مهرجان السينما الأفريقية.. شرفة الأمل بعطر السافانا

المصطفى الصوفي

نور الدين الصايل مدير مؤسسة مهرجان السينمائية الأفريقية التي تنظم هذه التظاهرة السينمائية التي تعد الأولى والأقدم في المغرب

تتعدد مواضيع السينما الأفريقية التي يقترحها المخرجون في أعمالهم الجديدة، فالصالات السينمائية التي فتحت أبوابها مؤخرا في تلك المدينة الأفريقية المنهكة بالصراعات رغم قلتها أصبحت تسقط تباعا كأوراق شجر الخريف، وذلك من أجل مشاريع تجارية مربحة، عكس السينما التي لم تعد كما كانت في السابق مصدر ربح لكثير من المخرجين والمنتجين، وذلك بسبب عزوف الجمهور عن الذهاب إلى دور السينما، وأيضا بسبب الطفرة التكنولوجية التي أصبحت توفر فرجة سينمائية وافرة وبالمجان.

تُفتح الأبواب، يدخل بعض الأشخاص لمشاهدة آخر الأفلام التي تعالج قضايا أفريقية مثيرة كالعصبية القبلية والصراعات الإثنية، والطفولة المغتصبة، وحقوق المرأة المستعبدة، فضلا عن قضايا أسطورية ترتبط بتاريخ السافانا وحضارات قديمة، وتقاليد وطقوس أفريقية بالية لا تزال تطنّ في أذهان الجمهور طنين طبول أفريقية، ويترنح أصحابها فرحين وهم يرقصون رقصة المحارب القديم الذي خرج إلى الأذغال من أجل الصيد فحصل على طعامه؛ على غزال وكثير من الوحيش.

الممثلة ميمونة نديا من بوركينا فاسو تعد إحدى الممثلات التي جسدت الكثير من الأدوار التي تنعكس عليها أطياف المرأة الأفريقية

ميمونة نديا.. أيقونة السينما الأفريقية

إن مثل هذه الصور التي تُضاف إليها صور الهجرة خاصة إلى الضفة الأوروبية تعد جزءا من حلم قارة، وذلك من أجل تغيير أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتغيير حتى عاداتها ونمط عيشها، وذلك من أجل الخروج من جلباب تقاليد قديمة، وبالتالي الانفتاح على عالم جديد يعيش فيه الأفريقي حياة جديدة بعيدا عن الأعراف والتقاليد القديمة والمتجاوزة والبدائية، والتي يرى فيها البعض صورا للتخلف والجهل والأمية، والتي تظل في عيون بعض المتفرجين على مثل هذه الأفلام الخيالية جزءا من ديكورات أفريقية لا تصلح معها إلا أخذ صور للذكريات.

الممثلة البارعة والمتألقة ميمونة نديا من بوركينا فاسو تعد إحدى الممثلات الرائعات التي جسدت الكثير من الأدوار المزهوة بالحلم والتحدي، والتي تنعكس عليها أطياف المرأة الأفريقية بامتياز، سواء كأم أو كفتاة أو كامرأة مسؤولة وبلغات عدة كالإيطالية، وهو ما أهّلها لتكون نجمة السينما البروكينابية المحبوبة. اختارتها الدورة  الـ21 لمهرجان السينما الأفريقية التي افتتحت فعالياتها مساء السبت 15 ديسمبر/تشرين الثاني وتستمر حتى الـ22 من الشهر الجاري؛ من المكرمات الأفريقيات تقديرا لعطاءاتها المتنوعة والخصبة في المجال السينمائي في أفريقيا.

نور الدين الصايل مدير مؤسسة مهرجان السينمائية الأفريقية التي تنظم هذه التظاهرة السينمائية التي تعد الأولى والأقدم في المملكة، وثاني مهرجان أفريقي بعد مهرجان واغادوغو في بوركينا فاسو، اعتبر ميمونة في تصريح خاص أيقونة السينما الأفريقية، وذلك لما قدمته من أدوار قوية واستثنائية في كثير من الأفلام، وبالتالي كان حريا بالمهرجان أن يسدي لها هذا الاحتفاء اعترافا بقيمة المرأة الأفريقية في العملية الإبداعية السينمائية، والتي أصبح لها تأثير واهتمام وحضور وازن في الكثير من المهرجانات العالمية.

جانب من المعرض التشكيلي تكريما لانغولا ضيف شرف الدورة

المرأة الأفريقية.. صورة المشردات والمنبوذات

ميمونة نديا بدورها أعربت عن سعادتها في تصريح مماثل بهذا التكريم الذي اعتبرته تكريما لكل النساء الأفريقيات اللاتي ناضلن من خلال لغة التشخيص، ودافعن عن حقوقهن وحقوق باقي النساء المعنفات والمضطهدات والمشردات والمنبوذات، وصورن الكثير من المواقف والحالات التي تعانيها المرأة الأفريقية سواء في علاقتها بالرجل أو في علاقتها بالمجتمع والآخر والقيم الأفريقية، مبرزة بالمناسبة أن المرأة الأفريقية -عبر السينما- قدمت للعالم تلك الصورة التي يبحث عنها الجمهور، وهي صورة منسجمة وغنية بكثير من المشاهد والمواقف الدالة على كثير من القضايا التي تميز المجتمع الأفريقي بشكل عام، وتتوزع بين مواضيع التسلط والعنف والتقاليد والهجرة والحروب والمجاعات، وأحلام مجتمع وقارة سمراء تريد من خلال السينما أن تعبر للعالم عن كل ما يعتريها من شعور، بحثا عن الأمل والحرية وتحسين الأوضاع، ونبذ العنصرية للعيش في فضاء كوني كله إنسانية وسلام وتعايش بلا حروب وبلا صراعات يكون فيها الإنسان في نهاية المطاف هو الضحية.

والواضح أن الدورة السابقة التي تم فيها الاحتفال بالذكرى الأربعين لهذا المهرجان (الذي انطلق سنة 1977) عانت مشاكل تمويل حقيقية، حيث كان من الصعب تنظيم هذه الدورة، وذلك بسبب تأخير دعم الشركاء الذين –للأسف- يبقى تدخلهم محتشما، ولا مطامح عليا لديهم ولا وعي ثقافيا يُذكر، وبشكل خاص عدم احترام للمواعيد على الإطلاق حين يتعلق الأمر بالتزاماتهم المالية تجاه المهرجان، وهذه القضية أحبطت اللجنة التنظيمية التي كانت ولا تزال تعيش على وقع ديون متراكمة.

وفي هذا الإطار يوضح نور الدين الصايل أن الدورة الـ21 تنعقد في ظروف صعبة للغاية من الناحية التمويلية، ويصرف عن الزاوية التي يتبناها المرء في تعامله مع هذه التظاهرة السينمائية الأفريقية العريقة، فلا يسعه إلا أن يشعر بالأسى حين يحس ويلمس العسر المالي الذي يتخبطه المهرجان الدورة تلو الأخرى، وهو يكافح من أجل البقاء بقدر ما له من قوة.

الصايل: الدورة الـ21 تنعقد في ظروف صعبة للغاية من الناحية التمويلية، وهو يكافح من أجل البقاء بقدر ما له من قوة

محفل عشاق السينما الأفريقية

وأثنى الصايل بالمناسبة على شركاء المهرجان، وخاصة ولاية جهة بني ملال خنيفرة ومؤسسة المجمع الشريف للفوسفات ومحافظة خريبكة، والذين يُعدون الضمان الحقيقي لاستمرار هذه التظاهرة في المستقبل، ووعد المتابعين بأن يتحول المهرجان في الدورات المقبلة ومن خلال تحسين الأوضاع المالية إلى أكبر وأحسن تظاهرة سينمائية في القارة الأفريقية.

وعلى المستوى القاري والسينما الأفريقية أوضح الصايل أن المهرجان نال من دون شك -وعلى مدى عقود- اعترافا بكونه المحفل الرئيسي لعشاق السينما الأفريقية، وعلى سبيل المقارنة مع مهرجانات من قبيل “فيسباكو” في بوركينا فاسو ذي النهج التعميمي، ومهرجان “الشاشات السوداء” في الكاميرون المعروف باحتفاليته، و”ريسيداك” في السنغال المنبعث من جديد، و”ديربان” في جنوب أفريقيا الزاهي بالألوان، و”أيام قرطاج” السينمائية في تونس ذات الطابع الانتقائي، فضلا عن الكثير من الملتقيات السينمائية، وهو ما أثبث أن مهرجان السينما الأفريقية في خريبكة هو المنتدى الأفريقي والعالمي المميز للنقاش والتساؤل والحوار والاستباقية، حيث تمكنت مدينة خريبكة من تجسيد سينماتوغرافيات القارة السمراء. وبالتالي ما من شأن يهم أفريقيا وقضاياها المتعددة إلا وأولته اهتمامها الكبير، وكل هذه القضايا والأمور –وفقا للصايل- تستدعي من الشركاء وكل الفاعلين ضمان الوسائل الكفيلة واللازمة لتحقيق طموح قارة أفريقية سينماتوغرافية مثمرة وموحدة، وقادرة على خلق مزيد من الفرجة والحوار مع الأنا والآخر.

لجنة تحكيم المسابقة الرسمية في مهرجان السينما الأفريقية

السينما الأنغولية.. بحث عن أحلام قارة

وتحضر السينما الأنغولية ضيف شرف هذه الدورة، حيث يؤكد الصايل أن السينما الأنغولية من بين أبرز السينمات القوية في أفريقيا خاصة على مستوى الكتابة السيناريستية والتأليف، وهو ما جعلها تتوج في الكثير من المحافل الدولية، حيث عدّد الصايل فضائل الكثير من أفلامها أبرزها فيلم “كل شيء على ما يرام” للمخرجة بوكاس أباسوال، وهو فيلم يكشف القناع عن قضايا جوهرية في المجتمع والعالم من قبيل الهجرة والعنصرية والجنس والتشرد والضياع والبؤس، إضافة إلى الحروب التي حولت أنغولا إلى حرب أهلية دامت لأكثر من 28 سنة، هذا فضلا عن تجارب سينمائية أخرى مثل تجربة المخرج ماريانو بارتولوميو، وغيره من المخرجين الذين يحاولون تسويق صورة أنغولا سينمائيا، وذلك بحثا عن أمل في تغير الأوضاع في ظلّ شح الموارد المالية والإنتاجات السينمائية خاصة الوثائقية منها، والتي تصور المجتمع الأنغولي في مختلف تحدياته وأوجاعه وآلامه وأحلامه، وهي جزء من أحلام قارة.

وتعرف الدورة الجديدة برمجة قوية وخصبة، حيث يبرز الصايل أنه خلال فقرة تكريم السينما الأنغولية كضيف شرف يتم تنظيم أنشطة موازية متعددة، مثل معرض الفنون التشكيلية الذي قُصّ شريطه في حفل الافتتاح بالمركب الثقافي للمدينة، ويعبر بكثير من الألوان الزاهية والسديمية عن عوالم تجريدية تحاكي واقع المجتمع الأنغولي الذي يطلع إلى غد أحسن، وإشراقة شمس تضيء غياهب الأحزان والمواجع، إضافة إلى عرض أربعة أفلام أنغولية وهي “هنا الأمور على أحسن حال” للمخرج بوكاس باسكول، و”كلام المخرجين من أنغولا” للمخرج ميخائيل ما يتوندوليا، و”بطل” لزيزي غامبوا، و”أنغولا عام الصفر” لآفر ميارند.

 

السينما في زمن شبكات التواصل

ولأن الندوات تشكل حلقة من حلقات الحوار والنقاش والتفاعل وإبداء الآراء وطرح الكثير من القضايا، أكد الصايل أن الدورة وتكريما للسينما الأنغولية أيضا فإنها تخصص ندوة مهمة تتمحور حول النقد السينمائي في زمن شبكة التواصل الاجتماعي، وذلك بمشاركة نخبة من السينمائيين والنقاد والأكاديميين الدوليين مثل الناقد الفرنسي سيرج توبيانا، والناقد السنغالي بابا ديوب، إضافة إلى الباحث والناقد المغربي بوبكر الحيحي، وغيرهم من المشاركين من داخل المغرب وخارجها.

وعلى مستوى أفلام المسابقة الرسمية فقد أبرز الصايل أهمية أفلام الدورة التي تشهد عرضا لـ15 فيلما يمثلون 14 دولة أفريقية، والتي ستتنافس على جوائز المهرجان أرفعها الجائزة الكبرى التي تحمل اسم المخرج السنغالي الراحل عصمان صامبين، فضلا عن جوائز الإخراج التي تحمل اسم إدريسا ويدراكو، وجائزة لجنة التحكيم التي تحمل اسم الناقد السينمائي الراحل سمير فريد، موضحا أن المسابقة يرأسها المخرج بالوفو باكوبا كانييدا من الكونغو الديمقراطية، وتضم في عضويتها المخرج أبولين تراوري من بوركينا فاسو، والسيناريست ليسينو إزيفيدو من الموزمبيق، والمنتج عمر سالو من السنغال، ومخرج الأفلام الوثائقية وزيزي غامبو من أنغولا، والناقدة والإعلامية ياسمين بلماحي والممثلة نفيسة بنشهيد من المغرب. كما تشهد الدورة مسابقة لجائزة “دون كيشوت” وتمنحها الجامعة المغربية للأندية السينمائية، وتتكون من أحمد كورال وفاطمة الفوراتي وإدريس اليقوبي.

ومن أجل دعم الشباب وتكوينهم وفتح الآفاق السينمائية في طريقهم لفت الصايل إلى أن الدورة تولي اهتماما كبيرا بالورش السينمائية، حيث سيتم تنظيم العديد من الورش أبرزها ورشة التوضيب الرقمي التي تقدمها الخبيرة نجود جداد، وورشة التحليل الفيلمي الذي يقدمها رئيس المهرجان الوطني للفيلم القصير بسطات ضمير الياقوتي، وورشة السيناريو الصورة الذي يقدمها مجيد السداتي، ثم ورشة التصوير السينمائي وهي من تقديم فاضل شويكة، وورشة أخرى تقدمها زينب الهردوز.

كما لفت الصايل إلى أن الدورة تخصص تكريما خاصا للممثل المغربي محمد خيي الذي يعد من أبرز الوجوه السينمائية في الساحة المغربية، وتألق في الكثير من الأفلام، ونال جوائز قيمة آخرها فيلم “بيل أو فاص” لمخرجه حميد زيان ومنتجه عبد القادر بوزيد، وفاز بجائزة أفضل فيلم روائي بالمهرجان الدولي الأفريقي قبل شهرين في كاليفورنيا الأمريكية.

وأبرز الصايل في الأخير أن مهرجان السينما الأفريقية يبقى موسما احتفاليا كبيرا للإبداع السينمائي في القارة السمراء، إضافة إلى تداوله لكثير من الأمور التي تتعلق بأزمة الإنتاج والدعم والتمويلات المالية وكتابة السيناريو، فضلا عن ضرورة استثمار المؤهلات الطبيعية والسياحية والبشرية التي تتوفر عليها القارة السمراء، وذلك من أجل جعل السينما موردا ماليا مهما لتحقيق النماء والازدهار للشعوب، وشكلا من أشكال الإبداع الرائع الذي يطلّ من هضاب السافانا على عالم له فسحة أمل، وأحلام قارة للانعتاق من ربقة الماضي والتحرر وتكريس القيم الجمالية والإبداعية والإشراقات الإنسانية المضيئة، وهذا ما تبحث عنه السينما في بعدها الجمالي والشاعري والكوني.


إعلان