السعيدي: “وليلي” إنذار للمجتمع المغربي

ندى الأزهري- باريس

يحكي الفيلم عن أناس عاديين وبسطاء جدا يجدون أنفسهم في وضع استثنائي يتجاوزهم ويدمّر حياتهم.

 قصة حبّ جارفة بين عبد القادر الذي يعمل حارسا في مركز تجاري ومليكة التي تخدم عائلة ثرية، لكن هذا الحب الذي يتوج بالزواج لن يعني النهاية السعيدة لأبطاله. فهناك ما ينتظر هذا الزوجان في مجتمع يقضي على كل أحلامهما البريئة والبسيطة حين يتعرض الزوج لإهانة عنيفة تقلب حياتهما بل تدمرها. هناك نوع من التراجيديا الإغريقية في “وليلي” فيلم المخرج المغربي فوزي بن السعيدي الرابع.
عرض الفيلم في معهد العالم العربي بباريس ضمن تظاهرة “نوافذ سينمائية” التي تنظمها بانوراما سينما المغرب والشرق الأوسط ومن المقرر أن يعرض في الصالات الفرنسية في الخريف القادم.
في يوم باريسي مشمس، على غير العادة، التقيت المخرج المغربي فوزي بن السعيدي بمناسبة عرض فيلمه.

– يثير عنوان الفيلم “وليلي” الفضول، هل لك أن توضح علاقة هذه المدينة الأثرية بمضمون الفيلم ولاسيما هذا المشهد بين الزوجين وهما يتنزهان بين الآثار.

ثمة مجموعة من الأسباب دعت لاختيار هذا العنوان. يحكي الفيلم عن أناس عاديين وبسطاء جدا يجدون أنفسهم في وضع استثنائي يتجاوزهم ويدمّر حياتهم. بالنسبة لي، هي شخصيات تصل عند مرورها بهذه المدينة الأثرية “وليلي” إلى أبعاد تراجيدية ستطرأ في القصة والبناء الدرامي. إنها اللحظة الأخيرة من السعادة، لحظة محورية ففي اليوم التالي ستنقلب حياتهم وسيحكمها مصير تراجيدي. سعادتهما صعبة إنما موجودة كذلك حبهما وما تقوله مليكة في هذا المشهد بشكل خاص يعتبر نبوءة من تلك التي تتواجد لدى الشخصيات التراجيدية. ثمة إحساس غريزي بالعاصفة القادمة، تقول مليكة “الكل يخاف من الكل ولا يمكننا العيش سوية بسلام…”، حوارٌ يبدأ عاديا حول الخوف فتقول لعبد القادر” أنا كبرت داخل الخوف”. ثم تسرد هذا الخوف اليومي العادي الذي يعرفه الجميع وحين يرد زوجها بأنه لا يخاف تعلّق “ولكنك تخاف الله”. لا أفرض على الشخصيات هذا الحوار الذي يحمل في طياته بعدا مأساويا فهو متسق مع تكوينها ومع المحيط الذي اخترته بتفاصيله حتى هذه الفسيفساء الرومانية ليناسب ما يقال. كذلك حين في لحظة حميمية للحبيبين داخل الآثار يعبر سائحون ويصورون السلفي كان هذا مقصود كذلك.

– كل شيء في المشهد مقصود حتى مرور السائحين مع السيلفي؟

نعم يبدون بأجهزتهم كجنود رومان! هو مشهد لو نظرنا إليه بعمق لبدت النظرة للعولمة وللسياحة المعولمة واضحة فيه. لا شيء في الفيلم يأتي بالصدفة أو مجانيا. ثمة معنى آخر للعنوان، “وليلي” اسم نبتة الدفلى الجميلة ذات الطعم المرّ، والفيلم مبني على الأشياء الجميلة والعنيفة. هناك مثل مغربي يقول “الزين في الدفلة والدفلة حارة”، ثمة إيحاء بالوهم هنا أيضا وكيف يجرفك الواقع في نهاية المطاف. توهم عبد القادر أن عمله يحوله نحو عالم الحاكمين، وتوهمت مليكة أنها ستصير صديقة لالا (سيدتها)…  الفيلم بطبيعة الحال عن نهاية عالم وبزوغ آخر جديد، مثل حضارة “وليلي” المندثرة أمام العولمة الليبرالية المتوحشة وسطوة المال الذي يغزو الحميمي ويُدخل الانسان في عالم لا إنساني. يبدو هذا خاصة في حكاية التليفون، حيث تُصوَّرُ آلام الآخر ويتم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي وتصبح تلك الإهانة وآلام الفقراء والضعفاء نكتة يضحك منها الأقوياء. إنه عالم جديد يبزغ مخيف ومريب والعنوان يحيل على شيء من هذا القبيل.

يدور الفيلم حول  قصة حبّ جارفة بين عبد القادر الذي يعمل حارسا في مركز تجاري ومليكة التي تخدم عائلة ثرية.

– بدا تصوير الرجل المسيطر لإهانته للرجل البسيط وعرضه الصور على رفاقه في حفل باذخ، غير مقنع تماما، فهذا عمل يقوم به “صغار” في المقام وليس رجل على مثل هذه المكانة والسلطة.

 المشهد فيه فكرة أن هذا الزوج المخدوع والمهمل من زوجته، يريد قطع رأس الضحية عبد القادر وتقديمها قربانا لها ليتقرب منها. إنه زوج ضعيف أمامها، ومن هنا يبرز تعقيد الشخصية فمن ناحية كان بمقدوره القضاء على ضحيته وحتى على عشيق زوجته ولكنه لا يفعل. هؤلاء أناس يكرهون بعضهم البعض ولكنهم يتابعون العيش معا.

-الفيلم مبني على صراع الطبقات، كيف بدأ مشروعه؟

 لا مفر في العالم الذي نعيش فيه اليوم من مواجهة عودة صراع الطبقات. لا مهرب! لقد اتسعت الهوة على نحو لا مثيل له سواء في المغرب أم في العالم العربي وحتى هنا في فرنسا. سينتهي هذا إلى صراع رهيب. أفكار كهذه كانت تدور في خلدي وولد الفيلم منها، فالأغنياء باتوا أكثر أغنى والفقراء أفقر من أي زمان. لقد انتشرت في المغرب مهنة الحارس هذه جدا، حتى في المراكز التجارية الصغيرة التي تتكاثر أيضا فثمة شعور أننا متأخرون وعلينا تدارك التأخير وبناء المزيد والمزيد من هذه المراكز. نحن ندخل بشكل متسارع في مجتمع استهلاكي. وشخصية عبد القادر تضع الفيلم داخل “معابد” الاستهلاك والتمويل العالمي. كل تفاصيل الفيلم تدور حول هذا.

– اخترت الأسلوب الكلاسيكي في السرد أي بداية وتصاعد للأحداث للوصول إلى الذروة فالحسم.

 حاولت الاشتغال على الشكل الكلاسيكي في جانبه الجميل والسلس إنما على نحو حداثي، فالفيلم لا يخشى ترك هذا الطريق ليأخذ طرقا جانبية أصنعها عن وعي. ثمة مشاهد بدت كأنها تسربت من الخط العام وبدا الوقت فيها وكأنه قد توقف. مثل مشهد تناول الحبيبين للعصير وتمرير الشراقة بينهما.

– في هذا المشهد كما في العديد غيره ثمة حسية عالية لجأت إليها…
 (مبتسما)، كلمة في مكانها! إنها مغازلة مني للميلودراما العربية. ليست رجوعا ولكن مغازلة فقط. أصور العلاقة بين شخصياتي على نحو جميل وحسي وأخرجها في مشاهد مشحونة بالحسية من هذا الجانب الطهراني المتداول حاليا.

المخرج المغربي فوزي بن سعيدي.

– أهي مغازلة أيضا للجمهور؟
 لم تكن الحسية هنا اختيارا مسبقا وموجها. حين نصنع فيلما فيه شخصيات أساسية تحاول الاقتراب من نقاء الكلاسيك لكنها مرتبطة بأشياء حداثية يعيشها الناس، يتم التركيز على الممثلين وعلى اللقطات المقربة والرجوع إلى الموسيقى العربية والخيال العاطفي العربي… ما يمكن له أن يصنع فيلما أكثر انفتاحا على الجمهور، ربما سنرى. لا نعرف رد فعل الجمهور بعد!

– وجدت أن اللقطات المقربة أكثر تركيزا على الفقراء، أتذكر جيدا وجه مليكة وعبد القادر ولكن ليس بقية الشخصيات الغنية…هل قصّدت هذا؟

يتخذ الفيلم موقعا صريحا جدا داخل هذا الصراع فهو إلى جانب الضعفاء ومن تخلت عنهم الحياة. حتى في اختياري للممثلين بدا هذا واضحا. وجّه لي أحدهم ملاحظة رهيبة جدا بأن “مليكة الفقيرة جميلة جدا”! كأن ليس للفقراء حق بهذا الجمال. صدمت حقا بهذه الجملة النقدية التي تخرج بدون تفكير. كأن عبد القادر أيضا غير قادر على الرقة والحب الرومانسي.

– هل تقصدت أن تكون الشخصية الرئيسية مليكة (نادية كوندا) على هذا القدر من الجمال؟
ثمة اختيارات واعية وأخرى لا! كان على مليكة أن تكون جميلة كوردة وأن يتحلى عبد القادر بجمال ذكوري. إنه اختيار واضح فهناك عواطف وحب يعتمل في أجواء من حرمان مادي شديد.

– قرأت نقدا للطاهر بن جلون يأسف لكونك شديد الالتصاق بالواقع في هذا الفيلم فيما على الفن “أن يتجاوز الواقع”، وأن “الاستعارة أفضل من إعادة إنتاج الفقر المادي والنفسي”، ما قولك؟
 لا أؤمن بهذا، لكن النقد حر بطبيعة الحال. إحساسي بالفيلم أنه واقعي بأحداثه، إنما سينمائيا هو ليس كذلك. بمعنى أن ما يحكي عنه ملتصق بالواقع وحقيقته، لكن بعده السينمائي المتمثل في الإخراج يشكّل قصيدة عاطفية وشاعرية ليست ملتصقة على الإطلاق بالواقع. تحضرني شخصيات ومشاهد منها مثلا الشخصية المتسلطة والمتنفذة في الفيلم (يؤديها بن سعيدي) ومشهد العصير وتناول الطعام وإحراق الجسد، والمشهد المصور في موقع “وليلي”…كل هذا ليس واقعيا بأسلوب إخراجه وتصويره، وحين أصور المركز التجاري يوم الأحد وجلوسهما على السرير فلا شيء من الواقعية في هذا المشهد ولا في مشهد الراقصات اللواتي يظهرن بشكل مدروس وإيقاعي… الواقعية تتجسد بما يسرده الفيلم وليس بالكيفية التي يتم بها السرد.
لم أرد الدخول في جدل ونقاش مع القائل الذي يطلب أن أكون أكثر رمزية وأقل واقعية. ثمة رمزية تُصنّف تحت مفهوم “الجبن”! كيف تطلب مني أن أكون رحيما ومتفهما حين نحكي عن البنوك مثلا! عن عالم من هذا القبيل! إنه يحكي عن هذه الطبقة وأحسّ أنه مهدد! يحكي من موقع معين.

– لكني بالفعل شعرت بثورة في الفيلم على هذه الطبقة الغنية وبدت لي مقرفة حقا! 
 ولكن كيف يمكن لنا ألا نشعر بالثورة؟! اليوم حين يُطرد مئات الألاف من أعمالهم ويجدون أنفسهم في موقع أبطال الفيلم. هناك وضع اقتصادي يدمّرُ الحب والعائلة، هذا أمر واقع. ثمة لحظة في التاريخ عليك أن تأخذ فيها مسؤوليتك كفنان، أما اللجوء إلى الرمزية في موقف كهذا فهو الجبن بعينه!

الفيلم من بطولة محسن مالزي ونادية كوندا،

–  في الفيلم إنذار للمجتمع المغربي بشيء من المباشرة.
تماما وإلى هذه الطبقة على الأخص. ثمة إمكانية للعيش بسلام وهذا من مصلحتها، كل المطلوب اقتسام عادل للثروات ليحتفظ الإنسان بكرامته. الفيلم يطالب بالكرامة لطبقة معينة، إذ حين تشتغل ولا تستطيع نيل شيء فماذا يسمى هذا؟ بعد ذلك يأتي الطاهر بن جلون ويحدثك عن الرمزية! يجب أن تكون أعمى كي لا ترى العنف قادما!
على كل ليست شخصياتي حتى الغنية، شريرة أو خيرة بالمطلق. مثلا شخصية لالا (تؤديها زوجة المخرج نزهة رحيل) والأسى الذي تعيشه بسبب هجر زوجها لها. أنا حساس تجاه هذه الشخصية فهي كانت مخلصة تجاه مليكة وبالحديث معها يوما، إنما حين تجد نفسها ضمن أناس من طبقتها فهي ترميها، والصديق الفقير يحكي عن استحالة قصة حب مع فتاة من طبقة غنية واستحالة التواصل والسلام بين هاتين الطبقتين… الفيلم يقول إن هذا ممكن لو حصل نوع من التشارك.

– أشرتَ إلى أسلوبك الإخراجي لقصة تقليدية واقعية، نريد معرفة المزيد عن طريقة عملك مثلا تقيدك بالسيناريو، عن النواحي التقنية من تصوير وتوليف…

 أتعامل بحرية مع السيناريو وأعتقد أن أفلامي هي مزج بين أشياء دقيقة جدا. التوليف أو التقطيع على سبيل المثال له علاقة بالرياضيات وأتعامل معه على هذا الأساس أي بدقة كاملة. الفيلم مقطّع في ذهني بطريقة دقيقة تماما. لا أنوّع في المشاهد ولا أصور من كل الزوايا، حين أبدأ بالتصوير فالفيلم جاهز في راسي! لا يعني هذا عدم انفتاحي على ما يمكن أن يقع أثناء التصوير، ما يمكن أن تهبه لنا الحياة كهدايا غير متوقعة، لذلك لا أنجز برنامجا بحذافيره ولست منغلقا على ما تأتي به الحياة والسماء وموقع التصوير… غيرت في نهاية هذا الفيلم وكتبت بعض المشاهد يومين قبل التصوير وأردت إظهار لالا في مشهد مع زوجها لنتفهم أكثر سبب كآبتها وعلاقتها مع زوجها ومع مليكة. أنا متعاطف مع هذه الشخصية وأيضا مع شخصيتي في الفيلم لأنها تعيش أحزانا فظيعة، إنه رجل لديه السلطة لكنه مدمر تماما بسبب علاقته مع زوجته. ليس ممكنا الوصول إلى هذا الغنى دون التضحية بشيء ما.

– يبدو تعاطفك هذا في الفيلم من خلال أدائك وتعاملك مع الشخصية.
– اتهامي بالهجوم على الأغنياء ليس صحيحا. أجدهم شخصيات مركبة وأتعامل معهم على هذا الأساس. في المنظومة الأخلاقية لعبد القادر فإن الغني رجل فاقد للحياة، لقد تعاطف مع جلاده حين أطّلع على علاقته مع زوجته وبعد أن أدرك المأساة النفسية التي يعيش فيها.

– تحب التمثيل في أفلامك وأفلام الآخرين، مؤخرا ظهرت في فيلم الجزائرية صوفيا جمعة “السعداء” وقبلها في فيلم الفرنسي جاك أوديار “ديبان”. أتحب التمثيل أم أن هذا نوع من البقاء في عالم السينما بين فيلم وآخر؟
– أجد متعة في التمثيل، إنما لا ولن أمثل في كل أفلامي! حين بدأت العمل في السينما كنت أعمل في المسرح. أنا جزء من فريق التمثيل وكذلك زوجتي وأميل للعمل مع نفس الفريق، في هذا نوع من الرجوع للأصل. في الحياة كذلك نحن أصدقاء. الإخراج مهنة القرن العشرين ومن قبل لم يكن هناك مخرجين، بل “حرفيين” أو ما يسمى بالفنان الشامل، أحب هذا فحين أمثل وأخرج وأكتب أرجع إلى مفهوم “الفنان الحرفي”.

– ماذا يفعل المخرجون بين فيلم وآخر؟ أنت على سبيل المثال آخر فيلم أخرجته كان ” موت للبيع” في 2011

 مررت بفترة خاصة جدا. أصبح عندي ولدين وأخذت وقتا في مشروع سيناريو لم أستطع أن أجد تمويلا له. عملت كذلك على مشروع تجريبي مختلف، مما خلق لي مشكلة… كل هذا استغرق وقتا. أمثل في أفلام الآخرين كما فعلت في السنوات الأخيرة وهذا لمتعتي الخاصة كما أني رجعت للمسرح ودرّست السينما لأول مرة، وأنا أميل إلى هذا النوع من العطاء والاهتمام بالشباب…

– وما رأيك بالسينما المغربية حاليا؟
 أظن أننا في فترة جيدة. ثمة نظام دعم قليل وجود مثله في العالم العربي، وهناك المركز السينمائي المغربي والتلفزيونات التي تقدم الدعم كما توجد مدارس سينما… في مراكش تتوفر مدرسة تعطي منحا للطلاب واعتبرت واحدة من أفضل عشرة مدارس سينمائية في العالم. هناك شباب على وشك الظهور…كل هذا جيد. هناك مشاكل أيضا! ثم (ضاحكا) لكن، لنكن متمسكين بالأمل!

 

 


إعلان