رئيس المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي: الوثائقي له دبلوماسيته الفنية في هدم الحدود بين الشعوب والثقافات

حوار: المصطفى الصوفي

رئيس المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي الدكتور الحبيب ناصري

اللبؤة التي تتربص بقطيع الجواميس المسكينة في تلك السهوب الممتدة على حدّ البصر، تتأهب بخفة المحترفين لمطاردة فريستها وهي تخفي فراءها وسط تلك الأعشاب بطريقة ماكرة.

المفترسة التي لا ترحم تزحف على قوائمها بحذر، تراها القرود من تلك الأشجار العالية غير المورقة، تزعق بقوة في إشارة إلى وجود خطر في المكان، الغزلان اللاتي كن يتغذين على العشب المجاور ينتبهن للصوت بجد، يرفعن رؤوسهن بخفة، يخفقن بآذانهن لإبعاد الحشرات المزعجة، يتوقفن عن اجترار الطعام، ويطلقن صوتا غريبا، ويضربن قوائمهن بقوة ثم يهربن في لمح البصر، فتراهن يقفزن في صورة شاعرية غاية في الإتقان.

اللبؤة لحسن الحظ لا تستهدف الغزلان، بل عينها على جاموس بعيد يبدو أنه مصاب، وهي ذكية تعرف بغريزتها أسهل الطرق لتوفير وجبتها بأقل جهد.

مثل هذه المشاهد تتكرر في سافانا أفريقيا، ومثل هذه الصور تعطي وتبرز كم جميلة هذه القارة بطبيعتها الأسطورية لتصوير أفلام تسجيلية ووثائقية من هذا النوع، حيث الطبيعة والحيوانات والأسطورة والعادات والتقاليد تغري بالاكتشاف كل حين، لكن الوثائقي يتعدى ذلك إلى مواضيع أخرى اجتماعية وسياسية واقتصادية وتاريخية ووجدانية.

من المصادفات الغريبة أن مدينة خريبكة المغربية (تبعد عن العاصمة الرباط نحو 170 كيلومترا جنوبا) ذات المؤهلات الطبيعية والاقتصادية والتاريخية والنضالية، والتي صُورت بها الكثير من الأفلام الوثائقية الممتعة، ومنها ما تعلق أيضا بالهجرة إلى الضفة الأوروبية والتراث وطقوس البوادي والأرياف كفن عبيدات الرما والفانتازيا ومواسم الحصاد والرمان والزيتون والخياطة التقليدية، والأضرحة وأولياء الله الصالحين والمعمار والقرصنة الإلكترونية؛ تحتضن كل سنة مهرجانا للسينما الأفريقية، وهي تظاهرة تحتفي بالكثير من التجارب السينمائية الأفريقية في بعدها الروائي والوثائقي الممتع، فضلا عن مهرجان متخصص في السينما الوثائقية، والذي تأسس قبل عشر سنوات وكأنها البارحة، وذلك للربط بين الإبداع الأفريقي والأوروبي والإبداع في مختلف القارات، بهدف جعل السينما الوثائقية احتفالا جماليا بأفكار مخرجين حالمين، وذلك بعالم تتجسد فيه قيم الهوية والإنسانية وروح المجتمع وقيم الواقع بكل تمظهراته.

 

التسامح والغيوان والخيول.. ثيمة أفلام متنافسة

المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي في دورته العاشرة التي انطلقت أمس الأربعاء 26 ديسمبر/كانون الأول وتستمر حتى 29 من الشهر الجاري؛ مناسبة دولية رفيعة لتكريم الفيلم الوثائقي بعدد من بلدان العالم، وذلك في أفق خلق نقاشا فعّالا ومستفيضا، يروم تكريس الفعل الثقافي كنسق معرفي وتربوي وتواصلي خلّاق.

فعاليات هذه الدورة التي تقوم بدور كبير في البحث عن المواهب وتشجيعها على العطاء والإبداع، وبالإضافة إلى مسابقتها الرسمية التي تحكمها لجنة متخصصة تفتح الباب أمام هؤلاء الهواة في مسابقة قوية يتبارى فيها المخرجون، وذلك لتأكيد أحقيتهم في التعبير عبر السينما. ومن تلك الأفلام التي تشارك في المسابقة؛ “حنين” من إخراج عبد الواحد تمود وهشام مدي، ويحكي قصة مجموعة من سكان مدينة خريبكة، حيث يتحدثون عن ذكرياتهم في تعايش وسلام، وكذلك عن قيم التسامح التي توجد بين مختلف الديانات حيث وجود كنيستين ومسجدين.

المخرج خالد مقدمين في فيلم “أربعة أيام في ضيافة الغيوان” ضمن نفس المسابقة، فهو يعرض للجمهور بالمناسبة سفراً في فضاء نوع من الموسيقى التراثية المعروفة بـ”الغيوان”. أما ياسين خطيب فيقدم في فيلم “الفرس والفارس” نوعا لرؤيته للسينما وهو على صهوة جواد للفانتازيا، وما يرتبط بذلك من نخوة وزهو عربي وأسواق ومواسم واهتمام بالخيول بشكل عام، فيما يكشف المخرج أناس خلوق من خلال فيلمه “أربعة ستة” عن عالم مثير للكهوف الطبيعة، ومن خلالها يتطرق إلى عالم الذات الإنسانية حينما يتملكها الخوف تحت الأرض.

 

مقدسات وأساطير وتقاليد

“إيزة جنيني” واحدة من المخرجات المغربيات تقيم في العاصمة الفرنسية سيتم تكريمهما بالمناسبة، فضلا عن لقائها الجمهور في “ماستر كلاس” لتحكي عن تجربتها مع الوثائقي الذي امتد لأكثر من خمسين سنة، وهو ما أثمر الكثير من الأعمال الوثائقية التي اهتمت بالمقدسات والأساطير وتقاليد الأطلس، والعادات والأعراف والموسيقى النضالية، ومن أفلامها “من أجل متعة العين” و”العيطة” و”العودة إلى أولاد مؤمن” و”إيقاعات مراكش”، و”مملكة الألف عرس وعرس”.

هذا دون نسيان منتديات أخرى مع الناقد الجزائري بشير خليفي، والناقدة المصرية نعمة الله حسن رئيسة لجنة التحكيم، فضلا عن كاتب عدد من الأفلام الوثائقية ودكتور العلوم اللغوية بجامعة السوربون بباريس حسن حبيب من المغرب، والمخرج الفلسطيني فايق جرادة الذي سيتحدث عن تجربته الخاصة في الأراضي الفلسطينية خاصة في قطاع غزة المحاصر، وذلك من خلال إخراج العديد من الأعمال الوثائقية أبرزها “ناجي العلي في حضن حنظلة”، وهو الفيلم الذي شارك في الكثير من المهرجانات أبرزها جائزة الجزيرة الوثائقية للعام 2015، ومهرجان أوروبا الشرق للفيلم الوثائقي الذي عقد في مدينة أصيلة شمال المغرب.

وبشأن هذه الدورة التقت الجزيرة الوثائقية رئيس المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي الدكتور الحبيب ناصري، فكان لنا معه هذا الحوار الخاص.

المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي في دورته العاشرة التي انطلقت أمس الأربعاء 26 ديسمبر/كانون الأول وتستمر حتى 29 من الشهر الجاري

  •  تأتي الدورة العاشرة بعد تجربة سابقة مفيدة ومهمة، ما الذي يميز هذه الدورة عن سابقتها؟

في البدء كل الشكر لموقع الجزيرة الوثائقية ذات البعد الثقافي الوثائقي. طبعا الدورة العاشرة ستعرف مجموعة من الأنشطة المميزة، لا سيما وأن المهرجان راكم مجموعة من التجارب التنظيمية، وساهم في نشر ثقافة الفيلم الوثائقي، إذ شكل هذا المهرجان أول تجربة في المغرب كمهرجان مستقل ومتخصص في الفيلم الوثائقي.

وما يميز الدورة هو طبيعة التكريمات النوعية، مثل تكريم المخرجة الوثائقية إيزة جنيني، والإعلامي محمد عمورة، ومدير التصوير السينمائي والتلفزيوني محمد القرطبي، بالإضافة إلى نوعية الأفلام الوثائقية التي ستُعرض، والمنتمية إلى حساسيات جغرافية وثائقية متعددة ذات بعد عربي وغربي وأفريقي وغيره، دون نسيان للورشة الرئيسية “من الفكرة إلى العرض”، ولقاءات مفتوحة مع مجموعة من الأسماء الوثائقية المنتمية إلى دول مختلفة لعرض تجاربها الفيلمية الوثائقية، إلى غير ذلك من توقيع الإصدارات، والندوة الرئيسية حول الإبداع بما فيه الإبداع السينمائي الوثائقي والقانون.

  • تُخصص الدورة مسابقتين؛ واحدة للأفلام الطويلة وهي الرسمية وأخرى للهواة، كيف تتم عملية فرز الأفلام المشاركة في المسابقتين، وكيف تساهم في إخصاب الحقل الفيلمي الوثائقي؟

بعد تلقي العشرات من الأفلام الوثائقية من داخل المغرب وخارجه سواء على مستوى المسابقة الرسمية أو على مستوى مسابقة أفلام الهواة، يتم حصر اللائحة النهائية واختيار الأفلام التي تستحق المشاركة وفق مجموعة من الضوابط الفنية، مثل طبيعة الفكرة والرؤية الإخراجية وجودة الصوت والصورة وغيرها، والمسابقة تساهم في نشر ثقافة السينما الوثائقية والتعريف بها وبقيمتها، وتربية المتلقي على فرجة الفيلم الوثائقي، مما يرفع من درجة الرغبة في مشاهدة الأفلام الوثائقية، وجعل الفيلم الوثائقي محورا للمناقشة، وخلق تلاقح ثقافي فيلمي وثائقي مفيد للجميع.

  • وما دور مسابقة الهواة في كشف أسماء موهوبة في هذا المجال، وترسيخ ثقافة سينمائية وثائقية لديهم في المستقبل؟

طبعا هذه المسابقة لها دور مهم في ترسيخ وجذب الشباب خاصة كي يطوروا مهاراتهم الفنية، بل نسعى دوما إلى جعل أفلامهم تُعرض في مسابقة معنونة بمسابقة الهواة بجانب مسابقة المحترفين، وذلك كي يتم التلاقح والاستفادة من تجارب الكبار. هذه المسابقة هي مفيدة للشباب، ومن ثم تتحقق غاية المسابقة في اكتشاف أسماء جميلة وواعدة، وهذا مكسب للمدينة وللحقل السينمائي برمته.

 

  • وما أهمية المكتسبات والرهانات التي تتحقق للمهرجان من خلال هذه المبادرات؟

المهرجان يجني العديد من الثمار، من الممكن تلخيصها في التربية على الفرجة الفيلمية الوثائقية وتقاسم تجارب الناس، والإيمان بكون الفيلم الوثائقي له دبلوماسيته الفنية والجمالية في هدم الحدود بين الشعوب والثقافات، وجعل لغة المعرفة الفنية والجمالية قاسما مشتركا بين الجميع في زمن عولمة مرعبة ومخيفة، وهذا ما تركز عليه التظاهرة في كل دورة من خلال عرض واختيار أفلام تعالج الواقع بطريقة خلاقة.

  • وماذا عن طبيعة الموضوعات التي تعالجها الأفلام التي تم اختيارها هذه السنة؟

هي كثيرة ومنوعة، أفلام ذات موضوعات مختلفة، فيها الاجتماعي والإنساني والثقافي وغيره. طبعا الفرجة مضمونة لا سيما والمهرجان يسعى دوما إلى تقوية الصلة بين الجمهور وبين الفيلم الوثائقي المعروض. صلة تتعمق خلال حصة مناقشة الأفلام مع مخرجيها، مما يساهم أيضا في تقريب الناس لانشغالات المخرجين الوثائقيين.

  • تترأس الناقدة المصرية الدكتورة نعمة الله حسين لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، ما قيمة هذه اللجنة في اختيار الأجمل والأرقى، علما بأن كل الأفلام المشاركة بعد عملية الفرز تستحق التتويج؟

فعلا كلها تستحق التتويج، الدكتورة نعمة الله حسين اسم نقدي مصري جميل، وهذه الناقدة حققت تراكما كميا وكيفيا في مجال الكتابة النقدية، وبالتالي هو تكريم للمرأة من خلال رئاسة الناقدة لهذه اللجنة، والشيء نفسه بالنسبة للجنة الهواة والنقد التي تترأسها الدكتورة جميلة عناب، وهي الباحثة المغربية في السينما. أسماء متعددة ومن دول مختلفة تتلاقح وتتفاعل لاختيار الأجمل خلال هذه الدورة إن شاء الله.

  • وأين تبرز أهمية حضور الفيلم الوثائقي العربي في هذه الدورة؟

الفيلم الوثائقي حاضر دوما في هذه المناسبة من خلال دول عربية متعددة، وهذه السنة تحضر مصر والمغرب ولبنان. وهي تجارب فيلمية وثائقية مختلفة تتحدث عنها هذه الأفلام العربية، وهي مستمدة من قصص لها قيمتها الثقافية والفنية والجمالية، ونتمنى لها حظا سعيدا، وهو التمني نفسه الذي نتمناه كلجنة منظمة لبقية الأفلام الوثائقية الأخرى، وطبعا الرابح الأول والأخير هو استمتاع الجمهور.

تكريم محمد عمور من قبل مديرة وزارة الثقافة بخريبكة

  • بالطبع تلعب الأنشطة الموازية دورا كبيرا في تنويع وإخصاب فقرات الدورة، هل لكم أن تسلطوا الضوء عليها؟

هي كثيرة ومتنوعة، إننا نهتم كثيرا بالأنشطة الموازية مثل ندوات المهرجان والأمسيات الشعرية والزجلية والموسيقية ومعارض الخط العربي والفن التشكيلي، إضافة إلى اللقاءات المفتوحة والورشات وغيرها، لكوننا نؤمن أن الفنون تتلاقح وتخصب بعضها البعض، وتتفاعل وتساهم في تطوير رؤى من ينتمي إليها، بل غايتنا القبض على لحظات المتعة لفائدة الجمهور. وفق هذه الرؤية نشتغل منذ سنوات، مما يجعل الشعري والتشكيلي والنقدي والموسيقي يجاور الفيلمي الوثائقي، وكل هذا مساهم وفاعل في تربية ذوق المتفرج.

  • ما الذي يميز مهرجان خريبكة الدولي عن بقية المهرجانات المغربية والعربية؟

كل المهرجانات السينمائية وغيرها مفيدة لنا، لا سيما وأنها تساهم في تحقيق الفرجة للجمهور. في مهرجان خريبكة نحرص على إعطاء بعد ثقافي وعلمي للمهرجان، ونحاول بناء ما نقدم على وعي أكاديمي، أو لنقل نحاول ما أمكن أن نبرمج برنامجا فيلميا وثائقيا وأنشطة موازية مستلهمة من اهتماماتنا البحثية العلمية. نتمنى أن نستمر في ترسيخ هذه الرؤية الثقافية للمهرجان لا سيما وأننا نجحنا في إصدار مؤلَّفين نقديين يهتمان بالسينما الوثائقية، كما تمكنا من إنتاج فيلم وثائقي جميل.


إعلان