الناقد الجزائري أحمد بجاوي للوثائقية: خمسون عاما وما زلت أبحث عن يوسف شاهين

حوار: محمد علال

البروفيسور أحمد بجايوي يشكل اليوم ذاكرة مهمة تحظى بتقدير الجميع

“وإذا مَضى للمرء من أعوامه.. خَمسُونَ وهو عنِ الصبَا لم يَجنح” كما قال البحتري (شاعر العصر العباسي)، فإن أحمد بجاوي(1) لا يزال عاشقا وفيّا لحبه الأول “السينما”، وحين اتصلنا به بعد يوم من عودته إلى الجزائر قادما من برلين حيث قدم محاضرة عن السينما الجزائرية، فإننا وجدناه غير مكترث بعناء السفر، قرر لقاءنا في اليوم التالي.

إنه مسكون بذلك الحب، كأنه عاشق لا يمل لقاء حبيبته كلما رن الهاتف على موعد جديد للحديث في السينما، هكذا هم عُشاق السينما يحملون قلبا كبيرا، وهكذا بدا بجاوي من الوهلة الأولى صاحب ذاكرة قوية، يتذكر أبسط التفاصيل في علاقته بالقصص والحكايات التي تُسرد في عتمة الغرفة الساحرة.

عند حدود السابعة مساء انتظرنا البروفيسور في بيته وفي الموعد الذي حجزه للجزيرة الوثائقية، موعد كتبه في الصفحة الخمسين عاما، في أجندته مواعيده المزركشة بألوان الفن السابع. تماما كما سبق وأن دوّن منذ عام 1966 مئات المواعيد لمشاهد الأفلام ولقاء كبار المخرجين، كان منها موعد تاريخي جمعه بالمخرج الراحل يوسف شاهين عندما زار هذا الأخير الجزائر عام 1973، زيارة أنجبت فيلم “العصفور” ليوسف شاهين بإنتاج جزائري، وهو ما يفسر جملة شاهين الشهيرة “أصبحت مخرجا بفضل الجزائر”.

إلى أعلى العاصمة الجزائرية قصدنا بيت الناقد السينمائي الأشهر في الجزائر، منزل يشبه المتحف الذي يحتفظ بأرشيف سينمائي نادر، شاشة وأكوام من الكتب وأشرطة أفلام قديمة وجديدة، وبعض الجوائز التي تشير إلى أن حياة بجاوي رفقة شريكة حياته كانت زاخرة بالمفاجآت والأحداث الهامة، تحمل معها مواقف عاشها رجل وفيّ لمهنة النقد السينمائي، نُقش اسمه جنبا إلى جنب نصف قرن من حكاية الجزائر مع الفن السابع، منذ أن قام بتحريك نادي “تيلي سيني” (Télé Ciné) الشهير من عام 1969 إلى عام 1989.

وما يجعل منه ناقدا مختلفا عن أقرانه هو امتزاج تجربته بشكل مباشر بمواقف عاشها شخصيا عندما كان مديرا لقسم الإنتاج السينمائي في الإذاعة والتلفزيون الجزائري، حينها أشرف على إنتاج أكثر من 70 فيلما جزائريا بين طويل وقصير ووثائقي.

هكذا أصبح بجاوي اليوم يشكل ذاكرة مهمة تحظى بتقدير الجميع. محاورته تشبه إلقاء نظرة من نافذة كبيرة على نهر من الأسرار.

 

  • كيف تشعر عندما يلقبك الناس بأنك أقدم ناقد سينمائي في الجزائر، وهل تتذكر كيف بدأت الرحلة؟

مؤخرا ألفت كتابا -صدر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر- بعنوان “السينما في عصرها الذهبي” (منشورات الشهاب)، يتناول رحلة الخمسين عاما والعهد الذهبي للسينما العالمية والجزائرية فقط، السينما التي أحببتها وكتبت عنها.

رسميا بدأت الكتابة عام 1967 بعد أن تخرجت من المعهد العالي للسينما (IDHEC) في باريس عام 1966، هكذا بدأت علاقتي تتواطأ مع سينماتك الجزائر، وبدأت صحفيا مستقلا أكتب في وسائل الإعلام المطبوعة. في البداية كنت أحلم في أن أكون مخرجا سينمائيا أو منتجا، حيث تلقيت تكوينا كمنتج، لكن القدر استقر بي عند النقد، وفي عام 1983 حصلت على درجة الدكتوراه في الأدب الأمريكي بأطروحة عن “سكوت فيتزغيرالد وزيلدا وهوليود”.

  • ما هي التحديات الأولى التي واجهتك في بداية الطريق؟

الجزائر في ذلك الوقت كانت تملك سياسة واضحة وإستراتيجية تجاه الجيل الجديد، أخبروني أنهم بحاجة إليّ كي أكون ضمن فريق السينماتك “دار الآثار السينمائية في الجزائر”، والتي كانت تحت إشراف الأوروبيين. كان التحدي هو بثّ روح جزائرية ضمن الفريق، وفي المدة الأولى بدأت أداء مهمة مسؤول العلاقات مع الجمهور، وبالموازاة مع ذلك كنت أكتب في الصحافة؛ “صحيفة المجاهد الجزائرية” الناطقة بالفرنسية تأسست عام 1956. كنت مهووسا بعالم الفن السابع منذ الصغر، فأول مقال نقدي كتبته كان عن فيلم “الربيع البكر” للمخرج إنغمار برغمان إنتاج عام 1960، نُشر المقال في صحيفة “الجزائر الجمهورية” لكن للأسف لا أملك أثرا عن هذا المقال الذي كتبته، وهو أول مقال يُكتب من طرف جزائري، فقد كان هناك ناقد فرنسي يُمضي باسم مستعار جزائري “حليم شرقي”، أنا من جيل كان يملك أحلاما كبيرة جدا والبداية كانت صعبة، فمنذ عام 1967 لم أتوقف عن الكتابة.

غلاف كتاب "السينما وحرب التحرير الجزائرية" صدر عام 2016، وهو الكتاب الثالث للمؤلف ويتناول ملفات هامة حول السينما الثورية الجزائرية

  • أنت من جيل الثورة، هل هناك شخص أثّر في تكوينك كناقد سينمائي؟

الجزائر أثناء الثورة كانت لها علاقة قوية مع الكُتّاب والأساتذة من فرنسا وأوروبا، وكان من الطبيعي أن نتلقى تعليما على يد الأجانب، ومن بين أبرز الأساتذة الذين درست عندهم أستاذ الفلسفة، وكان في الوقت نفسه يدير مركز سينماتك مستغانم، لقد كان عاشقا للسينما وبدأت معه أزداد عِشقا لهذا العالم الساحر. في يوم من الأيام اكتشف الجيش الفرنسي أن أستاذي في الفلسفة هو داعم لجبهة التحرير الوطني ومناصر للقضية الجزائرية، فتقرر نفيه خارج الجزائر، حزنت كثيرا لرحيله لكن أحمد الله أنه لم يتلق نفس مصير عدد كبير من الفرنسيين الذين دعموا الثورة واكتُشِف أمرهم من طرف سلطات الاستعمار، لقد ترك هذا الأستاذ بصمة كبيرة في شخصيتي، كنت أحب مداخلاته وتحليله وعمق الرؤية التي كان يقدمها.

أعتقد أن النقد هو فلسفة حقيقية ورأي وتحليل وقراءة عميقة لتفاصيل الصورة، عندما تنطفئ الأنوار ندخل في رحلة مع الفيلم قد تدوم ساعة أو ساعتين وبعد الرحلة يبدأ التحليل، فنحن في النهاية نقرأ ذلك الإحساس الذي جاءنا من الشاشة، هذه هي المدرسة التي تكونت فيها اللقاءات السينمائية وحلقات نوادي السينما.

  • ذاع صيتك من خلال برنامج السينما “نادي السينما”، كيف استطعت أن تقدم البرنامج على أهم قناة تلفزيونية في الجزائر وأنت تبلغ من العمر 25 عاما فقط؟

أحببت كلاسيكيات السينما العالمية؛ أفلام هيتشكوك وبيرغمان وصلاح أبو سيف وطبعا الأفلام الجزائرية،  وكنت أحب الحديث عنها في البرنامج وتلك مسؤولية كبيرة، لهذا كنت أعيد مشاهدة الأفلام عدة مرات قبل الانطلاق في عملية تحليل الفيلم وقراءته للجمهور، فعلا كنت أشعر برهبة كبيرة أمام الكاميرا، وأحيانا كنت أشعر بالخوف من الخطأ، حاولت أن أكون صادقا ومخلصا في نقل كل التفاصيل والمعلومات للجمهور، فكما تعلم فإن التلفزيون عالم كبير يدخل البيوت وجمهوره طبقات، وقد قررت أن أكون في المنتصف، لا شديد الطرح وغامضا ولا بسيطا وشعبويا، إنما أقدم لغة مفهومة ومحترمة.

البروفيسور أحمد بجاوي يقدم ندوة في باريس عام 2016، وإلى جانبه يسارا المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة رفيق الدرب في مهنة النقد السينمائي

  • اليوم كيف تتذكر رفاق رحلة النقد؛ نقاد سينما الأبيض والأسود في الجزائر؟  

في الحقيقة فإن الذين تخصصوا في النقد عددهم قليل جدا، ففي عام 1974 دخل عالم الألوان شاشة التلفزيون الجزائري، وسريعا زاد سحر السينما، وهكذا بدأت موجة النقد في السبعينيات، عدد من الصحفيين وقعوا في عشق السينما، والمُلاحظ أن المرأة لم تأخذ نصيبا كبيرا جدا، فلم يكن هناك إلا الصحفية موني براح التي كانت تملك حسا نقديا كبيرا، وقد توفيت للأسف بأزمة قلبية.

في الماضي كان لدينا عالم حقيقي من السينما في الجزائر، عالم يراقبه النقاد، على غرار الصحفي عبود بن زيان الشهير باسم “عبدو ب” الذي أسس مجلة “شاشتين” (أول مجلة سينمائية متخصصة في الجزائر) التي لم تستمر إلا ثلاث سنوات فقط. كان لدينا المخرج والناقد سعيد ولد خليفة والكاتب طاهر بوكلة، كل هؤلاء كانوا بالنسبة للسينما الجزائرية غذاء حقيقيا لا يمكن للفن السابع الجزائري أن يعيش من دونهم.

  • قلت إن أول مجلة سينمائية نقدية في الجزائر لم تدم طويلا، لماذا؟

استمرت ست سنوات إلى غاية عام 1986، كنت عضوا في لجنة التحرير، وهي المجلة الوحيدة التي نشأت بإرادة من الإذاعة والتلفزيون لدعم السينما، وذلك بأمر من مدير التلفزيون عبد الرحمن لغواطي، كان محبا للسينما وتم تعيينه من طرف الرئيس الراحل هواري بومدين، وقد طلب من “عبدو ب” الإشراف على مجلة متخصصة في السينما. في ذلك الوقت كانت ثقافة الاختلاف تنتج المنافسة وتصحح الأخطاء ولا تنتج الأحقاد، حيث كان “عبدو ب” من أشد المنتقدين لسياسة لغواطي، لكن هذا الأخير أخبره أنه يؤمن به ككاتب ويحترم رأيه. وعندما جاء القرار بفصل البث عن الإنتاج وفق النموذج الفرنسي، اختفت المجلة لأن الأمر يرتبط بالتمويل، ففي ثمانينيات القرن الماضي بدأت تطفو على السطح ملامح سياسة جديدة تجاه التلفزيون الجزائري.

  • اليوم أنت أستاذ جامعي في السينما، وهناك من يخلط بين مفهوم النقد السينمائي الصحفي والأكاديمي، كيف تجد هذه المعادلة؟

لم أتوقف عن الكتابة في المجلات والجرائد الجزائرية، بل كتبت أيضا في الجرائد الفرنسية وحتى الأمريكية. بالنسبة لي عالم النقد هو لقاء الطرح بفضاء ورقي يومي سواء جريدة أو مجلة، ففي السابق لم تكن المواقع الإلكترونية. أما العالم الأكاديمي فهو التخصص المعرفي الموجه للدراسات والأبحاث، لقد كتبت عن يوسف شاهين وصلاح أبو سيف في الصحافة والأبحاث، والطريقة مختلفة بالطبع. الصحافة الحرة في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي “العربية والفرنسية” تعاملت بشكل دائم مع المقالات النقدية، شخصيا كتبت المئات، هذه المقالات دفعتني إلى بعض التساؤلات عن حالة السينما في التسعينيات، وذلك حين تدهورت السينما ووصلت إلى الانهيار واختفاء الجمهور. السؤال بالنسبة لي “هل الجمهور غادر السينما أم العكس؟”، أعتقد أن هناك اختطاف للسينما في الجزائر.

مؤخرا ألف أحمد بجاوي كتابا بعنوان "السينما في عصرها الذهبي"، يتناول رحلة الخمسين عاما والعهد الذهبي للسينما العالمية والجزائرية فقط

  • بشكل عام ما هي أسس النقد السينمائي في رأيك، ومَن له الحق في الحصول على لقب ناقد؟

في السبعينيات في الجزائر العاصمة كان هناك 52 قاعة سينما، كان هناك عشرات الأفلام العالمية تعرض أسبوعيا، السؤال الذي يوجه لي دائما؛ لماذا لا تكتب عن الفيلم السيئ، الفيلم الذي تعتقد أنه يحمل الكثير من الأخطاء والملاحظات، والذي يشكل مادة دسمة لمن يريد تعرية المخرج؟ كانت إجابتي دائما “لا أملك وقتا”، فهناك عدد كبير جدا من الأفلام الرائعة لهذا أكتب عن الأشياء التي أحبها، لو كان عندي المزيد من الوقت لكتبت عن الأفلام السيئة -طبعا هذا موقف مني في النقد- ما أريد القيام به دائما هو مشاركة الإحساس مع الجمهور في القاعة، عندما أكتب فأنا أخاطب الناس والجمهور، أريد أن أركز على الحب، الجمهور الذي يدفع مقابل مشاهدة الأفلام.

اليوم لم أعد أشعر أنني ناقد سينمائي، أرفض هذه الصفة لأنني لم أعد أحكي للجمهور الذي يدخل للسينما. فاليوم وبعد خمسين عاما من ممارسة النقد السينمائي أعتبر نفسي محللا سينمائيا وباحثا ربما، أما ناقد لم أعد كذلك لأنه لا توجد قاعات سينما، ولم يعد هناك جمهور نحكي له ونتحاور معه للأسف.

  • لكن هناك من يشاهد الأفلام عبر التلفزيون والإنترنت ويكتب عنها نقدا؟

اليوم هناك طرق مختلفة لمشاهدة الأفلام عن طريق التلفزيون والإنترنت، صحيح هناك من يكتب عن أفلام شاهدوها في جهاز الكمبيوتر في البيت وأنا ضد ذلك، لأن ذلك يعتبر معاملة فردية بين الكاتب والفيلم، وأصل السينما هو المعاملة الجماعية مع الجمهور، ذلك السحر المغناطيسي الذي ينتاب عددا كبيرا من الناس في قاعة مغلقة ومظلمة، يغضبون معا ويضحكون معا، يبكون أحيانا معا لمشاهد قاسية وقوية في الفيلم، هذا الأصل في السينما، عندما ينطلق الإحساس إلى أبعد حدود بين الناس، إحساس قوي وصادق. للأسف السينما الجزائرية مهددة، لكن الجزائري لا يزال مرتبطا بالفن السابع، ومسؤولية الناقد في علاقته بالجمهور.

 

  • كيف يقرأ بجاوي الأفلام، وما هي الأشياء التي يركز عليها؟

الشيء الذي كان يحركني -وربما أختلف مع معظم النقاد الذين يكتبون عن السينما- هو عمق الفكرة، والحالة التي تمهد لتحليل الفيلم، عندما شاهدت فيلما مثل “باب الحديد” (إنتاج 1959 ليوسف شاهين)  كتبت عنه لأول مرة، ولم يكن الفيلم معروفا ولا حتى يوسف شاهين كان معروفا للجمهور الجزائري، بحثت عن العمق والتفاصيل التي يمكن أن يشعر بها الجمهور لكنه لا يستطيع تفسير فحواها، في هذا الفيلم أبهرني يوسف شاهين بفلسفة وحدة المكان والزمان ووحدة الحركة، الفيلم كله يدور في يوم واحد، 24 ساعة فقط وتدور أحداثه في القطار الذي يأخذ الجمهور وينقله إلى اتجاه بعيد كأنه مصير ما لأشخاص لا نعرفهم، لنصل إلى مرحلة التراجيدية، هكذا أتابع المراحل خطوة بخطوة، أفكك الفيلم وصولا إلى محطات معينة تفسر التناغم وتعكس النسق العام.

لقد قدمتُ حلقة من البرنامج عن الفيلم مدتها ثلاث ساعات، الجمهور الجزائري كانت لديه أفكار مسبقة حول السينما المصرية، فهم لا يحبون السينما المصرية، وكان ضيف البرنامج يوسف شاهين، وواجهت ردة فعل رافضة من طرف الجمهور في بداية الأمر، لكنني قلت إن الفيلم سيبقى من بين مئة أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية، فهو اتجاه جديد لأفلام السريالية، اعتبرت الفيلم ضمن 25 فيلما في تاريخ السينما المصرية، وللأسف فقد كتبت لاحقا أن يوسف شاهين لم يرجع أبدا إلى ذلك المستوى في أفلامه اللاحقة، لقد صعد قليلا مع “العصفور” (1972) و”عودة الابن الضال” (1976) لكنه سقط، وما زلت أبحث عن يوسف شاهين “باب الحديد”. تساءلت كيف تضيع الروح الإبداعية لمخرج كان يوصف في السابق بأنه كبير ومتميز؟ شاهين ضيّع القدرة الإبداعية فيما بعد.

أحيانا أكتب عن أفلام تبدو لي أعمالا كبيرة لكنها لم تأخذ حقها، أكتب عنها لألفت انتباه الناس إليها، أعتمد على إحساسي في الكتابة، الأمور التي ستبقى في التاريخ يمكن لمسها، المستقبل أمامنا يمكن أن نلاحظه لو ركزنا قليلا، أتذكر عندما كتبت عن فيلم “نهلة” لفاروق بلوفة عام 1979، كان العمل في قلب عاصفة من النقد والهجوم، الناس لم تفهم الفيلم، الناقد هو الإنسان الذي يستطيع أن يرى مستقبل العمل.

  • هل تسبب لك النقد في مشاكل مع مخرجين أو مؤسسات معينة حاربتك لأنها لم تحب ما تكتب عنها؟

أحيانا قليلة يحدث سوء تفاهم، لكنه قليل جدا. لقد كنت أحاول الكتابة دائما دون الهجوم أو التهجم، أدافع بالحجة دون تجريح، طريقتي في الكتابة عندما يتعلق الأمر بالكتابة عن مخرج كبير، الناقد يقف أمام أمرين إما المجاملة أو الكتابة بموضوعية، وهنا لن نحقق الموضوعية إلا من خلال الحجة والدليل، في النهاية لا أحد يستطيع أن يرفض النقد المبني على أدلة وتحليل عميق، يختفي اسم كاتب المقال إذا كان النقد سليما، فلا يهم من كتبه ولماذا إذا كانت الحجة دامغة، فمن مهارات النقد أن نجعل الطرف الآخر “المخرج والمنتج” يحترم الكاتب.

بعد خمسين عاما أصدرتُ عدة كتب علمية واليوم أنا أراقب الماضي للسينما العربية، لقد أصبحت أكثر ميلا نحو الكتابة الطويلة، صفحتين قد لا تكفيني اليوم للكتابة عن فيلم، أجد تراكم المعلومات والتحليل يشدني نحو المزيد من التفصيل، لهذا قررت التوجه نحو البحث والدراسات، وابتعدت عن النقد السينمائي الذي كنت أقوم به في الماضي في الجرائد والصحف.

البروفيسور أحمد بجاوي رفقة المخرج رشيد بوشارب والممثل الأمريكي فوريست أثناء تصوير مشاهد من فيلم "طريق العودة" في الولايات المتحدة الأمريكية

  • ما هي الأفلام التي تشاهدها الآن، كيف ومتى؟

ارتباطي ودوري كمدير فني لـ”مهرجان الجزائر الدولي للفيلم الملتزم” يُلزمني بمشاهدة فيلمين في اليوم من أجل اختيار الأفضل، لا يوجد فيلم لا يملك زاوية تنال الاهتمام، وأحيانا أقع في أفلام رائعة جدا خاصة فيما يتعلق بالأفلام الجزائرية، فالاختيار اليوم صعب جدا. الصحفيون الشباب يسألونني عن العهد الذهبي، للأسف أجد أن القرارات السيئة التي اتخذت في السينما الجزائرية كانت في العهد الذهبي، مثلا قرار منح قاعات السينما إلى البلديات، وإصدار قرار احتكار الدولة للتوزيع للمؤسسة الوطنية، وهو ما قتل عملية التوزيع السينمائي في الجزائر بعد أن كان هناك عشرات الموزعين العالميين، وأيضا احتكار الإنتاج وقطع الطريق أمام الخواص عندما أصبحت القاعات لا تملك أي فائدة اقتصادية للبلديات فتم إغلاقها، وكل تلك القرارات السيئة ظهرت في الستينيات باسم الاشتراكية، ولغاية الآن نحن نتخبط في الجزائر بسبب تلك القرارات.

  • كيف ترى مستقبل السينما والنقد في الجزائر؟

أولا النقد مرتبط بحالة السينما، ومستقبل السينما هو الجمهور، ومستقبل الناقد هو أن يكون هناك جمهور يذهب إلى السينما، الناقد لا يخاطب المنتج ولا المخرج في النهاية وإنما يخاطب الجمهور ومَن يتجهون لمشاهد الأفلام، دور الناقد هو تفسير الحب وليس حالة الكراهية، أحلل للجمهور لماذا أحببت الفيلم وليس لماذا أكرهه، أبث حماس وحرارة الحب لدى الناس، اليوم السينما الجزائرية ومنذ خمسة عشر عاما وأنا أقول إن هناك أفلاما جزائرية ولا توجد سينما جزائرية، فالأفلام مضطربة ومعزولة. للأسف لا أستطيع أن أقول إن هناك سينما في الجزائر، ومقابل ذلك أقول إن هناك سينما في تركيا ومصر مثلا، استخدام نفس التعبير في وصف المشهد الجزائري أمر غير معقول في ظل غياب وجود قاعات للسينما، صحيح أن الروح الإبداعية موجودة لدى بعض المخرجين في الجزائر، لكن هذا لا يكفي ليكون هناك مناخ سينمائي، لأن الأمر مبني على الإبداع والصناعة والتجارة.


إعلان