بيت الوثائقي.. حين تبدأ الأحلام في التحقق

حوار: بلال المازني

"بيت الوثائقي" أصبح حلما مشتركا إقليميا خرج من إطاره الضيق في تونس، وأصبح يستهدف بدرجة أولى جميع أرباب المهنة من مصر إلى موريتانيا

لوحة معلقة على الحائط معظمها بيضاء فارغة وإن كانت فيها ألوان وأشكال متناثرة هنا وهناك، تنتظر الرسام الذي سيجمع بينها لتصبح لوحة كاملة يتأبطها ويخرج بها إلى العالم. كذلك بالضبط عالم الفيلم الوثائقي في تونس، عناصره مبعثرة ومخرجوه يعملون فرادى، ومنتجوه يعَدّون على الأصابع، وأفلام وثائقية شحيحة العدد، والتمويل هيهات هيهات.

بقيت عائلة الفيلم الوثائقي في تونس تنتظر هذا الرسام سنين حتى يجمع عناصر الصورة وأفراد العائلة تحت سقف واحد، فقد تقاسم هذا الحلم سمية بوعلاقي وأيمن بردويل وناصر السردي وآخرون، وتحقق الحلم أخيرا في “بيت الفيلم الوثائقي”، وذلك مع مجموعة من الفنانين والسينمائيين الذين قرروا الجهر بهذه المبادرة الأولى والمتميزة ليجمعوا كل تكوينات الوثائقي تحت مظلة مؤسسة “بيت الوثائقي” (DOC HOUSE)، وهي مؤسسة مستقلّة غير ربحيّة تعمل على الترويج للإنتاج والتوزيع والتشبيك المهني المرتبط بالسينما الوثائقية في تونس وشمال أفريقيا.

ورغم أهمية هذا الجنس السينمائي إلا أنه بقي في الظل أو بحضور محتشم في العديد من المرات، وحسب دراسة أعدتها المنظمة فإن عام 2008 كان معدل إنتاج هذا الجنس السينمائي لا يتعدى فيلمين سنويا. ومع بداية عام 2011 نلاحظ انفجار الإنتاج، حيث ارتفعت نسبته من 28.6% عام 2009 إلى ما يقارب 54% عام 2017، لكنه عاد للتراجع مجددا.

وهنا يجدر القول إن المشاكل التي يعاني منها الوثائقي في تونس تُعاني منها أيضا وبدرجات متفاوتة جميع بلدان شمال أفريقيا، لذلك أصبح “بيت الوثائقي” حلما مشتركا إقليميا خرج من إطاره الضيق في تونس، وأصبح يستهدف بدرجة أولى جميع أرباب المهنة من مصر إلى موريتانيا، ويحاول تشبيك وربط علاقات بينهم، وتكوين عائلة وثائقي تتجاوز الجغرافيا والأطر الضيقة.

سمية بوعلاقي المدير التنفيذي لمؤسسة بيت الوثائقي

تتابع الجزيرة الوثائقية مع سمية بوعلاقي المدير التنفيذي للمؤسسة ظروف التأسيس وأهم إستراتيجيات البناء والتطوير في الحوار التالي:

  • يبدو أنه رغم تطور الفيلم الوثائقي العربي إنتاجا ودعما فإنه لا يزال يعاني عدة عوائق، ربما هذا الذي جعلكم تفكرون في إنشاء قاعدة لتطوير ودعم هذا الفن، لكن لماذا اخترتم قاعدة مؤسساتية ولم تختاروا مهرجانا أو صندوق دعم؟

إن فكرة تكوين بيت الوثائقي جاءت لسببين: الأول هو العدد الكبير جدا من الأفلام التي تم إنتاجها بعد الثورة، والثاني هو عدم وجود قاعدة مؤسساتية خاصة أو وطنية لتأطير هذا العمل في شمال أفريقيا، ورأينا أن هناك حاجة كبيرة لهذا التأطير والدعم والمتابعة في تونس والجزائر والمغرب ومصر.

كانت الفكرة أن تكون المؤسسة موجهة بالضرورة للفيلم الوثائقي في تونس، لكن ارتأينا أن تتسع هذه الدائرة إلى كل دول شمال أفريقيا، لأن التركيبة الفنية والاجتماعية نفسها تتقاسمها هذه الدول، خاصة المشاكل والمعوقات ذاتها التي توجد فيها، وأهم هذه الإشكاليات نجد التمويل بالطبع.

  • هذا فيما يتعلق بتمويل المشاريع، لكن تمويل المؤسسة في حد ذاتها، هل لديكم مانحين وممولين؟

بالنسبة للتمويل فإننا نمتلك شريكا إستراتيجيا مهما وهو “دعم وسائل الإعلام الدولية الدانمارك” (International Media Support Danemark)، والذي يساهم أيضا في تقديم الدعم اللوجستي والتقني للمؤسسة منذ البداية في مرحلة التأسيس، والآن في مرحلة المتابعة ودعم بعض المشاريع. وبالنسبة للتمويل أيضا ففي إستراتيجيتنا المرحلية بداية من عام 2018 فلدينا نقطة مهمة وهي التنويع في التعاون مع المانحين من مختلف الدول ومع مختلف الهياكل والمؤسسات، وذلك طبعا حسب المشاريع التي ستدعمها المؤسسة.

تمويل الوثائقي في تونس، من دراسة أعدتها مؤسسة بيت الوثائقي

  • من المؤكد بأن لكم قانونا داخليا أو بالأحرى خطوطا عريضة تنظم المؤسسة إيدولوجيا وفنيا، هل يمكنك إخبارنا عنها؟

 بالفعل نحن عملنا على رسم خطوط عريضة في مؤسسة “بيت الوثائقي”، وذلك حتى تكون لنا بصمة ودائرة أيدولوجية وفنية بالضبط كما ورد في بيان تأسيسها حيث أكدنا على:  

الإبداع: ستولي المنظمة اهتماماً خاصاً بالمشاريع والفنانين والفاعلين الثقافيين الذين يجازفون ويبتكرون في اختيار المواضيع أو في التقنيات المستعملة.

الاستقلالية: سيكون “بيت الفيلم الوثائقي” مستقلاً في صنع قراراته.

التنوع: سنعمل من أجل تكافؤ الفرص والتسامح وذلك بتشجيع الرؤى المتعددة.

التشريك: سنشجع تراكم الخبرات ونقل المعرفة والقيم إلى الأجيال الشابة.

حرية التعبير: سيعمل “بيت الفيلم الوثائقي” على فسح المجال للتعبير لمن هم في حاجة إلى ذلك، وسيكون ضد جميع أشكال الرقابة.   

احترام الإيتيقا (فلسفة الأخلاق): بعيداً عن الأخلاقوية والنظام السائد، سيعمل “بيت الفيلم الوثائقي” من أجل علاقة ثلاثية سليمة بين المخرج والشخصية والجمهور.

  • ألا تعتقدون أن هناك هياكل أخرى يمكن أن تنافسكم في مجال الأفلام الوثائقية، خاصة وأنكم مؤسسة فتية بصدد الخروج إلى النور؟

العالم العربي يفتقر إلى الهياكل الداعمة للأفلام الوثائقية، وكل المؤسسات والتنظيمات الأخرى تُعنى إما بالفنون كالمسرح والموسيقى أو تُعنى بالأفلام الروائية والوثائقية على حد سواء. كما أن هناك منظمات أخرى في العالم العربي تقوم بدور مشابه لدور مؤسستنا، وهي مؤسسة الشاشة في بيروت التي تعمل على دعم الأفلام الوثائقية فقط والتي تقلصت مواردها بشكل كبير، بينما بقية المؤسسات الأخرى تشتغل على الأفلام عامة وربما ترجح كفة الأفلام الروائية على حساب الوثائقية.

كل هذه المنظمات متمركزة في الشرق الأوسط والخليج العربي، بينما لا نملك ما يشبهها في شمال أفريقيا إلا مهرجان “فيدادوك” في المغرب الذي يدعم الأفلام الوثائقية، لكن تبقى صبغته صبغة مهرجان وليس مؤسسة، وبالتالي لا يمكن الاشتغال على الأفلام الوثائقية إلا في فترة المهرجان وليس كامل السنة.

  • ربما يتساءل المتابع العربي عن آليات عمل مؤسستكم، وكيفية ترسيخ هذا الدعم والتأطير على أرض الواقع.

نحن نعمل على إستراتيجيات وخطط مرحلية مدة الواحدة ثلاث سنوات، فالخطة الأولى التي بدأنا فيها هي خطة تعليمية وتوجيهية لمجموعة من المشاريع، والتي نحاول فيها تأطير المخرجين والمنتجين الشباب للدخول في عالم الوثائقيات والغوص فيه أكثر، كذلك أعددنا برنامجا لدعم المشاريع الوثائقية في مرحلة البحث والتطوير. فالبرامج والإستراتيجيات التي سنعتمدها ستساهم بشكل كبير في دعم وتطوير الوثائقي، كما سنقدم أيضا ورشات تدريبية للمخرجين، والتي سيحضرها مختصون في المونتاج، وذلك لمواكبة المشاريع منذ البداية في مرحلة التطوير والكتابة.

أما بالنسبة للمنتجين فسوف نرافقهم أيضا في خطوات الإنتاج الأولى وفي كيفية بناء علاقة مع المخرجين، وإعداد ملفات الإنتاج والدعم، وما هي أهم المنظمات الممولة لكل نوع من المشاريع المقدمة. كما ستكون هناك أيضا ورش ينظمها ويحيط بها منتجون محترفون.

وأهم ما سيستفيد منه المخرج الشاب هو مرافقة حثيثة لكل أطوار مشروع الوثائقي، فنحن نعمل في الأسابيع القادمة أيضا على استدعاء أحد المحترفين مخرجين أو منتجين أو حتى تقنيين لتأسيس حلقة نقاش دورية على فيسبوك، وبالتالي فإن أي مخرج شاب سيطرح أسئلة واستفسارات مباشرة حتى تعمّ الفائدة.

غلاف الدراسة التي أعدتها مؤسسة بيت الوثائقي

  • كيف كانت رغبتكم في التوسع والخروج من نطاق الحضور في تونس إلى جميع دول شمال أفريقيا؟

اهتمامنا بدأ ونشأ في تونس، ثم اكتشفنا أن هناك حاجة ملحة للخروج بالمشروع من تونس إلى شمال أفريقيا، ومن هنا قررنا أن تكون المشاريع المدعومة موزعة على بلدان شمال أفريقيا، فكما سبق وذكرت أن تمركز الهياكل الداعمة موجودة في الخليج العربي والشرق الأوسط المنفتح أكثر على الدول الأنغلوسكسونية، على عكس شمال أفريقيا المنفتحة أكثر على الدول الفرنكوفونية، ومن هنا سنحاول إقامة نوع من التوازن بين دول المغرب وشمال أفريقيا من جهة، ودول الشرق الأوسط والخليج العربي من جهة أخرى، وذلك فيما يتعلق بدعم وتشجيع وإحاطة المخرجين والمنتجين والأفلام الوثائقية عامة.

  • كيف كان تعاملكم مع الدول العربية إلى حد الآن؟

ربطنا علاقات جدية ومهمة مع دول شمال أفريقيا من مصر إلى المغرب، وستكون مشاريعنا مدعومة إما من أشخاص أو مؤسسات من هذه الدول. وعلى سبيل المثال نشتغل مع بجايا فيلم من الجزائر، كذلك نشتغل مع الأيام السينمائية لحقوق الإنسان في المغرب، ولدينا طبعا خطة تعاون مع العديد من الدول العربية الأخرى، كما أن هناك رغبة شديدة في إنشاء شبكة تواصل وتعامل تشمل بقية الدول العربية.

  • هل تعتقدين أن مؤسسة بيت الوثائقي لها علامة فارقة تتميز بها عن بقية الأطر الأخرى التي تدعم الأفلام الوثائقية؟

أعتقد أنه كانت لنا بعض الأسبقية في الاهتمام بالطفل، فقد لاحظنا أن الإنتاج الفني المُقدّم للطفل العربي قليل جدا، وربما منعدم تماما فيما يتعلق بالسينما الوثائقية رغم أهميتها المعرفية العظيمة. لذلك من المشاريع المهمة التي نعمل عليها هي إنشاء وحدة الوثائقي الموجهة للطفل والتي تحتوي على مكتبة سينمائية متكاملة، بالإضافة إلى ربط علاقات مع المهرجانات والمؤسسات والقنوات الموجهة للطفل، وهذا من شأنه أن يصنع ويطور ثقافة الوثائقي عند الأطفال.

طبعا نحن متفائلون جدا بهذه المبادرة التي قدمناها، ونعتقد أن هذه المنظمة ستساهم في تطوير الوثائقي ليس في تونس فقط، لكن في الكثير من أقطار العالم العربي.