مدير التصوير محمد المغراوي للوثائقية: مدير التصوير هو مترجم أفكار المخرج
حوار: بلال المازني

نجلس أمام الشاشة، نشاهد الفيلم، تضاء الأنوار في القاعة ونصفق أحيانا وربما تنزل بعض الدموع ثم نمضي، ولا نعلم أن فيلما بساعة ونصف هو حرب يخوضها جيش من التقنيين والفنانين في معركة نجاح العمل الفني.
وإذا كان المخرج قائد المعركة، فمن دون شك أن مدير التصوير هو الإستراتيجي الذي يخطط العمل على الجبهة.
محمد المغراوي واحد منهم، مدير تصوير تجد على صدره نياشين العديد من المعارك التي خاضها في مسلسلات وأفلام على أعلى مستوى.
تحاوره الوثائقية اليوم كتكريم لمحاربي ورجال الظل الذين يعملون على أن تكون الصورة ممتازة والإضاءة مبدعة والفيلم أو المسلسل ناجحا. فمع محمد المغراوي في رحلة الرجل والفن والمهنة.
- محمد المغراوي مدير تصوير تونسي صنع بصمة في العالم العربي من خلال صورة مميزة في الكثير من الأفلام والمسلسلات، كيف تقدم نفسك بتفصيل أكثر للجمهور العربي؟
أنا مدير تصوير تونسي كانت لي أعمال مميزة في تونس والشرق الأوسط وقريبا في أوروبا. أنجزت العديد من الأعمال التي تركت صدى لدى المتفرج مثل مسلسل “عمر بن الخطاب” و”غدا نلتقي” و”نص يوم” و”الهيبة” و”دولار”، إضافة إلى أفلام كثيرة مثل فيلم “فتوى” للمخرج التونسي محمود بن محمود وفيلم “بورتو فارينا” للمخرج إبراهيم لطيّف وفيلم “الجايدة” لسلمى بكار و”زهرة حلب” لرضا الباهي، وحاليا أقوم بتصوير فيلم “الهربة” للمخرج غازي الزغباني.
- أعتقد أن هاجس الفن يتكون ويتطور منذ الطفولة والشباب، كيف بدأ عشقك للنحت بالضوء يتكون؟
بدأت في أواخر الثمانينيات؛ في سنة 1989 حين كان عمري أقل من عشرين عاما. بدأت العمل في برامج تلفزية واشتغلت حتى فني أسلاك، وفي المقابل ترعرعت في وسط فني ليس من جهة أسرتي بل من خلال الشارع الذي كنت أقطن فيه وهو “نهج مارسيليا” في قلب العاصمة تونس الذي كان يعج بقاعات السينما والتي يقدّر عددها بسبع أو ثماني قاعات.
ومن حسن حظي أن أبناء الحي الذي أقطن فيه كانوا جميعا أصحاب قاعات سينما، فأتيحت لي الفرصة بأن أشاهد كل يوم عرضا في قاعة من القاعات الموجودة في الحي. عشت معهم أجواء الفيلم في جميع مراحل العرض، كانت عملية عجيبة بالنسبة لي أن أشاهد جميع مراحل عرض الفيلم، وبدأت أطرح تساؤلات على نفسي فيما يخص هذه العملية.
في ذلك الوقت لم تكن هناك مدارس متخصصة في السينما، وأذكر أنّ أول مدرسة متخصصة فتحت أبوابها في سنة 1992 أو 1993، حينها سافرت لفرنسا وانقطعت عن الدراسة وتلقّيت تكوينا (تدريبا) في مركز تكوين ثم عدت إلى تونس. وفي الوقت ذاته عايشت الكثير من تصوير الأفلام القصيرة التي لم تكن بالضرورة تستجيب لما يطلبه الجمهور، وكنت اقتنص الفرصة لحضور تصوير تلك الأفلام.

- مسيرة حافلة بالكثير من التتويجات، كيف تطورت وانتقلت من الهواية إلى الاحتراف ثم التميز؟
لم تكن البداية سهلة بالمرة لأن السينما في تونس وقتها كانت حكرا على بعض الأسماء، حيث ارتبط دخول عالم السينما بعلاقة الأقارب أو الأصدقاء بهذا المجال الفني.
وكانت لي فرص لخوض تربّصات كثيرة ولمساعدة مديري تصوير كبار من تونس مثل يوسف بن يوسف وأحمد الزعاف وأحمد بن نيس، ثم في وقت لاحق حين اشتدّ عودي صوّرت فيلما مع مدير التصوير بلقاسم الجليطي وكانت فرصة كبيرة بالنسبة لي.
كما اشتغلت أيضا مع صديقي المرحوم علي بن عبد الله، ولكن في فترة ما بين 1994 وإلى غاية 2001 اشتغلت في قناة الأفق وتلقيت من خلال تلك التجربة تكوينا حقيقيا. ففي تلك الفترة جلبت قناة الأفق مدير تصوير كبير اسمه علال اليحياوي وكانت له مهمتان: الأولى تكويننا، والثانية العمل في خطة مدير تصوير للقناة. وفي تلك الفترة كانت قناة الأفق تملك الشركة التونسية للإنتاج والتنمية السينمائية، لذلك كانت تلك فرصة ذهبية بالنسبة لي للاشتغال على الأشرطة ومن ثم التقنية الرقمية ومساعد مدير تصوير كبير.
لم أخض تجربة في قناة الأفق فحسب، بل عملت خلال الفترة ذاتها بصفة مستقلّة، وكنت أهرب من القناة أحيانا أو أطلب عطلة حتى أتمكّن من العمل كمساعد مدير تصوير في بعض الأفلام القصيرة أو الومضات الإشهارية.
لم يكن من أحلامي أن أشتغل مجرد مدير تصوير في التلفزيون، ففي سنة 2001 قبل إغلاق قناة الأفق، عملت مع المخرج إلياس بكّار في الفيلم الطويل “هي وهو”، ثم اشتغلت في العديد من الأشرطة التلفزية مع جميع المخرجين التونسيين تقريبا.

- هل يمكن القول إنّ محمد المغراوي لم يكتسب شهرته من تونس بل من الشرق الأوسط؟
بالضبط، كانت فرصتي الأولى لخوض تجربة في أعمال فنية عربية من خلال العمل في مسلسل سوري، حينها تعرفت على المخرج حاتم علي في فيلم “الليل الطويل” سنة 2006 حيث كان حاضرا عند التصوير. لم أكن أعرفه حينها لأنني لم أكن مطلعا على الدراما العربية. بعد الانتهاء من تصوير المسلسل التقيت بالمنتج والمخرج السوري الكبير هيثم حقي الذي كان منتج فيلم “الليل الطويل” واقترح عليّ العمل معه في الفيلم ولم أتردّد.
لقي الفيلم نجاحا كبيرا ثم خضت تجربة ثانية مع نفس المخرج من خلال فيلم “سيلينا” الذي شارك فيه دريد لحام وميريام فارس، لكنه لم يلق نجاحا وكانت تجربة فاشلة بالنسبة لي، وتوقفنا بعدها عن العمل معا لأكثر من عامين ثم عدت في مسلسل “عمر بن الخطاب”.
كنت قبل تصوير مسلسل “عمر بن الخطاب” مدير تصوير غير معروف، وكان قليلون في تونس أو الشرق الأوسط يعرفون محمد المغراوي، وتنوعت تجاربي حينها في قطر وسوريا، وتفاجأ كثيرون بعد عرض مسلسل “عمر بن الخطاب” من إسناد مهمة إدارة تصوير مشروع فني كبير لمدير تصوير تونسي.
كان نجاحا كبيرا بالنسبة لكامل فريق التصوير الذي ضمّ قرابة عشرة تونسيين، وفي الواقع فتح لي هذا المسلسل أبوابا كثيرة، وعملت في مسلسلات كثيرة مثل “غداً نلتقي” و”قلم حمرة” و”زيرو فور”، وحاولت أن أصنع اسما بالتدرّج.
- كيف يمكن لمدير تصوير تونسي اقتلاع مكان له في السينما العربية في كل هذا الزخم الكبير من المخرجين والفنانين والتقنيين؟
بالعكس لم أكن استثناء، فقد غزا المرحوم يوسف بن يوسف الأعمال الفنية في سوريا وأشرف على تصوير أحسن فيلم في تاريخ سوريا من ناحية الصورة، وهو فيلم “الليل” لمحمد ملص، بالإضافة إلى محمد إدريس الذي كان أستاذ المخرج حاتم علي والممثل غسان مسعود.
في الواقع وصلت إلى هذا المستوى بالعمل وبعض الحظ أيضا، وكان الرهان من أجل النجاح هو الابتكار والخلق والإبداع في كل عمل جديد.

- دعنا نتحدث قليلا عن وظيفة مدير التصوير التي ربما لا يعلم البعض مدى أهميتها، ولنفسر للقارئ مهمة مدير التصوير بالضبط؟
بالنسبة لي فإن مدير التصوير هو مترجم أفكار المخرج، يحولها من فكرة إلى صورة. وقد يبدو الأمر سهلا، لكن المخرج يحرص دائما على اختيار مدير تصوير مناسب، وقد يكون أساس هذا الاختيار مرجعا شاهده المخرج، وليس بالضرورة أن يكون أساس هذا الاختيار شهرة مدير التصوير نفسه.
حين يكتب المخرج الفكرة يتخيّل صورة وعليه أن يجد مدير التصوير المناسب الذي يمكنه نقل تلك الصورة كما جاءت في مخيلته، لذلك فمدير التصوير هو شريك المخرج يعيش معه الفكرة ويرافقه في الطريق نفسه من أجل تجسيدها، وحين يحقّق مدير التصوير الفكرة التي تسكن مخيلة المخرج ولو بنسبة 80%، فإن عمله يعتبر ناجحا.
وقبل تصوير مسلسل أو فيلم يتفق مدير التصوير مع المخرج على مراجع بصرية، ويقدم المخرج جدولا يحتوي على ما يسمى بالميثاق لتوضيح الألوان التي سيتم اعتمادها في الصورة، وهي خطوات ضرورية قبل التصوير وقبل أن يعيشا الحالة معا كي تنسجم الفكرة التي تسكن مخيلة المخرج مع الصورة التي سيحددها مدير التصوير، والذي سيوضح أكثر فكرة المخرج خاصة من الجانب التقني دون أن يتجاوز أحدهما مهمة الآخر. وشخصيا أعتقد أن المخرج الذكي هو من يستمع جيّدا لنصائح أي شخص يعمل معه خلال التصوير.
من الجانب التقني، يعتبر مدير التصوير الشخص الثاني الذي يقرّر بعد المخرج، فهو الذي يصمم عالم الفيلم، وهو من يقرر زوايا الصورة وإطارها، لأن هذه المقاييس تختلف حسب نوع الفيلم، فعند تصوير أفلام الحركة تكون الصورة بواسطة كاميرا محمولة وتعكس التوتّر والديناميكية، كما أن حالة الممثل تترجمها الكاميرا أيضا وطريقة التصوير.
يجسّد فريق كبير هذا العالم، ويكون تحت إشراف مدير التصوير، فلا توجد صورة جيّدة إذا لم يكن هناك ماكياج أو لباس جيّدان، إضافة إلى الديكور الذي يعتبر حسب رأيي أهم من الصورة، وأعتقد أن نجاح الفيلم يعتمد أولا على حسن اختيار المخرج لمهندس ديكور ممتاز يتمتع بحرفية وسلاسة في العمل.
أعتبر أن أساس الصورة هو الديكور ثم اللباس ثم الماكياج، وأعتقد أنها الثلاثية المقدسة لنجاح العمل الفني، وإذا كان مستوى من يجسدها متوسطا أو ضعيفا فسينعكس ذلك أساسا على الصورة، لذلك أحرص دائما قبل معرفة من سيكون مساعدي أو الإضائي مثلا، على التعرّف أوّلا على مهندس الديكور وما سيقدّمه لي، ثم على المشرف على الملابس وعلى فكرة المشرف أو المشرفة على الماكياج، وأعتبر أن هذه العوامل هي التي ستساهم في نجاح عملي، وإذا لم تتوفر فإنه من الصعب جدّا النجاح.

- ماهي أكثر الصعوبات التي يمكن أن تواجه مدير التصوير؟
يعيش مدير التصوير يوميا وكل دقيقة حالة من التوتر، فخلال 12 ساعة من التصوير يكون تحت وطأة طلبات المخرج التي يجب أن تلبّى بحذافيرها، فهذا الهاجس يجعلك تعيش رهانا لإيجاد طريقة ضمن جدول زمني محدّد تجسّد الفكرة التي يريد المخرج إيصالها، حيث تكون مطالبا بتقديم صورة جميلة مع إضاءة جيّدة في وقت قياسي خلال تصويرك يوميا عشرين مشهدا من مسلسل مثلا، وهذا الاستعداد يشبه الوجود في جبهة قتال حسب رأيي.
- هناك سؤال يتبادر إلى ذهني أحيانا عن جمالية الصورة في الفيلم العربي مقارنة بأفلام أخرى أوروبية أو أمريكية، لماذا تختلف الصورة في الأفلام العربية عن الصورة في الأفلام الغربية؟
سأعطيك مثالا بديهيا جدا، ستجد اختلافا بين الصورة في فيلم يصوّر في تونس وفيلم يصوّر في فرنسا، وذلك على الرغم من أن مدير التصوير هو نفسه، ويعود ذلك إلى أن الشمس في تونس تكون قوية جدّا وهو ما يغيّر روح الصورة، فلا يمكن أيضا التساؤل عن اختلاف بين الصورة في تونس وإنجلترا التي لا تشرق فيها الشمس أغلب أيام السنة، فتكون الصورة غالبا باردة وداكنة، عكس تونس التي تعطيك صورةٌ فيها الكثير من البياض وضوءا مناسبا جدا.. وهذا ما يمكن تسميته بهوية المكان الذي يتم التصوير فيه.
في الماضي كان هناك مدير تصوير “مجري” معروف دعاه مخرج أمريكي كبير من أجل التصوير في لوس أنجلوس وطلب منه صورة داكنة تشبه مناخ المجر فردّ مدير التصوير أن الأمر مستحيل لأن كل مكان له خصوصية لا يمكن تقليدها، فمن غير الممكن أن تبتعد عن ألوان لوس أنجلوس التي يطغى عليها اللون الأصفر المائل للبنّي.
حين سافرت للعمل في الشرق حملت معي رزمة من الأفكار بلورتها هناك وقمت بتحسينها وما زالت تمثّل ذخيرة لأعمالي، فمدير التصوير الجيّد هو من يخزن كل تجاربه وما تعلّمه من تجارب الآخرين ليعكسها في أعماله بعد إضافة بصمته الخاصة.
- هل تعتقد أن إدارة التصوير هو اختصاص يدرّس أم أنه فن يكتسب؟
بالتأكيد هو فن يكتسب، وهذا لا يعني أنه لا يجب أن يدرّس، ففي تجربة التدريس مثلا لم أقم أبدا بتعليم طالب كيف يحمل الكاميرا أو الزاوية التي يصور من خلالها، بل كل ما أقدّمه هو أساسيات العمل فقط، فلا أحد يمكنه تعليم الجانب الفني لشخص آخر لأنه شيء مكتسب مثل محاولة تعلّم الغناء دون اكتساب صوت جيّد.
الموهبة هي أساس العمل في إدارة التصوير ثمّ في مرحلة ثانية التكوين الدراسي في هذا الاختصاص. وخلال بداية مسيرتي كنت أملك الموهبة وأردت صقلها من خلال التكوين حيث كنت أجمع المال وأسافر إلى فرنسا في فصل الصيف للدراسة لأن مصاريف التكوين تكون أقل في تلك الفترة.
- ماهي النصيحة التي تقدمها لمديري التصوير الشبان؟
أنصح الشبان الذين بدؤوا مسيرتهم في هذا الاختصاص بإعطاء وقت كثير للتعلّم، وشخصيا أعتقد أن تجربة مساعد مدير تصوير مفيدة جدّا، فلا يجب المرور مباشرة نحو إدارة التصوير دون تدرّج لأن النتيجة ستكون الفشل.
ما يحدث الآن أن عددا كبيرا من مديري التصوير الشبان يأتون بفني إضاءة جيّد ومساعد جيّد ومصور مناسب، وفي المقابل لا يقومون بدورهم المتمثل في إدارة التصوير لأن لهم علاقة وطيدة بالمخرج أو المنتج مثلا، وهذا طريق مسدود ومآلهم الفشل حتى لو كان النجاح حليفهم في أكثر من مرة، والسبب أنهم لا يملكون مخزونا كبيرا من التجربة والتفاعل مع عشرات مديري التصوير والتدرّج في العمل.
في الواقع عملت مع مساعدين لا يتفاعلون معي، وفي المقابل صادفت مساعدين رائعين، وعملت مع البعض ممن ينبهونني إلى أشياء تغيب عني.
في الأخير مدير التصوير مهنة وفن لا يمكن الاستهانة بها، وهي من الأهمية لدرجة أنها تقلب الفيلم مائة وثمانين درجة من الأفضل إلى الأسوأ أو العكس.