“قاسم عبد”: العراق لم يعد وطني!
محمد موسى

في عام 1990، أنجز المخرج العراقي المقيم في بريطانيا قاسم عبد فيلمه التسجيلي “وسط حقول الذرة الغربية”، عن سبعة فنانين تشكيلين عراقيين كانوا يعيشون ويعملون في إيطاليا. مرَّ الفيلم ذاك على هواجس وهموم المنفى لجيل من المثقفين العراقيين الذين كانوا يكابدون من جانب البعد القسري عن بلدهم، ومن الجانب الآخر كان يتوجب عليهم مواجهة قساوة الحياة اليومية وشظف العيش وضبابية المستقبل. يُعَّد فيلم “وسط حقول الذرة الغربية” وثيقة صورية وتاريخية شديدة الأهمية لحقبة زمنية من حياة العراقيين في المنافي، والتي طمست الكثير من معالمها، وضاعت تفاصيل كثيرة من حياة ناسها.
يعود المخرج قاسم عبد في فيلمه التسجيلي الجديد “مرايا الشتات” (2018)، إلى شخصيات فيلمه “وسط حقول الذرة الغربية”، ليجد بعضها مازال يعيش في إيطاليا، والبعض الآخر ترك البلد الأوروبي الجنوبي إلى بلدان أوروبية أبعد جغرافياً، فيما تحول “العراق”، الذي كان حُلماً ومصدراً لا يتوقف للإلهام للفنانين العراقيين في عقد الثمانينات، إلى مبعث للمرارة والخيبة، وتذكاراً دائماً بالخسارة، حيث أن ما حصل منذ التغيير الذي أسقط نظام صدام حسين، يُعَّد كابوساً مُرعباً آخر، وأطاح بأيّ أحلام لهم بالعودة إلى البلد الأول.
هناك قتامة وقنوط كبيرين يلفان الفيلم الجديد، ليس فقط بسبب التجارب والخيبات التي يتحدث عنها الفنانين، والذين زار بعضهم العراق بعد عام 2003، ولكن وبشكل رئيسي بسبب الفرصة التي يمنحها الفيلم للمقارنة بين الصور القديمة للفنانين في شبابهم، وصورتهم اليوم، وهم على حالهم في “المنفى”، وقد تجاوز أغلبهم الستين من العمر، وبطأت حركة بعضهم، فيما توقف واحد منهم (الفنان المعروف جبر علوان) مؤقتاً عن العمل الفنيّ، حتى تتبيّن ملامح ما يمرَّ به الشرق الأوسط الذي زلزله “الربيع العربي”.
لم يتوقف المخرج العراقي البريطاني قاسم عبد عن إخراج الأفلام التسجيلية منذ عام 1990، وأن تباعدت أحياناً الفترات الزمنية بين أعماله. عاد عبد إلى العراق بعد عام 2003، ليؤسس مع زميلته المخرجة العراقية ميسون الباجه جي كلية السينما والتلفزيون المستقلة في بغداد، والتي دربت العشرات من العراقيين. أخرج عبد في عام 2008 فيلمه الملحمي الرائع “حياة ما بعد السقوط”، والذي سجل فيه آثار الحوادث العامة العنيفة بعد عام 2003 على عائلته في العراق، كما يُوثق الفيلم على نحو ما دخول البلد في النفق المعتم والذي مازال عالقاً فيه لليوم، حيث لم يبقى من حلم المستقبل حينذاك سوى ذكريات مُوجعة ومُغلفة بدماء الذين رحلوا في سنوات العنف المتواصلة.
عن فيلمه “مرايا الشتات”، هذا حوار مع المخرج قاسم عبد:

هل تتذكر دوافعك لإخراج فيلم “وسط حقول الذرة الغربية” قبل ما يقارب الثلاثين عاماً؟ ما الذي كنت تخطط له حينها؟
هذا السؤال يرجعني إلى فترة الثمانينات، لزمن تحوَّل فيه شكل السلطة السياسية في العراق، من دكتاتورية الحزب الواحد، إلى دكتاتورية الفرد الواحد، وربط الثقافة والفن بهذه الوحدانية شعراً ونثراً ورسماً وسينمائياً، وكل من لا يسير في هذا الاتجاه يُتهم بالخيانة، ويكون مصيره الاعتقال والتهميش. هذا الوضع أجبر الكثير من الفنانين والمبدعين والكتاب والصحفيين على ترك العراق، واختيار المنفى كمحطة للدراسة أو للعيش أو للعمل، على أمل الرجوع يوماً ما إلى الوطن.
في إيطاليا وحدها، كان هناك أكثر من ثلاثين فناناً تشكيلياً درسوا في معاهدها الفنيّة، وأنجزوا عشرات المعارض التي حققت نجاحاً ملموساً للتعريف بالوجه الاخر، غير السلطوي للفن العراقي وهويته الحضارية.
كنت في تلك الفترة مسؤول اللجنة الثقافية في المنتدى العراقي في لندن، ونظمنا وقتها معرضاً لعشرين فناناً عراقياً في كلية الدراسات الشرقية في جامعة لندن تحت عنوان “بعيداً عن الوطن”. في زمن المعرض ذاك، بدأت التفكير بأن أعمل شيئاً عن هؤلاء الفنانين التي تحاول السلطة العراقية إلغاؤهم من المراجع الثقافية للعراق.. بالمناسبة ليس الوضع الحالي أفضل وإنما أسوء بكثير.
بعد المعرض، بدأت بشكل جدي التفكير بعملية البحث لمشروع الفيلم، وكانت إيطاليا هي أكثر البلدان المرشحة لعمل الفيلم بسبب تواجد الفنانين العراقيين الكثيف فيها. وقع الاختيار حينها على سبعة فنانين.. عندها بدأت المشاكل، وطرحت أسئلة حول مغزى الاكتفاء بسبعة فنانين، ولماذا لا يشمل المشروع جميع الفنانين العراقيين الذين كانوا في إيطاليا. كان إقناع الفنانين الباقين الذين لم يقع عليهم الاختيار عملية صعبة، إذ حاولت أن أشرح بأن فيلماً من أربعين دقيقة لا يستطيع أن يستوعب ثلاثين فناناً.
أما الدافع الأساسي لعمل ذلك الفيلم، فربما كان الإحساس بالظلم والتهميش والبعد القسّري، أو ربما كان جزءاً من روح الاحتجاج والغضب والتحدي للدكتاتورية التي كنا نحملها.. كنا شباباً خرجنا للدراسة والتعلم خارج العراق من أجل بلدنا، ومن أجل أن نعود إليه يوما ما، حتى نساهم في إثراء حياته الثقافية والفنيّة، لنجد بعدها أن هذا “العراق” الذي يسيطر على أرواحنا يتنكر لنا، وأننا مرفوضون ومطاردون منه، لأننا لا نصفق للدكتاتورية وللقائد الضرورة.
والغريب أن هجرة الكفاءات العراقية بكافة أنواعها ومستوياتها ما زالت متواصلة، ولها الأثر الأكبر في تراجع العراق كدولة وكمجتمع مدني، وانحطاط الفكر، وبروز الهوية الطائفية، ورواج الثقافة الغيبية كبديل للعلم والمعرفة والعقل المنفتح.

كيف تصف تجربة التصوير حينذاك؟ الأجواء والهواجس، لك على الصعيد الشخصي، وما لمسته من الفنانين العراقيين وقتها؟
لم يكن أمراً سهلاً أبداً أن تخرج فيلماً في تلك الفترة، حيث لم يكن عالم التكنولوجيا الحديثة قد بدأ، أقصد تكنولوجيا الديجتال، ولهذا كان تصوير فيلماً في ذلك الزمان، يعني استخدام تقنيات السينما التقليدية المُكلفة. أي أن المخرج يجب أن يملك كاميرا جيدة وأجهزة صوت وأفلام خام وناس تساعدك أثناء التصوير والمونتاج، والأهم أن يكون هناك ميزانية للفيلم.
كل هذه الاشياء لم تكن متوافرة، ولكني بالصدفة استطعت أن استعير كاميرا 16ملم من نوع “ايرافلكس”، وأجهزة صوت من أحد الأصدقاء، وساهم الفنانون السبعة في الفيلم بدفع تكاليف الفيلم الخام، وأيضاً تحميضه وطبع المادة الأولية. كما ساعدني أثناء التصوير شاب عراقي اسمه محمد، وشابة ألمانية اسمها بيركد، وكلاهما كانا من خريجي معاهد سينما.
بعد أن أكملت التصوير، ساهمت القناة البريطانية الرابعة (channel 4) في إكمال مراحل المونتاج، وتم عرض الفيلم على شاشة القناة البريطانية بعد تحرير الكويت، وأعيد عرضه بضعة مرات على شاشة القناة ذاتها، كما عُرض على شاشات محطات تلفزيونية أوروبية ومهرجانات عالمية، كمهرجان “لايبزك” الألماني الدولي للأفلام الوثائقية في تلك الفترة.
أما بخصوص الأثر الشخصي للفيلم الأول، فكان كبيراً، إذ أني أعرف الفنانين (عفيفة لعيبي، علي عساف، جبر علوان، رسمي الخفاجي، فواد علي عزيز، كاظم الداخل، بالدين احمد) بشكل جيد. كنا قد درسنا في نفس الزمن في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وتركنا العراق في منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى نكمل دراستنا في الخارج. بالنسبة لي، كانت دراسة السينما هدفي وحلمي، أما أصدقائي فكانت الفنون التشكيلية والرسم غايتهم، وقد نجحوا في ذلك، وأنتجوا الكثير من الأعمال الفنيّة في مجال الرسم والنحت و”الفيديو آرت” والتصوير الفوتوغرافي والغرافيك والخط العربي والملصقات الجدارية إلخ. كنا طوال السنين الماضي على تواصل، ونعرف تفاصيل حياة كل منا. بالنسبة لنا جميعا، فأن عملنا الفنيّ يعكس بوضوح من نحن، ومن أين أتينا، كما يعكس ملامح هويتنا الثقافية والإنسانية.

متى بدأت التفكير بالعودة إلى موضوع الفنانين العراقيين؟ وهل كانت الفكرة واضحة من البداية، أقصد النيّة بتصويرهم وهم مازالوا على حالهم في المنفى الذي صورتهم فيه قبل عقود؟
يُمكنني أن أقول إن الفكرة بدأت أثناء عملية غلق كلية السينما والتلفزيون في بغداد في عام 2013، وهي الكلية التي أسستها مع زميلتي ميسون الباجه جي بعد حرب عام 2003، والتفكير بالعودة النهائية للمنفى الأوروبي، وإحساس العجز الذي أصابني بالانتماء للمكان الاول، وتشظي صورة الوطن أمام عيني، حيث أن العراق الذي كنت أحلم به لم يعد موجوداً، إنما أصبح عراقاً آخر، مُختلفاً ومنهاراً، بشراً وطبيعةً ودولةً ومؤسسات.
كانت لحظات صعبه بالنسبة ليّ، فبعد عشر سنوات من وجودي بالعراق، شعرت بوحدة عميقة، وشعور بالعزلة مهنياً وجسدياً ونفسياً وعقلياً، وأني أعيش في بلد تقودة المافيات الدينية، ومجتمع تنخره ثقافة الفساد، ووسط ثقافي مليء بالمرتزقة والدجل.
بعد عشر سنوات من تدريب الشباب العراقي على صناعة الأفلام الوثائقية في كلية السينما والتلفزيون المستقلة. وجدت نفسي غريباً وغير قادر على التأقلم والبقاء. وعلى رغم أن الطلبة التي تم تدريبهم في الكلية تقلدوا مسؤوليات رفيعة، وأنتجوا أفلاماً وحصلوا على جوائز، ولكن الثقافة الرسمية وموسسة التعليم الموجودة في العراق بمعناها الواسع لا تبدو مهتمة بما نقوم به من تدريب وتأهيل الشباب، وتقديم الخبرات السينمائية الحديثة وبشكل مجاني. كنا ببساطة نُصنف ضمن مجموعة الغرباء الذين جاؤوا للعراق من أجل الكسب المادي ثم الرحيل بعد ذلك.
تجربتي بعد العودة من جديد للمنفى أثارت في نفسي العديد من الأسئلة مثل: هل أنا عراقي يعيش في بريطانيا أم بريطاني وُلِّدَ في بلد بائس اسمه العراق؟ ولماذا لا أستطيع أن أنسى العراق على الرغم أني لم أعش به سوى ثلث حياتي؟ لماذا أنا قلق دائماً، ولا أستطيع الاستقرار.. وأعيش بين عالميين؟ أحدهما يجلب لي كل يوم الذكريات الصعبة والحنين وقصص طافحه بالكوابيس، والعالم الآخر يمنحني الحرية والعمل ومكان للعيش؟ وكنت أتساءل لأي وطن أنتمي الآن…؟ الوطن القديم أم الوطن الجديد.. وأي أرض أشعر بها كوطن فعليّ؟ وما معنى الوطن..؟ هل هو المكان الذي تولد فيه أم المكان الذي تشعر فيه بالأمان وتعيش فيه بكرامة.
هذه الأسئلة وغيرها كانت تدور برأسي، وكنت أتحدث بها مع أصدقائي الفنانين، وأستمع وأدون قصص عودتهم “العظيمة” للعراق، وخيبة الأمل المثيلة لخيبة أملي، وكيف ينظرون إلى وطنهم القديم الآن، بعد العيش أربعة عقود من الزمن خارجه. وأين هو هذا “الوطن” بعد كل سنوات البعد والتشتت. هذه الأفكار وغيرها هي التي دفعتني للدخول في المغامرة الجديدة، مغامرة “مرايا الشتات” والمهجر العراقي.

ما بين الفيلمين زمن يقارب الثلاثين عاماً.. كيف تصف العلاقة بين العملين؟
الفيلمان يُكملان بعضهما البعض، وهناك عناصر مشتركة بينهما كالإحساس بالاغتراب، الحنين للوطن، الهوية، التاريخ، السياسة، الديكتاتورية والحرب، ولكن في نفس الوقت هناك عناصر مختلفة، في فيلمي “وسط حقول الذرة الغريبة” (1990) حاولت توثيق حياة وعمل الفنانين العراقيين السبعة، وقد تحدثوا في الفيلم عن الظروف التي دفعتهم لمغادرة العراق، عن نضالهم اليومي من أجل البقاء مادياً وروحياً في المنفى، وعن الحرب وآثارها المدمرة على الشعب العراقي.
أما فيلم “مرايا الشتات” (2018) فهو أشبه برحلة ذاتية في بعض جوانب حياة الفنانين السبعة، وخلال أربعة عقود من التحديات والفشل والنجاحات، سواء على مستوى عملهم الإبداعي أو في حياتهم الخاصة، ومنذ أن كانوا خريجين جدد من مدارسهم الفنيّة في إيطاليا، والعمل كرساميين في ساحات روما وفلورنسا، حتى أصبحوا فنانين معروفين في الغرب.
أسلوب الفيلم الأول تقريري، أقرب إلى الصحافة التلفزيونية، ويطغي عليه الخطاب السياسي، هو أشبه بصرخة احتجاج وإدانة للنظام الدكتاتوري بكل مفاصله والحلم بالعودة بعد زوال هذا النظام. أسلوب الفيلم الثاني سردي، يروي قصص ما بين الحاضر والماضي، الخاص والعام، الخارج والداخل، الذاكرة والنسيان، الوطن والمنفى، الهوية والانتماء، الغياب والحضور.. إلخ. ولكن السؤال الأهم الذي يتمحور حوله الفيلم: ماذا يعني أن تقضي معظم حياتك في المنفى؟ وهذا يفتح باباً للحوار مع الذين اضطروا إلى الابتعاد عن جذورهم الأصلية لأسباب خارجة عن إرادتهم، على أمل أن هذا تم سرده في حكايات وتجارب تمسّ روح ووجدان المشاهد.

اختلفت الأمكنة والشخصيات في الفيلمين، فعلى سبيل المثال، في زمن تصوير فلمي “وسط حقول الذرة الغريبة”، كانت الفنانة عفيفة لعيبي تعيش مع ابنها آذار – والذي كان في السابعة من عمره – في مدينة فلورنسا الإيطالية. كانت تأخذه صباحاً للمدرسة الابتدائية في المدينة الإيطالية. اليوم، “آذار” نحات شاب، ويُحاضر في كلية للفنون في بلجيكا. حياة عفيفة تغيرت بشكل كبير بعد أن تركت إيطاليا، وحصولها على اللجوء السياسي في هولندا، ولقائها بزوجها الثاني البروفسور الهولندي “شورد” بعد قصة حب مثيرة. ولكن بسبب هذا الزواج، تعرضت عفيفة للعديد من المشاكل مع أهلها في مدينة البصرة، لأن زوجها الهولندي غير مسلم.
مثال آخر: في عام 1990، صورت الفنان كاظم الداخل في محطة قطار مدينة فلورنسا، وهو ينتظر القطار الذاهب إلى مدينة مالمو في السويد، للتقديم على اللجوء السياسي هناك. وبعد فترة قصيرة استلمت من كاظم بوست كارت يقول فيه: “عزيزي قاسم آنا الآن في مالمو.. تَصوَّر “كاظم الداخل” في “مالمو”، ولكن القصة لم تنتهي بعد، ما زلت قلقاً، أنتظر المقابلة الثانية مع الشرطة السويدية، وبعد ذلك سيكون كل شيئاً واضحاً. أما أن يسمحوا لي بالبقاء أو يرجعوني إلى فلورنسا، ومرة أخرى أبدأ بالعمل في الساحات كرسام للسياح والأجانب، لقد تعبت من كسب العيش بهذه الطريقة المُذلة”.
كاظم الآن هو أب لبنت شابه اسمها عشتار، تعمل كمصممة غرافيك، وولدين اسمهما: “أنو” و”تموز”، يدرسان في كلية الطب. كل أسماء أبناء كاظم هي من أسماء حضارة وادي الرافدين القديمة.
وباختصار شديد، كنا في الفيلم الأول نَحمّل حلم العودة إلى العراق.. في الفيلم الثاني، اختفى هذا الحلم نهائياً، وتحول العراق إلى عراق الذاكرة وعراق الواقع المرّ.

هل كنت تملك خططاً واضحة منذ البداية عن حصة مشاهد فيلمك السابق “وسط حقول الذرة” من فيلمك “مرايا الشتات”، ام أن بناء الفيلم الأخير تشَّكل أثناء عمليات المونتاج؟
الفيلم الوثائقي كقصة وأحداث يتعامل مع الحياة وتفاصيل الحياة بطريقة تختلف عن الفيلم الروائي، وغالبا يكون السيناريو في الفيلم الوثائقي هو تصور وتخطيط لمشاهد الفيلم التي تتضمن رؤيا المخرج، هذه الرؤيا التي تتكون أثناء مرحلة جمع المعلومات عن القصة والشخصيات.
ولكن البناء الحقيقي للفيلم يبدأ على طاولة المونتاج، إذ تكون كمخرج أمام كم من الشخصيات والمقابلات ومشاهد مرئية وأحداثاً رئيسية وثانوية وموسيقى وموثرات وغيرها من وسائل التعبير البصرية والسمعية. وعليك كسينمائي أن تعرف كيف تطور موضوع القصة من خلال الزمن المحدد، وكيف تظهر الشخصيات المهمة في الفيلم، ومتى يبدأ الصراع، الأحداث، المقابلات المهمة. وكيف سينتهي الفيلم وبماذا سينتهي؟ وما المعنى الذي تريده أن يبقى في ذهن المشاهد؟
ولعل أحد جوانب سحر السينما الوثائقية هو أنك حرّ في التغيير والتجريب المستمر لأساليب السرد أثناء المونتاج للوصول إلى البناء النهائي والمشاعر الصادقة. وفيما يخص استخدام بعض اللقطات من فيلمي القديم في فيلمي الجديد، أولاً كان عليّ أن أحافظ على هوية واستقلالية فيلمي الجديد، وأن آخذ بعض اللقطات ذات الطابع البصري لدعم البناء الفيلمي في الانتقال ما بين الحاضر والماضي على مدى العقود الثلاث الماضية من حياتنا، ونقل التغييرات الكبيرة في ملامح الحياة والشخصيات والأمكنة.

الفيلم قاتم كثيراً، بسبب ما يظهره من يأس فنانين مبدعين من مستقبل البلد الذي أتوا منه، هل تتفق معي أن هذه كانت التيمة الأهم في أحاديث الفنانين معك؟
أعرف هؤلاء الفنانين منذ منتصف السبعينيات، نحن من جيل واحد، وهو الجيل الذي عاصر التحولات السياسية والاجتماعية في العراق والعالم أجمع على مدى نصف قرن، والجيل الذي تأثر بالثقافة الأوروبية والحداثة، وكان يبحث في كل حياته عن التجديد والجمال في الفن والحياة. نحن في الوقت نفسه جيلاً عانى من العزل والمطاردة والتهميش المستمر.
ما تقوله صحيح، من أن الفيلم قاتم في بعض جوانبه، وأشبه بمرثية لجيل في طريقه للانقراض، لأن كل ما حولنا مُحزن ويدعو للإحباط والغضب، ولكن في الوقت نفسه، كل ما حولنا يدعونا للمقاومة من أجل الحياة والبقاء. أن الكم الهائل من النتاج الإبداعي الذي يظهر في الفيلم هو في النهاية انتصاراً للجمال.. انتصاراً للفن الطليعي العراقي.. انتصاراً للحداثة العراقية.. انتصاراً للذاكرة البصرية العراقية.. انتصاراً للحياة.. انتصاراً للأمل..
وعلى رغم من تركيز الفيلم على مجموعة من الفنانين العراقيين الذين يعشون في الشتات، إلا أنه يعكس التحديات التي يواجهها الفنانون المهاجرون في كل بقاع الارض. الأفكار والقصص والتجارب الشخصية لهؤلاء الفنانين العراقيين السبعة خلال أربعين عاماً من وجودهم في المنفى، هي أفكار تمسّ حياة ومعنى وجود كل المنفيين الذين اقتلعوا من جذورهم، وأجبروا على العيش في مكان آخر كوطن بديل. والغريب في هذا الزمن الرديء، أن وطنك يجعلك تشعر بالنفي والاستلاب، ويقتل في داخلك روح المواطنة، بينما المنفى كفضاء يمنحك الحياة، ويجعلك تعيّ معنى المواطنة.