق وكرم، فالسينما لا تحب البخل. 

حميد بن عمرة: من يخرج من فيلمي بدمعة أو ابتسامة أو تساؤل فهذا يعني أن السينما أدت دورها في التعامل مع ذهنية الجمهور

  • عندما تكسر القواعد السينمائية المعروفة في أفلامك ستجد من يجد صعوبة في تصنيفها لكونها ليست روائية ولا وثائقية بالمفهوم الكلاسيكي، ما هي نظرتك الشخصية للنوع السينمائي الذي تقدمه؟ 

من يُصنف يريد أن يعزل لأنه بحاجة إلى وضع حدود تسمح له بالتحكم في العمل، ففي السينما يُستحسن أن تُعرض دون رايات البلدان، وذلك حتى تكون مستقلة فعلا من ثقل كل علم، فلا يهمني أن أعرف لون علم كوستوريتسا إن كان يوغسلافيا أو صربيا، كما لا يهمني إن كان شابلن أمريكيا أو إنجليزيا.

القواعد ضرورية في كل مهنة فنية أو علمية، فأنت لا تخرج أبدا عن القواعد بل تجعلها غير ظاهرة، شِعر درويش كله -وباعتراف منه- موزون رغم كل الحريات التي تلاعب بها، يقول هتشكوك “صوّر كما بدا لك، أعطني فقط أبجدية حروفك حتى أتمكن من القراءة”.

التصنيف لم يأت من النقاد وإنما من الموزعين أي التجار، وذلك لأنهم بحاجة لحقن لون معين للفيلم كي يستقطب شريحة معينة يعرف التاجر أذواقها بالتدقيق. الفيلم البوليسي داكن المضمون يناسب فئة معينة أكثر من الفيلم الوسترني الذي له جمهور ثقافته تختلف عن جمهور الكوميديا الهزلية، لذا صار كتّاب السيناريو يلتزمون بوصفة لها خصائصها ونسبتها من المشاهد العنيفة أو الراقصة. هل “رجل الكاميرا” لفرتوف فيلم تسجيلي أم روائي؟ وإلى حد الآن يدخل في الخانتين لأنه صوّر الواقع من جهة كما هو دون تدخل في محتواه، غير أنه ركّب الفيلم ورتب المواد المصورة بشكل روائي يوهمك بأنه كتب السيناريو مسبقا.

دخل ” هواجس..” عدة مهرجانات بصفة الفيلم الروائي، كما دخل البعض الآخر كفيلم تسجيلي. إن الرؤيا التي أصوّر بها هي روائية بحتة منذ الفيلم الأول “من أجل حياة أفضل” عام 1981، غير أنني منذ ذاك الوقت لا أتعامل إلا جزئيا مع الممثلين الذين أضعهم في أطر فنية يمثلون فيها بعالم محاط كله بواقعية. إنها فكرة الرجل الذي يمشي على الحبل ولا يسقط لأنه تمرن لسنوات، لكنه يوهمك بالسقوط كي ترتبك مكانه، ومن هنا يبدأ فن التشويق.

ليس هناك سيناريو مسبق في عملي، بل عنوان وبنود لأهم الطرق التي يمكن نهجها. السيناريو المفصل يُكتب بمجهرية التركيب، فأنا سينمائي بنّاء أعرف كيف يقف الجدار مهما كانت مكوناته الأساسية، وذلك لأنني أعرف ترتيب الحجارة مهما كان شكلها ووزنها وحجمها، ولأن الهندسة التي أبني بها أفلامي هي فضائية متحركة تتغير حسب ما يبقى بين يدي من الأسمنت والرمل والماء، أبني بما عندي وأتأقلم مع ما سيحدث، هذه فلسفتي البسيطة في السرد.

الانطلاق من وجه وربطه بشارع ثم بباب قد يدخل إليه أو يلتقي في فتحته بوجه آخر، هذا ما يجعل السينما ترتجل في دقة كتابتها. الارتجال لا يعني الانطلاق من لا شيء، أو الغوص عشوائيا في مصبّ ما، وإنما القدرة المتأهبة لالتماس التزامن مع أي نوتة عابرة قد تجد نغمتها بين نوتاتك المبعثرة، فالسينما تحب الحرية.

حميد بن عمرة: التمكن من التصوير والتركيب يعني فقط أنك تحترم مهنتك وتعرفها جيدا

  • يصعب تعريف السينما المستقلة، هل استقلالية المخرج ممكنة دون شراكة طرف في الإنتاج؟ أو أن مفهوم الاستقلالية أوسع من ذلك بكثير؟  وإذا سمحت لي سأقول السؤال بصيغة أخرى: ما معنى أن يكون المخرج مستقلا على ضوء تجربتك التي أنت جزء من إنتاجها وحتى تنفيذها كمصور ومركب؟ 

كوبريك كان حُرّا فعلا لكن بميزانيات ضخمة، وأنا حُرّ مثله بميزانية الرغيف اليومي وديون طائلة. الحرية التامة لا وجود لها إلا إذا أنتجت أنت شخصيا أفلامك. في أمريكا يعمل المخرج كموظف ولا يتحكم في التركيب النهائي للفيلم، فهل النجاح مرتبط بالحرية أم بالميزانية المقيدة؟ هناك أفلام بالجزائر أُنتجت بميزانيات ضخمة وما زالت تحت الرقابة إما لجدل حول مضامينها أو لرداءتها، لكن عددا كبيرا من نجوم أمريكا هم من ينتجون أفلامهم ويختارون مخرجهم عوض العكس.

التمكن من التصوير والتركيب يعني فقط أنك تحترم مهنتك وتعرفها جيدا، لأن في هاتين الوظيفتين قلب السينما. لأنني لا أظن أن موزارت كتب كل روائعه دون أن يعزف نوتة واحدة على البيانو، كما أنني لا أعتقد أن بيكاسو ترك لنا من جماليات الفن التشكيلي تحفا دون التمكن من رسم تفاحة. إنك تقتصد وقتا ثمينا في التنفيذ وراتبا لا تصرفه لأنك تصور بقلبك لا بعينك، والمسافة بينهما كلمات شاقة قد لا تجد طريقا لمدير التصوير الذي يرى بقلب وعين يختلف لونهما عن حساسيتك.

في السينما العفوية المعتمدة على الآنية ليس لديك جزء من الزمن لتفسير ما يجب قنصه. لأن “الآن” يداهمك ولن تستحضره أبدا إن خلف عقارب الساعة. السينما المستقلة هي قبل كل شيء سينما الزمن الآني المعلق على أفق تنحل خطوط عرضه كل لحظة، فأنت لا تصور الحياة بل تعيش التصوير.

السينما المستقلة تُكبّر الممثل وتجعل منه أيقونة العدسة، لأنه يمثل ويعيش تمثيله في آن واحد، إنها السينما التي تصور واقع الممثل في حقيقته المصطنعة، إنها الواقع والوقائع بتوقيع شخصي. هذا التفاعل لا يمكن تثمينه مصرفيا، كما لا يمكن لأي منتج أن يُمضي على عقد لا يعرف متى تنتهي بنوده. الفيلم الأول دام سنة كاملة والأخير تسع سنوات وبينهما “هواجس الممثل المنفرد بنفسه” والذي تطّلب سبع سنوات، و”حزام” 16 سنة وقبلهما “شيء من الحياة.. شيء من الحلم” أربع سنوات لكن بمادة أرشيفية شخصية جُمعت في ظرف ثلاثين سنة. السؤال المحير هو كم عمري الآن؟

أتمنى أن أعيش مثل “دي أوليفيرا” البرتغالي أكثر من 100 عام. إن هذا التمديد في التصوير ممكن لأنني أصور ثلاثة أفلام أو أربعة في آن واحد، وكل فيلم يغذي الآخر، وحين يتوقف العمل على موضوع فإنني أنتقل إلى الآخر فورا حتى لا أتوقف عن التقدم، وذلك لأن السينما هي أفقي الوحيد، فالسينما حلم وحياة، وفي فيلم “هواجس..” تقول هناء “السينما.. حياة في إطار والإطار محيط الحياة”، والسينما تحب الحياة.

 

  • توظف في أفلامك الكثير من الصور الغنية بالمعاني والتفسيرات السيميولوجية مثل القطار والبحر وأطراف الأقدام والبورتريهات، ناهيك عن بعض الصور التي تم تكريسها بشكل كبير مثل المرأة الحامل في فيلم “حزام”، حتى إنك جعلت من فكرة الحمل موضوعا أساسيا في فيلمك الأخير الذي أنت بصدد الانتهاء منه “زمان الحياة”، ما أبعاد هذه الصور؟

تداعي اللقطات في تصادمها وتوائمها صور ذهنية غير مصورة، فهذا أساس التجربة الكولوشوفية، وهذا ما يعطي اللحن للسمفونية البصرية التي أكرس حياتي لها، فعند بيكاسو التخلص من التشكيل الواقعي قرّبه إلى الفنون الأفريقية والأغريقية، وعندما بدأ في التعامل مع الوجه كقناع رسمه بهندسة تفرقعت فيها الملامح إلى أضلاع مما سمح بالتمعن في البورتريه من زوايا مختلفة، وعندما وضع الألوان جانبا باستعمال تقنية اللون الواحد تمكن من خلق البعد الثالث ومنه الفن التكعيبي.

قد يبدو هذا طلاقا للقواعد غير أنه خلق لقواعد جديدة، فالقطار هذا الثعبان الحديدي موجود في كل أفلامي تقريبا، وذلك لأنني أحب “تكتكة” محركه العملاق الذي أربطه بعقارب الساعة القديمة التي كنت أنام على إيقاعها، والتي لا تختلف عن بندول الإيقاع بالموسيقى. القطار قد يرمز إلى المجتمع بطبقاته المتفاوتة اجتماعيا واقتصاديا، أما البحر فما يهمني فيه هو حركة الموج وتدفق بعضها على بعض، ففي صوته مزاج الفصول وأنين القمر بمده و جزره.

ارتباطي بخط الأفق يجعلني دوما أبتكر الحجج للتصوير بقربه، أحب الفضاء الذي لا بناية ولا رافعة ولا جسر فيه يمنع عينيك من الامتداد، ليس من الضروري حشر الممثل في ديكورات سريالية أو مكتظة حتى تزدوج الخلفية بتعابير الوجه. أما البطن الحامل فهو مخيلتي التي حملت منذ الخامسة عندما شاهدت أول مرة فيلما صامتا بالمدرسة الابتدائية، في البطن القوة والخوف والحب والحياة، نعرف الآن بأنه يحمل عددا هائلا من النورونات ولا يقتصر هذا على الدماغ فقط. البطن حصن الجنين وحصن الشعر الذي أحمله. وفي محيطه السرة، تلك النقطة التي من زاوية معينة تجعل البطن يشبه الحرف “ن”، هذا الحرف الذي لقبتُ به ابنتي وشركة إنتاجي “ن فيلم”. فكلنا حامل في قصيدة أو برنامج سياسي أو باختراع علمي أو بحب سري، لكن هناك أهم من الحمل ذاته وهو متى تلد ومع من؟

الأفلام مثل الأبناء قد لا تريدهم لكنهم يفرضون ذاتهم عليك، أحب قوة الصورة التي تعلق بذهنيتي حتى أقطف من لونها شكلا وأوظفه في سرد صحيح. “زمان الحياة” هو تكملة لفيلم “هواجس..” وفيلم “حزام”، ليجعل منهما ثلاثية حول الممثل وعلاقته بالمرأة والعدسة.

محمد أدار يقول عندما أصوره وأنا بنفس الإطار معه “ليست السينما هي التي لا تحبني وإنما هناك لوبيات تمنعني من الظهور”، وفي فيلم “حزام” تقول آسيا قمرة “إننا نمثل كل يوم في حياتنا دور الأم والأب والعشيقة والراقصة..”.

وفي فيلم “زمان الحياة” يقول محمد ملص أمام المرأة “الصورة لم تكن قادرة أن تلقح نفسها”. نحن أمام ثلاثة مواضيع لها علاقة بالحمل وبالممثل والمرأة، لأنه في فيلم “هواجس” ستيفاني بن عمرة ترقص مع محمد أدار وهي حامل. نفس البطن موجود في الثلاثة أفلام لكن ليس بالجنين نفسه كل مرة. طبعا لم نقرر الإنجاب لتقمص شخصية الحامل حتى يتم التصوير، لكن السينما عاشت الحمل وحملت الممثلة في بطن عدستها، كما نجد محمد ملص في فيلم “هواجس” لكن حضوره -وليس دوره- كان مستخلصا من مادة أرشيفية تعود إلى 1992.

حميد بن عمرة: الأفلام مثل الأبناء قد لا تريدهم لكنهم يفرضون ذاتهم عليك

  • المواضيع التي تتطرق لها غير متداولة خاصة بالسينما العربية، هل تريد من خلال هذا التميز الابتعاد عن شُبهة المواضيع التلفزيونية المكررة؟

عندما تتيقن من الأشياء التي لا تحتاج التعبير عنها يظهر لك ما بقي أن تقوله وكيف تصوغه كي لا يتحول حملك إلى إجهاض، بل تجعل مما يعج بجوفك بذرة يينع منها فردوس من اللقطات يتفسح فيها المشاهد بحرية. التميز غير مقصود لأنني من أول لقطة على نفس السكة الحديدية ولا أنتقل من لون إلى آخر في عشوائية الفراشة بحثا عن رحيق أينما كان.

الموضوع الأول والأخير هو الحب؛ الحب الذي يجمعنا بشتى أشكاله الاجتماعية والنفسية والفلسفية، إنها “سينما الحب” وليست سينما الكباش والختان والطقوس العشائرية. ولا أريد أن تتحول السينما إلى واجهة تلفزيونية تجتر روبورتاجات نشرات الأخبار وتحاول تعليبها في زيّ سينمائي بشع. إن تراكم الرداءة في الأفلام الحديثة منذ عشر سنوات غيّر تعامل المهرجانات مع المادة الفيلمية وتحول كل حامل جوال إلى فلاهرتي جديد يتوج في كل محفل. سينما الكسكسي تجمع في ولائمها ثعالب الليل الذين يحتجزون آخر الشاشات.

الفيلم المستقل الجيد محاصر ولا مفر له من أنياب المرتزقة الجدد. فهل يستحسن الانتماء إلى القطيع كي تضمن توزيع أفلامك، أم أن حرية التعبير سراب وخدعة ثورية لا تتعدى لافتات المتظاهرين المدفوع بهم ولهم؟ وهل للفيلم المشبع بالحب مكان خارج الأشرطة البهلوانية؟ إننا في زمن المتخرج من النجارة يتحول إلى منتج، وطبيب الأسنان إلى ممثل، والمربية بالروضة نجمة فيلم، وبائع القماش إلى مصمم أزياء، واللاجئ السياسي إلى مخرج، فالذي درس سنوات المسرح والسينما والتمثيل يبدو بعدها مختلا عقليا.

هناك موضوع واحد وفريد يفرض أبعاده على عدستي، موضوع أقاوم به طوفان “سينما التهافت”، إنه سيناريو علاقة الناس ببعضهم وتعدد الحدود التي تقربهم أو تبعدهم عن بعضهم. سيناريو مستمر لا تنتهي مشاهده، فما هي المسافة بين الأنا والآخر في لقطات المخرج داخل المرأة مع الراقصات؟ ما هي الحدود التي تفصل محمد أدار بين حبه للسينما والقيود التي تربطه بالمسرح؟ يمكنك بناء فيلم كوميدي أو تاريخي انطلاقا من هذا المبدأ، أو كيف نفصل بين الواقع البحت والخيال السريالي في “زمن الحياة” عندما يتوجه محمد ملص إلى ستيفاني بن عمرة قائلا “محاولة للعيش في لقطة قريبة”، هل يخاطبها شخصيا أم الممثلة أم يقرأ فقرة من يومياته الشخصية من كتابه “مذاق البلح”؟، فالسينما تحب الغموض الواضح.

حميد بن عمرة: علاقتي بالعدسة خالية من الهوس، وفي شفافيتها ينحلّ الأنا ويتبخر ليستقبل الوجوه التي أحب

  • ظهورك بشكل أو بآخر في معظم أفلامك -إن لم أقل كل أفلامك- ما دلالته وتفسيره دراميا أو سينمائيا؟

علاقتي بالعدسة خالية من الهوس، وفي شفافيتها ينحلّ الأنا ويتبخر ليستقبل الوجوه التي أحب. تواجدي ضمن اللقطة أو خلفها يعني أن الفضاء السينمائي الذي أطرحه وأتعامل معه لا يتوقف عند الزاوية 180 درجة.

في فيلم “حزام” كمخرج ومصور أمسك بكاميراتي وأطير بالمرأة الراقصة التي أنا بصدد تصويرها، يراد بهذا لقاء عدستي التي أعتبرها “مرآة ذات ذاكرة” بامرأة تعكس أنوثة تبحث عن ذاتها لتنفخ في رجولتي أشياء منها، لكن تطابق الأنوثة بالرجولة هو الفكرة الظاهرة، أما الباطنة فهي جدلية الزمن الذي أُصور فيه اللقطة التي ترى نفسها أثناء التصوير.

نحن أمام زمن الرقص والسينما معا، الحركة والكاميرا، لغتان مصدرهما واحد هو حب الحياة، لأنني أحب توازي القصص وتراكم بعضها على بعض، فعندما تسرد رواية الراقصة حتى وإن كانت العين والقلب تتعاملان بموضوعية خالية من الرغبة والإثارة، إلا أن الجسد يسجل هذا الكم من الطاقة الأنثوية ويخزنه لأيام التركيب كي يملي عليك تقطيعا تتحكم فيه العفوية أكثر من العقل.

استحضار طاقة الماضي في تركيب لقطات حاضرة يجعل من الصيرورة كماً متعدد الأزمنة والأبعاد، لذا وجودي حتمي لكوني عاشرت حركتهن وتحركت بإيقاعهن وصرت “راقصة” سرية يمكنها ملامسة ماهية الرقص في حميميتها والأنوثة في مخدعها. كل هذا بحياء وحب، إنه تقمص لشخصية لا تتخلص من صداها مثلما يفعل الميكانيكي ببدلته بعد عمله. وأثناء التركيب شبح المصور الذي نراه بالمرآة ساعدني في طرز اللقطات بدقة ورشاقة نسائية، والمخرج الروسي دوفجينكو يقول “كل منا يمكنه أن يؤدي دورا مرة في حياته، دوره الشخصي”، فالسينما تحب الممثل. 

حميد بن عمرة: نحن أمام زمن الرقص والسينما معا، الحركة والكاميرا، لغتان مصدرهما واحد هو حب الحياة

  • تعاملت مع المخرج السوري الكبير محمد ملص كوجه في أفلامك، كما أنه ظهر بشكل أوسع في فيلمك الأخير، كيف يمكن أن يتحول المخرج إلى وجه سينمائي؟ فهناك من يعتقد بأنه مقحم فيها، فماذا تقول أنت؟

هل تعتقد أن من بقلبه الوحل يصله عبق العنبر؟ فمن بعقولهم تورم لا يبدو الأفق عندهم خطا مستقيما، ومن بآذانهم خشخشة مزمنة لا يعقلون نغم الطيف ولا سر الكروان.

السينما لا تبرر نفسها والحب لا يحتاج إلى أطروحة خوارزمية، يبدو أنهم نسوا أنني لا أتساءل عن مقالاتهم الإنشائية المتنكرة في جعبة النقد، ولا أمتحن معارفهم بدقة قد تفحم وجوههم “السيلفية”. أعداء الحب يجتمعون ويخبرون بعضهم بعضا كيف يمكن عزل الإبداع الذي ينافس قطيعهم الممول والمدعوم من ألف درب.

ولأنني لستُ ابن مجاهدة ولا يتحكم في فني أي لوبي، فإنك ترى البعض عندما لا يجد أي منفذ ينتقد به السينما الحرة الذكية المشرقة، فإنه يخدش وينفث في العقد عبثا. هل غِيرتهم وحسدهم لعلاقتي بمحمد ملص كشرت أجسادهم؟ لأنهم يعترفون بكبره ويرفضون أن الكبير يتعامل معي بالند، بل وتشنجت حروفهم ولم يُدلِ منهم بكلمة إلا القليل، وذلك عندما كتب محمد ملص مقالا حول السينما التي أمارسها بعنوان “جداريات سينمائية”، فالكبار لا يخشون الإدلاء بحبهم جهرا، والسينما تعشق الجهر.

محمد ملص يحب الممثل ويجيد إدارته ويعرف قبلي أن الكاميرا تصنع الممثل من التجربة الروسية، وعندما وضعت الإطار على وجهه في “حزام” كان مرتاحا ومطمئنا، ولم أشعر بأنه يبذل جهدا لا في حركته ولا في نطقه.

لقد أضاف الجانب السيكولوجي الباطني ورفع السرد إلى قالبه الروائي. عندما تضع العدسة على وجوه الشخصية فيها مشبعة بالحب لا يمكن أن تجني سوى إلهام تبني عليه وبه أسطورتك. محمد ملص ومحمد أدار وآسيا قمرة وستيفاني بن عمرة وبرهان علوية وفاروق بولوفة وعدنان مدنات وقمقم عبد المجيد.. كل هذه الملامح شخصيات مرصوصة ينفعل معها الإطار ويفقد محيطه لكبرهم. كيف يمكن رفض الحضور إن كانت رؤيتك السينمائية حرة وقوية وسليمة؟ لم يسأل أحد لماذا فاروق بولوفة وبرهان علوية موجودون في فيلم “هواجس..”، ولم ينتبه أحد بفيلم “حزام” لشخصية “ميشال راندوم” المؤرخ الفرنسي، لم ينتبه أحد إلى الفنان “إبراهيم معلوف” في نفس الفيلم. التركيز على محمد ملص بدا كنوع من المطاردة الوهمية التي يمارسها فقط المتعودون على النظر من عين الإبرة. لماذا لا يطاردون غودار عندما يستعمل “محمود درويش” و”فريتز لانغ” وعددا كبيرا من الوجوه التي قد تبدو في عين الصغير إقحاما؟ العين المتفحمة حدقتها لا ترى سوى الرماد.

محمد ملص أشرق عدستي ورقصت معه في تانغو كل كلمة فيه حبة رصاص صائبة، والمخرج الممثل لا يسرق من التمثيل أدوارا ينافس بها ممثليه، إنما يقف بنفس الصف معهم في سرد جماعي. وجود محمد ملص في فيلم جزائري يضيف من دمشقيته حضارة وبلاغة لا يمكن لأي مخرج عربي كان أو غربي أن يرفضها. هل يعتقد كتّاب صالونات الفنادق أن محمد ملص لا يعرف أين يضع قدمه، وأن عينه لا تبصر وأن قلبه لا يفرق بين النور والظلام؟ لكن هناك من يسأل عن فضول ونية سينمائية، وهناك من ينقب بأظافر المكر. من يريد تبريرا لوجود محمد ملص يهين قامته ويشكك في معرفتها وقوتها السينمائية، فالسينما لا تحب الشك والتشكيك.


إعلان