كريم صياد: نحب الجزائر لكنها عنيفة معنا
حاوره: محمد موسى
عوالم هامشية غير معروفة كثيراً تلك التي يكشف عنها الفيلم التسجيلي الطويل “كباش ورجال”، للمخرج السويسري الجزائري الشاب كريم صياد، حيث يرافق الفيلم جزائريين يتبارون بكباشهم في مباريات مصارعة عنيفة تجذب جمهورا كبيرا أحيانا. يركز الفيلم على شخصيتين آتيتين من أحياء فقيرة من العاصمة الجزائرية، ويتقرب منها، ويلتقط تفاصيل مهمة عديدة من حياتهما اليومية، وعلاقتهما المعقدة مع أكباشهما، حيث أنهما يقضيان أوقاتا طويلة في تربيتها والاعتناء بها، ثم يجعلوها تتقاتل بوحشية.
والحال أن مباريات القتال بين الأكباش، ستكون المدخل ونقطة الانطلاق للفيلم لمقاربة قضايا أكثر عمومية وآنية، ذلك أن العمل سيهتم بهواجس شخصياته، والعالم المضطرب المهدد الذي تعيش فيه. تطفو على السطح في الفيلم قضايا تشغل المجتمع الجزائري منذ عقود، مثل العلاقة مع تركات الماضي القريب القاسية (عنف العشرية السوداء)، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وهاجس الهجرة والهرب من البلد.
لا يطرح المخرج الشاب أسئلة على شخصياته، ويكتفي بمراقبتها. كما يخصص الفيلم مساحة للمحيط الذي تعيش فيه الشخصيات، عبر المشهديات غير المألوفة التي يصورها لهذا المحيط. عُرض الفيلم في دورة العام الماضي من مهرجان تورنتو السينمائي، وبعدها في مهرجان الجونة في مصر، وفي الدورة الأخيرة لمهرجان سولوتورن السينمائي في سويسرا، والذي حصل فيه على جائزة.

عن هذا الفيلم، هذا لقاء مع المخرج كريم صياد:
كيف بدأت قصة هذه الفيلم؟ هل كانت لك علاقة مُسبقة مع الشخصيتين الرئيستين: حبيب وسمير؟
وُلدت وعشت في سويسرا، لكني كنت أذهب الى الجزائر في العطلات. لا أتذكر التاريخ بالضبط، لكني أظن أنه كان في عام 2010، وبينما كنت أتمشى مع أبناء عمي في الجزائر العاصمة، شاهدت شابا يسير في الشارع ومعه كبشا. كان شَكْل الشاب يُشبه رجال العصابات. حيث كان يرتدي قبعة وثيابا تشبه ما يلبسه مغنو الهب هوب الأمريكيون. أحببت أن أعرف المزيد عن ذلك الشاب. سألت أبناء عمي عن الموضوع، وبعدها تحدثت مع الشاب شخصيا، وهو أخبرني عن مباريات القتال التي يتم تنظيمها بين الكباش في الجزائر. بعدها بدأت أبحث على شبكة الإنترنت عن هذه المباريات. اكتشفت عندها أن الأخيرة تشكل ظاهرة كبيرة في الجزائر. وأن البعض الذي يتبارى فيها بكباشه لديه أكثر من مائة ألف متابع على مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت. بدأت حينها أكتشف عالما جديدا لم أكن أعرفه.
لم يكن لديّ اهتمام كبير بمباريات مصارعة الكباش ذاتها، لكني اعتقدت حينها أن هذه المباريات ستكون مدخلا ممتازا للحديث عن المجتمع الجزائري بطريقة غير مباشرة. كما أن الكبش له قدرة كبيرة لكي يكون مصدرا للتأويل والترميز. الكبش له تاريخ طويل في ثقافات وديانات عديدة، سواء في الديانات المسيحية، اليهودية، والإسلام. والكبش له مكانة في تقاليد أبناء المغرب العربي في حقبة ما قبل دين الإسلام، وهناك رسومات تُوثق ذلك.
كيف وصلت إذن إلى حبيب وسمير؟
بدأت العمل على هذا الفيلم من مكان إقامتي في سويسرا، حيث كنت أبحث وأجمع معلومات عن مباريات مصارعة الكباش عن طريق الفيسبوك. وبعد ذلك انتقيت بعض الشخصيات التي كنت أصادفها على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي كانت تعجبني نشاطها. ثم شرعت بالاتصال بها.
ذهبت بعدها إلى الجزائر للتقرب أكثر من الذين تعرفت عليهم على الإنترنت. في الجزائر، قابلت بعض الشخصيات، وقضينا شهر ونصف تقريبا ونحن نتكلم حول المشروع، وقبل أن نبدأ بالتصوير الفعلي. كنت أشتغل حينها مع مساعد مخرج جزائري أُسمه أمين كباس. كنا نلتقي مع أناس من أحياء مختلفة من الجزائر العاصمة، دون أن نعرف كيف ستكون وجهة الفيلم.
عندما اجتمعت بسمير وحبيب في الجزائر شعرت بشيء لا يمكن تعريفه بسهوله، أحببتهما وأحسست أني أريد أن أعمل معهما. كنت أخطط أن أعثر على شخصيتين من جيلين عمريين مختلفين. واحدة من الجيل الذي عاش سنوات العنف في التسعينيات من القرن الماضي (العشرية السوداء). والأخرى ولدت بعد سنوات العنف تلك. وهذا ما تحقق. عندما التقينا سويا، أحببنا رفقة بعضنا، واتفقنا على أن نعمل هذا الفيلم معا.

أي من الشخصيتين كانت أسهل في التعامل، لجهة الحوار معها وتتبع حياتها؟
حبيب كان أسهل كثيراً من سمير. وهذا كان واضحاً في الفيلم. حبيب فتى لا يتجاوز عمره السادسة عشر، وكان مُقتنعا تماما بمشروع الفيلم منذ البداية. كان يريد أن يخبر قصته عبر الفيلم. وهو استفاد من تجربة تصوير العمل التي طالت لشهرين، حيث اعتبر العمل فيه تجربة إنسانية مُختلفة في حياته.
أما مع سمير فكان الوضع مُختلفا كثيرا، إذ أنه كان يعيش في حيّ يتسم بالصعوبة على الصعيد الاجتماعي. حيّ فقير للغاية. سمير يعيش في منزل صغير كثيرا لا تتجاوز مساحته العشر أمتار مربعة، والذي يتشارك العيش فيه مع طفليه وزوجته. سمير كان مترددا، فهو من جهة كان يرى في الفيلم فرصة لكي يحصل على بعض النقود والدعاية لما يقوم به، ومن الجهة الأخرى كان خائفا من أن الفيلم سيظهره بطريقة سيئة. كان التعامل صعبا مع سمير في بداية المشروع، لكن مع مرور الوقت والثقة التي بنيناها سويا، أظن أننا نجحنا في أن نكون قريبين من بعضنا، بل أصبحنا أصدقاء مع نهاية تصوير الفيلم.
فيلمك ينتمي لصنف من الأفلام التسجيلية غير شائع في العالم العربي، وأقصد سينما المراقبة الخالصة، ولعلك واجهت صعوبات وأنت تشرح ما تنوي فعله لشخصياتك. هل لك أن تستعيد معنا تفاصيل يوم عمل كامل في الفيلم؟
عندما كنا ننوي تصوير سمير، كنت أذهب الى الحيّ الذي يسكنه في الساعة العاشرة صباحا، ونبقى هناك أحيانا الى العاشرة مساءً. كنا في خلال الاثنتي عشر ساعة هناك، نصور ما مجموعه ثلاث ساعات فقط. باقي الوقت كنا نعيشه مع أهل الحي، لأننا أردنا أن تعرف الناس هناك أننا معهم لفترات طويلة، وأننا لا نضحك عليهم أو نسرق صورتهم، أو بأننا نأتي للتصوير لساعات ثم نتركهم بعد ذلك. هذا التفصيل كان مُهما كثيرا بأن نبني علاقات خاصة مع أبناء الحي وشخصيات الفيلم.
واجهتنا مشاكل بالطبع تتعلق بطبيعة فهم الناس في الأحياء التي صورنا فيها في الجزائر لمفهوم الفيلم الوثائقي الطويل (وهذا أمر لا تختلف به الجزائر عن الكثير من الدول العربية). معظم الناس هناك، أما تشاهد أفلام هوليودية، أو أفلام وثائقية تلفزيونية.
في اليوم الأول من التصوير في منطقة باب الواد، كان الناس يعتقدون أننا سنأتي ونصورهم لنصف ساعة فقط وبعدها نذهب، ثم ينتظرون بعدها لليوم التالي ليشاهدوا أنفسهم على شاشة التلفزيون. هذه الفكرة عن الفيلم التسجيلي آتية من التحقيق التلفزيوني السريع. كنت أخبر بعض الناس أن عليهم أن يمثلوا حياتهم، أي بمعنى أنهم ممثلين بطريقة مختلفة. مع الوقت ولدت ثقة بيننا وبين الناس هناك، وبدأوا ينسون وجودنا.
من المشاكل التي واجهتنا وجود عدد كبير من الأطفال في الأحياء الشعبية التي صورنا فيها، والذين كانوا يلاحقوننا وينظرون دائماً إلى الكاميرا، وهذا كان يفسد بعض الكوادر السينمائية التي اشتغلنا عليها. بعد أسبوع من العمل، وبعد أن فهم الناس طبيعة ما نقوم به، صار بعض الأطفال يخبرون أطفالا آخرين لا يعرفون بالمشروع بعد بأن عليهم أن لا ينظروا مباشرة إلى الكاميرا. بذلنا كفريق للفيلم جهودا كبيرة لبناء ثقة مع الناس الذين قمنا بتصويرهم، وعندما تحققت هذه الثقة، كان وجودنا بينهم من أفضل التجارب التي عشناها أثناء إنجاز هذا الفيلم.

يُبرز الفيلم تناقضاً في سلوك شخصياته، فهم من جهة يحبون كباشهم لدرجات كبيرة، حتى أن حبيب قال في الفيلم، بأنه سيهرب من البيت إذا ذبح أبوه كبشه، ومن الجهة الأخرى هم قاسون مع كباشهم، لأنهم يضعونها في مباريات قتال عنيفة، كيف تفسر هذا السلوك؟
هذا الذي قلته يُمثل قلب مشروع الفيلم، وما رغبت أن يصل الى الجمهور.علاقة التناقض في الفيلم هي تشبه علاقتي ببلادي الجزائر. الكثير من الجزائريين يملكون علاقة مُعقدة مع بلدهم، فهم يحبون هذا البلد، لكن هناك عنف وقسوة يطبعان هذه العلاقة. نحن نحب الجزائر لكن البلد عنيف معنا. وا��مجتمع فيه عنفاً داخلياً. لم أرغب مع هذا الفيلم أن أقدم أجوبة، بل أحببت أن يدفع العمل مشاهديه للتفكير بهذه الموضوعات.
عشنا حرب أهلية قاسية وطويلة. أردت ان أسأل عبر الفيلم عن الذي تعلمناه من هذه التجربة. سمير مُدمَّر في حياته. هو يقول لك أن حِلَم حياته الباقي، هو أن يرى أبناءه يعيشون حياة أفضل من التي عاشها. أما حبيب، فرغم أنه لم يعش العشرية السوداء، الا أنه مثل سمير لا يملك مستقبلاً جيداً. هما يحبان الكباش لدرجات كبيرة، وفي نفس الوقت هناك شيئاً عنيفاً في تعاملهم مع كباشهم. سمير يقول في نهاية الفيلم: “نحن مخلوعون، حتى الآن نحن مخلوعون”. للتعامل في هذا الخلع، يجب أن ننظر بنقد الى أنفسنا، ونسأل أسئلة.
الفيلم يظهر هوس وأحلام شباب جزائري بالهجرة خارج بلدهم. هل تقصدت التركيز على هذا التيمة، أم كان صعباً تصوير المجتمع الجزائري، بدون أن تظهر هذه التيمة على السطح؟
عملت فيلما قصيرا قبل فيلمي “كباش ورجال”، كان يتكلم بشكل أكبر عن حلم الهجرة لجزائريين. لا أظن أن سمير أو حبيب يحلمان بالهجرة، على النحو الذي كان تحلم به شخصيات فيلمي القصير ذاك. لكن بالتأكيد تسمع في الجزائر كثيراً: أن البلد هو حبس كبير. لا أظن أن الجزائريين يفكرون بالهجرة بل هم مشغولون بالهرب من واقعهم الحالي. أتصور أن ظاهرة مصارعة الكباش، والتي تلقى رواجا كبيرا بين الشباب في الجزائر، تمثل هروبا أيضا من الواقع.
رغم أن هيئتي واسمي عربي، وأعرف أن النجاح صعب لواحد مثلي في أوروبا، إلا أني واثق بأني سوف أحقق النجاح الذي أبتغيه إذا بذلت جهودا كبيرة. هذا غير ممكن دائما في الجزائر أو العالم العربي، فالواحد يُمكن أن يعمل بكل جهده، لكن يأتي في النهاية شخص يملك علاقات مع السلطة ليحصل على الوظيفة او العمل الذي كنت تسعى إليه. لا توجد عدالة هناك. من أكون أنا لكي أطلب من “حبيب” بأن يدرس ويجتهد ويدخل الجامعة، وأنا أعرف أن الوظائف قليلة للغاية، وأن من يمارس الجريمة يُمكن أن يحصل على حياة هي أفضل من تلك لخريج الجامعة؟ نظام القيم الاجتماعية هناك مُدمر.

أريد أن أسألك عن الموسيقى في الفيلم، كانت مفاجأة أن تسمع في فيلم بأجواء عربية محلية مثل فيلمك إحدى مقطوعات الموسيقار الكلاسيكي يوهان سباستيان باخ؟ كيف وصلت إلى هذه الخيار؟
هذا الخيار له بعدان، الأول أني كنت أعزف آلة الكمان في فرقة أوركسترا عندما كنت صغيراً. لذلك أملك ثقافة موسيقى كلاسيكية غربية، وعندي علاقة شخصية خاصة مع موسيقى باخ. البعد الآخر المهم فيما يخص هذا الاختيار، هو أني أحب أكثر من اللازم المخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني (يضحك)، والذي صور في عام 1961 فيلمه التسجيلي “المتسول” في حي شعبي في العاصمة الإيطالية روما.
استخدم بازوليني في ذلك الفيلم موسيقى باخ، ولما سأله صحافي عن سبب اختياره لهذه الموسيقى بالتحديد، أجاب بأنه أحب أن يمنح الفقراء الذين يظهرون في الفيلم عظمة ما. أي يرفعهم عبر الموسيقى فوق الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها. لأن الموسيقى الكلاسيكية مرتبطة بطبقة اجتماعية عليا.
أردت أيضاً عبر هذه الموسيقى أن أشاكس المشاهد، لأن القطعة الموسيقية التي اخترتها لباخ اسمها “كبش الله”، وهي من التراث المسيحي، أي أن الكبش لا يمثل قيمة في تراث المسلمين فقط، وكما هو شائع، بل له مكانة رمزية في كثير من الثقافات والأديان.
ممن تألف فريق العمل في هذا الفيلم؟
المصور كان السويسري باتريك تريش، والذي بدأت بالعمل معه في فيلمي القصير الأول الذي صورته في الجزائر أيضا، وتولى هندسة الصوت السويسري كليمنت ماليو. أما بقية العاملين فكانوا جزائريين مقيمين في الجزائر. مساعد المخرج هو أمين كباش، وهو صديق أيضا، وعملت معه في فيلمي السابق. مساعد الصوت هو حفيظ مرفي.
اشتغلنا أيضا مع شباب من حي باب الواد في الجزائر العاصمة. هؤلاء كانوا مهمين جدا في الفيلم، لأنهم يفهمون طبيعة الأحياء التي كنا نصور فيها. وكانوا يعرفون كل الشفرات الخاصة للتعامل الأمثل مع الناس هناك. شَكَّل وجود هؤلاء الشباب أهمية كبيرة، بخاصة في تفصيلة التعاطي مع بعض الناس، من الذين كانوا يترددون في المجيء لنا، وفضلوا التعامل مع هؤلاء الشباب.