الوثائقية تحاور صاحب الإرهاب والكباب وعمارة يعقوبيان والراقصة والسياسي
وحيد حامد للوثائقية:
لا ثأر بيني وبين السلطة، والسلطان هو البعيد عن السلطة
لا يوجد ممثل كبير أو صغير يتدخل في أعمالي.. المخرج فقط يمكنه ذلك
هدف السينما الأول هو المتعة والتسلية مع تسريب أفكار ورسائل ومضامين
حاورته: د. أمل الجمل
الكاتب المصري الكبير وحيد حامد هو من دون شك أحد أعمدة الكتابة السينمائية في مصر، فعلى مدار 27 عاماً من الكتابة الدرامية لم يكف عن مواجهة السلطة الفاسدة بكافة أشكالها وأنواعها، هاجمها بقسوة حيناً، وفي أحيان أخرى قدّم منها نماذج إنسانية متسامحة. كشف بدون هوادة الفساد المتحالف مع التطرف الديني وتفجر ظاهرة الإرهاب، والتي تجسدت في أفلام مثل “طيور الظلام” و”دم الغزال” و”عمارة يعقوبيان”، وإن بدأها بفيلمه الكوميدي “الإرهاب والكباب” الذي كان بمثابة تحذير من خطورة الضغوط التي تكبّل الإنسان المصري البسيط وتزيد من معاناته.
لم يناقش وحيد فساد كبار الساسة والاقتصاديين فقط، لكنه كما تناول كفاح المطحونين تناول فساد البسطاء وانحطاطهم، وكأنه طاف على جموع فئات وطبقات الشعب المصري، فقد كان يجلس على المقاهي المختلفة، ويسير في شوارعها ودروبها ينقب عن شخصياته، وهو أثناء رحلته السينمائية كان ولا يزال يرصد التغيرات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع المصري وتحولاته. اللافت أنه يُعالج قضاياه من دون أن يتخلى عن التفاصيل الإنسانية والعواطف التي تغلف علاقات الحب وتمنحها سر البقاء.
-
الوثائقية: على مدار مشوارك حصلت على جوائز كثيرة من داخل مصر وخارجها وأحدثها تكريم في لبنان، ثم التكريم الكبير والمهم في مهرجان دبي السينمائي الرابع عشر بمنحك جائزة “تكريم إنجازات الفنانين”، فماذا تُمثل لك كل هذه التكريمات؟
الحمد لله بلدي كرمتني بما فيه الكفاية، الجهات الرسمية وغير الرسمية. بدأت بجائزة التفوق والتقديرية، ثم أعلى جائزة وهي جائزة النيل، أما تكريمي من لبنان ثم بمهرجان دبي ففيه شجن حقيقي، لأن الإنسان عندما يكون في نهاية العمر، فمن الطبيعي -وسيكون جميلا جدا- أن يحس به القريب، لكنه يظل أمراً معتادا وطبيعياً، لكن عندما يحس به البعيد فهذا ليس معتادا، إنما تعبير عن أن تأثيري يمتد إلى خارج مجتمعي، ويؤثر في جيراني وإخواني ويترك أثرا طيباً، وهذا شيء يمنحني إحساسا بأنني كنت صادقا مع نفسي ومع الآخرين، وأنني كان لي تأثير طيب وأن أعمالي في السينما والتلفزيون والإذاعة وحتى مقالاتي الصحفية كانت صادقة.
- انتقدت السلطة كثيراً في أفلامك بدءاً من مراكز القوى في “طائر الليل الحزين”، مروراً بالضابط المحقق في “ملف في الآداب” ورجل الأمن في “البريء”، ورجل المخابرات في “كشف المستور”، ثم سلطة السياسي الفاسد في “الراقصة والسياسي” و”معالي الوزير”، لدرجة أن البعض قال “كأن هناك ثأرا قديما نذرت نفسك لتصفيته مع السلطة”.
لا، لا يوجد بيني وبين السلطة أي شيء على الإطلاق، السلطان هو البعيد عن السلطة، لكن اهتمامي هو اهتمام وطني مثلي مثل أي مواطن ليس أكثر، هذا ما يحركني، فعندما تفقد السلطة صوابها فلا بد أن تقوم وسيلة من وسائل التعبير بكشف هذا، لقد عشنا فترات مُرّة كثيرة جداً، موضوع السلطة والمخابرات عندنا مركز قوى مدمِّر من أيام البوليس السياسي في عهد الملك، فهو مخزون، والكاتب يجب أن يكون لديه قضية يدافع عنها.
- مع ذلك البعض الآخر يتهمك..
أنني عميل لأمن الدولة؟
- لا.. بالتأكيد، لن أقول هذا.. ولكن اتهموك بأنك ظاهريا تُهاجم السلطة ولكن في الحقيقة أنت كنت خط دفاع عنها، أنك كنت تخدم أهدافها وتدافع عنها!!
الاتهام ليس صحيحا، وأرفض هذا الرأي.
-
طيب، تعال نحلل أفلامك ونفند تلك الاتهامات..
مستحيل، لن أدافع عن عملي، بالعكس، فأنا أكتب العمل وأطرحه على الناس، وكلٌ يراه كما يحلو له.
- مؤكد أن كل إنسان يستقبل العمل من خلال ثقافته وتفكيره ورؤيته ومكونات شخصيته النفسية والسياسية والأيدولوجية، لكن التساؤل بعد أن قدمت “البريء” بثلاث سنوات فقط، تفاجأنا بفيلم “اللعب مع الكبار” لشريف عرفة الذي رسمت فيه شخصية ضابط الأمن بكل هذا التسامح والعفو والنبل، ثم أدهشتنا بالخاتمة، فبعد اغتيال الحلم الذي كان يجسده محمود الجندي، يصرخ صديقه البطل عادل إمام بأنه سيواصل الحلم، هنا تتوازى وقفة البطل والضابط، وتتوازى الصرخة مع إطلاق ضابط الأمن المتسامح النبيل الرصاص على الفاسدين، وكأن حلم وأمن المواطن تحميه رصاصات رجل الأمن، الرصاص يحمي الحلم.. وحيد حامد فيم كان يفكر حين رسم هذا المشهد؟
ولماذا لا نتذكر “ملف في الآداب” فهو عن ضابط وقح؟
- “ملف في الآداب” تم عرضه قبل “البريء” بشهرين تقريباً، لكني أتحدث عن التحول في الموقف الفكري والنقدي من رجل الأمن في “اللعب مع الكبار”.
هذا فيلم مستقل بذاته، يتناول تصوري عمّا يجب أن تكون عليه الحياة، لأنني أحتاج –كما هو موجود في العالم كله– مجتمعا آمنا، وأحتاج قوة تحميه، قوة عادلة وليست مستبدة، قوة انتماؤها للناس وللشعب وليس للسلطة، ولذلك كانت شخصية ضابط أمن الدولة هي الشخصية التي أحلم بها، وفي نفس الوقت لا ننسى شخصية الضابط القاسي المتعجرف التي جسدها “مصطفى متولي” في الفيلم نفسه، كان حلمي وجود شخصية الضابط الذي يقضي على الفساد، لكن أن أكون معارضا فيصبح لزاما علي أن أبقى معارضا على طول الخط، وأن تُصبح الشرطة سيئة في جميع أفلامي؛ هذا تصور خاطئ، لأن التجربة الواقعية مهمة جدا، ومَنْ يضع يده في الماء ليس كمن يضعها في النار.. كنت أعرف ضابط أمن دولة اسمه رؤوف وكنت حين أسأله على أي شي يجيبني، كان يشبه مدرس العربي، بسيط ومتواضع. هذا الضابط تم اغتياله أمام بيته وأمام أولاده بطريقة بشعة، حرقوه داخل سيارته، أليس هذا الرجل نموذجا يقابل النموذج السيئ؟ أيضا لو تناولنا العهد الحديث وتأملنا كافة الضباط الذين ذهبوا ضحايا للإرهاب، ومن بينهم أناس من أقاربي تم اغتيالهم، حيث ترملت نساؤهم وتيتم أبناؤهم، أليست هذه نماذج تستحق أن نتحدث عنها ونقدمها؟
- إحساسي أن تناولك للسلطة ونقدها كان يختلف باختلاف المخرج، فمثلاً عاطف الطيب كانت له أفكاره ورؤيته الثورية الناقدة للسلطة بلا هوادة، فحين يلتقي عاطف الطيب مع وحيد حامد من المؤكد أن النتيجة ستكون مغايرة ومختلفة عن الأفلام التي تجمع وحيد حامد مع سمير سيف الذي يميل إلى الحركة والآكشن، أو شريف عرفة الذي يميل إلى الفانتازيا، وهذا ما يتضح من “اللعب مع الكبار”.
هذا ما نسميه اللون الذي يفضله المخرج، فمثلا “ملف في الآداب” عرضته على سمير سيف ورفضه، ليس لعدم جودة النص ولكن لأنه لم يجد نفسه فيه، بينما عاطف الطيب رحب به. لشريف عرفه أسلوب آخر مختلف، وهنا ضرورة اختيار المخرج المناسب للسيناريو المناسب، أكتب أنا بعدة موضوعات بشكل جيد، لكن هناك موضوعات أخرى لا أستطيع الكتابة بها وغيري يكتبها بشكل أفضل. كذلك المخرج، هناك موضوعات معينة تؤججه، فمثلاً “كشف المستور” و”البريء” وجب أن يكونا بتوقيع عاطف الطيب، بينما مثلاً “الراقصة والسياسي” و”معالي الوزير” وجب أن يكونا لسمير سيف. “الثلاثية” مثلاً لا تصلح إلا لحسن الإمام.
- ما الذي أغواك في القصة القصيرة “الراقصة والسياسي” التي كتبها إحسان عبد القدوس لتحيلها إلى سيناريو فيلم سينمائي؟
لم أكن أنوي كتابة السيناريو. الحكاية أن نبيلة عبيد كانت اشترت القصة وأعطتها لأكثر من كاتب سيناريو، ويبدو أنه لم يحدث توافق، ولم تعجبها الكتابة على مدار سنوات، وظلت القصة مركونة، ثم ذهبت إلى إبراهيم شوقي، كنت أعرف مَنْ الذين كتبوها، وإبراهيم كان صديقي، وفي إحدى المرات كانت نبيلة تجلس معنا فقال لي إبراهيم فجأة “ما تكتب السيناريو”، فقلت لا.. لأن غيري اشتغل عليها وأنا ما أحبش…” هو كان شخص مرح، فقال لي “لا.. بس عامل لي فيها وحيد حامد وبتاخد فلوس أد كدا.. بصراحة أنت متعرفش تكتبها”. فقلت له “أنا أكتبها بصباع رجلي”، فرد “طيب وريني”. ومن هنا جاءت فكرة الكتابة وفوراً كتبتها في 15 يوماً.. وأصبح الفيلم الأيقونة عند نبيلة عبيد.
- في “الغول” لفت نظري أن هناك جُمل في الحوار ضد الحل الفردي، ومع ذلك اختتمت بالحل الفردي العنيف، وما يثير تساؤلي أن النجم عادل إمام بهذا العمل كان بطل فيلمين آخرين اختتم نهايتهما بالحل الفردي العنيف: “حب في الزنزانة” و”سلام يا صاحبي”، فهل النجم لعب دوراً في اختيار النهاية، أم أنه شبه تفكير جمعي؟!
سأتحدث عن نفسي. لا يوجد ممثل كبير أو صغير يتدخل فيما أكتب..
- بعيداً عن الفرض.. أُدرك بالطبع أنك مقاتل شرس من أجل الدفاع عن أفكارك ومشاريعك، بدليل أنك رفضت أن يُوضع اسمك على تتر فيلم “قصاقيص العشاق”، ودخلت في معركة ضد منتج “البريء” عندما تدخل مونتاجيا في الشريط السينمائي ليتفادى المنع الرقابي.. هنا أتحدث عن النقاش المتبادل بينكم واقتراح أو تطوير مشاهد النهايات.
المخرج فقط من يُسمح له بالنقاش معي، كما له مطلق الحرية، إنما أن يقول ممثل أنا أريد كذا أو عندي مشهد اقترحته على وحيد فهذا لا يحدث أبدا، وهذا موقفي منذ كنت أكتب للإذاعة، تعرضت حينها للعقاب وإيقاف التعامل معي لفترة طويلة بسبب إصراري على أن لا أرضخ لتغيير أسلوبي في الكتابة لصالح أحد نجوم الإذاعة، ثم أعادوا التعامل معي ثانية. أنا عندي مبدأ الخاسر هو مَنْ يُسرع في تقديم التنازلات.
-
بسبب عدم رضاك عن تجربة فيلم “فتوات بولاق” وضعت دستورا وقانونا لنفسك منها ألا تتفق على عمل قبل الانتهاء من كتابته، وأن تكتب سينما تقول فيها شيئاً للناس، وبلغة يفهمها الناس، ثم تعترف لاحقاً أنك لم تنجح في تحقيق ذلك دائماً وأنك لم تلتزم بذلك القرار أحياناً، مثلما تعترف بعدم رضاك أو عدم حبك لبعض أفلامك خصوصاً بعد “فتوات بولاق” الذي اعتبرته أنه أساء إلى نجيب محفوظ، وأنك ورطته في هذا. لكن عندما تتحدث عن الفيلم الذي أعاد إليك التوازن والثقة بالنفس في الفترة الأولى تذكر “الغول”، فلماذا تسقط “غريب في بيتي” الذي يسبقه؟ هل لأن الأول من تأليفك كاملا بينما “غريب في بيتي” مقتبس من عمل أجنبي؟
لا، بالعكس، أنا أحب “غريب في بيتي”. هو عن فيلم “فتاة الوداع”. رجل وامرأة يعيشان مع بعضهما، أنا فكرت أنه عندنا مشاكل كثيرة مثل أزمة الإسكان يمكنها أن تخلق فيلما عن هذه التيمة، وحين أنهيت كتابة الفيلم أصبح لدي فيلم مصري مختلف عن “فتاة الوداع”، لكن الأمانة الأدبية كانت تقتضي مني ذكر الأصل لأنه لولا هذا الأصل لم أكن لأهتدي لفكرة الفيلم، وهذا حدث أيضاً في تعاملي مع قصة “الراقصة والسياسي” لإحسان عبد القدوس، لأن سيناريو الفيلم مختلف، ومع ذلك لو لم أكن قد قرأت القصة لم أكن لأهتدي لكتابة سيناريو الفيلم.. فالقصة كانت الملهمة أو الوحي..
- ورأيك في تعبير خيانة الرواية عند الاقتباس السينمائي من نص أدبي؟
بصفة عامة يخطئ كتّاب السيناريو حين يكتبوا سيناريوا سينمائيا مقتبسا عن رواية، وذلك لأنهم يضعون الرواية أمامهم وينقلون منها، الأصحّ أن تقرأ الرواية، تستوعبها جيداً ثم تتركها بشكل نهائي، أو تلقي بها بعيدا، ثم تبدأ كتابة السيناريو. ولذلك أستاذنا نجيب محفوظ رحمة الله عليه كان يقول “أنا لست مسؤولا عن الأفلام المقتبسة من رواياتي، هذه أفلام صانعيها، أما أنا فلست مسؤولا إلا عن رواياتي”.
- هل أنت مؤمن بأن السينما لها دور تنويري في المجتمع؟
إلى حد ما
- هل تشعر بأن هذا الدور يتراجع؟
أشعر أنه يفسد، بمعنى أنه يتم إفساد رسالتها، فالهدف الأول لها (السينما) تحقيق الإمتاع، ثم من خلال المتعة والتسلية تقوم بتسريب أفكار ورسائل ومضامين، أما الآن ففيه تدن ومفاهيم خاطئة، المفروض أن ترتقي بالناس، وتصعد بهم خطوة على السلم.
- هل كنت تفكر في الجمهور أحياناً أثناء الكتابة؟
بالعكس، التفكير في الجمهور أثناء الكتابة يُعطّل التدفق الدرامي، لو فكرت في الجمهور أثناء الكتابة لن أتمكن من جذب الجمهور. سمير عبد العظيم كان يكتب على أفيش الفيلم 365 ضحكة.. زمان كانوا يكرروا أنفسهم، وحتى الآن، حتى النجوم.
-
هل شعرت بأن اتجاهك للإنتاج السينمائي كان ضرورة؟
(ابتسامته الضاحكة تسبق إجابته).. في “اللعب مع الكبار” كان يفترض أن ينتجه واصف فايز. وكان فيه مشهد “التروماي” الذي يدور فيه الحوار بين عادل إمام وحسين فهمي وهو يطوف المدينة، فقال لي “لسه هنجيب تروماي ويطوف المدينة؟ أنا بقترح إن عادل إمام وحسين فهمي يقفوا على محطة التروماي، يقولوا الكلمتين، ويأتي التروماي فيركبوا، ونخلص”. هذا بالنسبة لي كان واحدا من أجمل مشاهد الفيلم، فقلت: لا، وقررت أن أنتجه. إلا أنني خسرت من الإنتاج، ففيلم “طيور الظلام” مثلاً خسرت فيه لأن الدول العربية لم تشتره.
-
هل عملك بالإنتاج عطلك عن كتابة السيناريو؟
لا أبدا، لأنه كان نوعا من التغيير، وكنت سعيدا بعمل شيء أُحبه.