المخرج التونسي نصر الدين السهيلي للوثائقية: أفضل أن أكون ابن المقفع لا شهرزاد
حوار: بلال المازني

ينتهي الفيلم ويُضاء النور في قاعة السينما، صمت غريب يسود القاعة مع بعض أصوات بكاء مبعثرة هنا وهناك، تبدأ اليد الأولى بالتصفيق، تليها الثالثة فالرابعة فتشتعل القاعة.. هذه هي أجواء العرض الأول من فيلم “لقشة من الدنيا” للمخرج نصر الدين السهيلي.
كان الجمهور ينتظر فيلما فرأى ملحمة سينمائية في فيلم أجمع الكل من دون منازع أنه ليس كغيره من الأفلام لكنه كغيره من أفلام نصر الدين السهيلي؛ مدرسة النبش في الواقع والغوص في المظلم والأناركية (اللاسلطوية) السينمائية. ربما لم يعرف الكثيرون نصر الدين السهيلي قبل فيلمه المميز “لقشة من الدنيا”، لكن هذا الأخير لم يكن غائبا قبل ذلك من خلال مواقف مميزة وأعمال مميزة وربما سينما مميزة.
تتابع الوثائقية رحلة المخرج الثائر نصر الدين السهيلي في حوار السينما والأيدولوجيا والواقع.
- أين كان نصر الدين السهيلي قبل فيلمه “لقشة من الدنيا” الذي أحدث ضجة لدى الإعلام والجمهور والنقاد؟
نصر الدين السهيلي ممثل مسرحي بالأساس، فقد اشتغلتُ في مسرح الهواة ثم مررت إلى مرحلة الاحتراف مع المسرح الوطني التونسي، حيث خضت تربصات عديدة وكانت لي تجارب مع مخرجين تونسيين وأجانب، بالإضافة إلى عملي مع جملة من الشركات الخاصة.
مررت بمدرسة الفنون والديكور اختصاص كتابة وإخراج، وكان فيلم “بوتليس” هو فيلم روائي قصير وأول عمل سينمائي أنجزته سنة 2008، ثم فيلم “شاق واق فيلم حلال” وهو فيلم قصير روائي، ثم فيلم “مُرّ وصبر” وهو فيلم روائي طويل سيعرض في مارس/آذار 2019، وقد قمت بتصويره قبل الفيلم الوثائقي “لقشة من الدنيا” ويمثل بدوره أول فيلم وثائقي أنجزه فعليا بعد محاولة سابقة لإنجاز فيلم وثائقي حالت الإمكانات المادية الضعيفة دون إتمامه.
- يعتبر البعض أن نصر الدين مخرج مؤدلج جدا، وينتمي لتيار فكري معين، هل كان الانتماء الأيدولوجي لنصر الدين السهيلي معرقلا لإنتاجاته في مجال السينما؟
لا، لكن في السابق شغلتني السياسة وأعترف أنني أشعر ببعض الندم، لأن اهتمامي بالسياسة أخذ حيزا كبيرا من وقتي، رغم أن الاهتمام بالشأن العام مهم، لكن ربما اهتمامي أكثر من اللازم بالعمل السياسي عرقلني بصفتي فنانا، وبالتالي لم أقم بإنتاج أي عمل وهو خطأ كبير.
أعتقد أن الوقت هو المعرقل لا الانتماء الأيدولوجي والفكري، ففي علاقتي بمحتوى الأعمال التي أنجزها يمكنني تحمل نتائج خياراتي، فأنا لست مجرد حكواتي أو شهرزاد أروي حكاية لشهريار حتى لا يقتلني، أنا أفضل أن أكون ابن المقفع حتى لو أقلى في الزيت على أن أكون شهرزاد تقصّ حكايات ممتعة ثم يضاجعني شهريار.

- هل يمكن القول إن نصر الدين السهيلي أصبح ينتمي لمدرسة سينمائية معينة هي مدرسة البروليتاريا الفنية أو سينما الشعب، أكثر من مدرسة القضايا البرجوازية نوعا ما المتداولة في السنيما التونسية؟
في الواقع يسرني هذا التوصيف، فمنذ فيلم “بوتليس” أول أفلامي كانت فئة المهمشين والفقراء والمحرومين موضوع أعمالي. ففيلم “سوبيتاكس لقشة من الدنيا” هو تكملة لما جاء في الأفلام التي سبقته، والمسألة ليست الالتزام بقضاياهم فقط، بل هو إحساس بالانتماء، فأنا أنتمي إلى هذه الفئة.
أنا ابن عامل بسيط أنتمي إلى الفضاء ذاته الذي يعيشون فيه، وهي الأحياء المحيطة بمنطقة السبخة والتي اسميها مازحا بـ”حوض السبخة”، وهو حوض يقدم لنا البعوض والأوساخ فقط، لا ينتج ثروة بل ينتج أمراضا معدية وأوبئة.
التزامي تجاههم ليس بسبب خلفية أيدولوجية بالضرورة، بل هو انتماء عاطفي ووجداني، واعترف أنني أعجز عن أن أروي حكاية لا تمسّ هواجسهم والكوابيس التي يعيشونها، فأنا أتقاسم معهم كوابيسهم، لذلك حين أمسك قلما لكتابة سيناريو لا يمكن أن أتخيل ديكورا أو إكسسوارات ليست بنفس اللون الرمادي. بالنسبة لي فإنه رغم قتامة تلك الأجواء فإنها ستكون دائما القصيدة التي أحاول دائما كتابتها.
- ألا تخشى من أن يلتصق بك ذلك الإيتيكيت وذلك التصنيف، وربما ذلك الكابوس؟
لا بالعكس، يمكن أن أتجرأ وأقول إنني أنتمي إلى بلقاسم اليعقوبي ورحيم الجماعي، ربما أنا أكثر حدة منهم وأكثرهم هجومية إلى أن قيل إنني حفيد عبد الرحمن الكافي (والثلاثة شعراء شعبيون عُرفوا بثورتهم المستمرة على الواقع، وعدائهم للسلطة وحدّة لسانهم) وهم أشبه بالمرحوم أحمد فؤاد نجم في مصر.
أنا مع الفن الثوري وفن الطبقات المسحوقة، فهو الفن الذي ينقل همومهم ليس في علاقة بالسياسة أو الوضع الاجتماعي فقط، لكن حتى أفعالهم وحركاتهم وإيماءات وجوههم والطاقة الموجودة لديهم، واقترابهم من بعضهم وعلاقتهم وتفاعلهم معا، كل هذا أشعر به وأتشرف أن أنتمي إليه.

- أول سؤال تبادر إلى ذهني عند مشاهدة فيلمك الأخير هو سؤال تقني نوعا ما، كيف أمكن لنصر الدين السهيلي أن يدير ويتحكم بشخصيات الفيلم وهي شخصيات متمردة منحرفة لا تعترف بالدولة ولا المجتمع، فكيف يمكن أن تعترف بإدارة شخصيات أو سيناريو أو مخرج؟
هي مسألة خيارات، كان يمكن أن أقع فيما أسميه بالفخ الذي سقطت فيه الأفلام الوثائقية الأخرى باعتمادها منهج العمل الصحفي؛ أي سؤال وجواب، ويمكنك الملاحظة أنه لا يوجد أي سؤال أو جواب في الفيلم، حيث كانت الشخصيات موجودة بعفويتها، وتوصلت إلى ذلك بملازمة الشخصيات يوميا طيلة ما يقارب أربعة أشهر دون تصوير، حيث كان أقل وقت أقضيه مع شخصيات الفيلم هو ثماني ساعات في اليوم، نمت حيث ينامون واقتسمت معهم الأكل والشرب، وهم أشخاص أذكياء جدا ولهم فطنة كبيرة، ولهم القدرة على الإحساس إن كنت تحبهم أم لا.
دخلنا معهم في علاقة صداقة عبّر عنها رزوقة -أحد شخصيات الفيلم- قائلا “ما بيننا وبين نصر الدين ماء وملح”، وكما تعلم فإن هذه العبارة تعني الكثير لدى أبناء الطبقة الشعبية. وحين وصلنا إلى مستوى كبير من الصداقة لم تعد علاقتهم بمخرج أو حامل كاميرا، ولم تعد هناك أقنعة، وأصبحت علاقتنا أفقية. والتساؤل الكبير الذي ما زلت أسأله “هل كنت مخرجا في هذا العمل؟”، لأنه لا يوجد سيناريو أو حوار أو إدارة ممثل.
لكن في الوقت ذاته لم تكن مسألة ارتجال، لأننا كنا مرتبطين بهم نتبعهم خطوة بخطوة، فمن استهلاك المخدرات إلى المرض، وإلى رحلة العلاج ثم السقوط مرة أخرى في فخ استهلاك السوبيتاكس، فكان هناك تفاعل بيننا.

- لماذا اخترت هذه القصة بالذات، وما الذي شدّك فيها وجعلك تختار تصويرها دون غيرها؟
“لقشة من الدنيا” يروي قصة صديقين مشردين بالعاصمة، طُرد أحدهما من إيطاليا واسمه عبد الرزاق، والثاني متسوّل اسمه لطفي، وكلاهما مدمن “سوبيتاكس” (Subutex) وهو مخدر يُتناول عبر الحقنة.
ينجح عبد الرزاق في التخلص من الإدمان، ويحاول مساعدة لطفي في التخلص هو الآخر من الإدمان فيصطحبه إلى الطبيب، ويتابع المشاهد رحلة العلاج للتخلص من هذا الأفيون رغم الظروف المادية الصعبة التي يمران بها، إلى أن يكتشفا أن لطفي مصاب بالإيدز، وهو ما يجعل صديقه “رزوقة” يقرر مواصلة الرحلة مع صديقه في أجواء متقلبة فيها الكثير من المشاعر والحب والعنف.
أولا القصة تشبهني وتشبه الأفلام التي أخرجتها، لكن هذه المرة لم أقم باختيار الفيلم بل هو الذي اختارني. فحين صورت فيلم “مر وصبر” في حي باب جديد، كان بطله الممثل عاطف بن حسين الذي جسّد شخصية مدمن لمخدر سوبيتاكس، استدعينا رزوقة الذي لم أكن أعرفه سابقا ليرينا طريقة حقن مخدر السوبيتاكس، وشارك رزوقة في ثلاثة مشاهد في الفيلم، ثم جاء لطفي وتشاجر مع رزوقة خلال التصوير.
الحوار الذي دار بينهما والطاقة التي شاهدتها والنظرات المتبادلة بينهما جعلتني أتابع هذا المشهد، وقرر مدير الإنتاج طردهما بسبب الضجيج الذي أحدثاه خلال التصوير، لكنني طلبت منه تركهما وقلت له “كان الأجدر أن أحمل الكاميرا التي تصور الممثل عاطف بن حسين، وأذهب للعيش معهما وتصويرهما بدلا من تصوير الفيلم التافه الذي كتبته في مكتبي”. وبعد ثلاثة أيام من انتهاء تصوير الفيلم الروائي أعدت الاتصال بهما، ومنذ ذلك الحين لم أبارحهما إلى غاية اليوم، لذلك أقول إن الفيلم اختارني.
- ما هي المدة التي تطلبها تحضير الفيلم وتصويره؟
بدأت الفيلم وعمري 32 عاما، ووجدت نفسي الآن في العقد الرابع من عمري، بدأت الفيلم في مايو/أيار 2011، وأنهيته في أكتوبر 2018، سأفكر مئة مرة قبل إعادة هذه التجربة لأن ثمنها كبير جدا، ولأنها استنزفت أجمل فترات العمر التي لا يمكن أن تكررها بعد الأربعين أو الخمسين عاما. كان بالإمكان أن يكون الأمر أكثر خِفة لو خضت هذه التجربة في العشرين من عمري، لكنني غادرت عمر الشباب وعلى باب الكهولة في فيلم واحد.

- فيلم “سوبيتاكس” لقي رواجا غير مسبوق لدى النقاد والجمهور في مجال الأفلام الوثائقية، ما هو السبب حسب رأيك؟
أولا صدق الشخصيات الكبير، وثانيا طريقة الطرح التي أدّعي أن بها تجديدا، ثالثا أن الفيلم ليس فيلما للمتعة أو لإمضاء سهرة مريحة وممتعة، فالنقاد اعتبروا أن هذا الفيلم وثيقة بخصوص موضوع لم نتحدث عنه بالقدر الكافي، ولا أدّعي أنني أول شخص يقوم بذلك، لكن على الأقل ليس هناك أفلام كثيرة ذهبت إلى ذلك المكان المظلم، فنحن نرفض تسليط الضوء على هذا الموضوع والحفاظ على الطمأنينة الزائفة، ولا نريد تحريك السواكن والمياه الراكدة.
- من خلال حديثي معك لمست تأثيرا نفسيا كبيرا تركه الفيلم في نفسك.
بعد كل هذه السنوات أصبح الفيلم ملكا للجمهور، وهذا ليس بالتوصيف الذي غالبا ما يكرره البعض. أصبحت تقام العروض بطلب من محامين وحقوقيين في أماكن غير مخصصة في العادة للسينما كمقرات الجمعيات أو المعهد العربي لحقوق الإنسان . منحني ذلك نوعا من الراحة، وتذكرت الأوقات التي انغمست فيها بشغف في الفيلم وتساءلت: لم صبرت كل هذه السنوات؟ لماذا لم أخف من مرض التهاب الفيروس الكبدي أو مرض آخر؟ وفي النهاية اكتشفت أنني من هذا الفيلم وهذا الفيلم مني.