“حكايات ليالي العنف”.. بين التسجيل والدراما

حميد بن عمرة

هناك كتب تتدفق حروف صفحاتها في حلقك فتعتقد أنها كلماتك وتشعر أنك تنطق بها لأول مرة، وهناك آلام بعيدة عن جسدك لكن أعضاء بدنك تتحرك لها ضررا.

هناك أفلام تسكن الذاكرة فتظن أن صورها جزء من ماضيك، وهناك وجوه تطارد مخيلتك وترغمك على التمعن في كل خط كتب عليها.

عندما تفتح كتاب “حكايات من ليالي العنف” للسينمائي عدنان مدنات، فإنك لا تعرف أنك أمام سيناريو فيلم جاهز أو مذكرات سينمائية مجهرية الوصف أو قصص تجري أحداثها بليالي أي حي من أي وطن يعيش حربا أهلية.

لن يهمك المكان والزمان، وإنما رؤية السارد وكيف يجد النجاة من مأزق إلى آخر، فتخشى على حياته لكنك تواصل تفكيك الحروف لتقودك من بيت إلى آخر ومن راية إلى نظيرتها ومن حلم إلى كابوس ومن شريط إلى علب أفلام ضاعت إلى الأبد ولم يبق منها سوى ضوء ساطع يشع إلى الأبد.

 

في عين الإعصار

إن التوغل في “حكايات ليالي العنف” هو تسرب في مخيلة السينمائي والناقد عدنان مدنات ودخول في عين الإعصار.

لكن الانهماك في كتابه الثاني “السينما التسجيلية.. الدراما والشعر” والذي صيغ بنفس المفردات والوتيرة، هو تحليق فوق عناوين لأفلام سجلت في تاريخ السينما العالمية.

السيرة الذاتية لعدنان مدنات تتراكم فيها الكتب والترجمات من الروسية إلى العربية، لكن وجب الاعتماد على مصدرين حتى لا ندخل في متاهات السينما والعنف، لأن كل كتاب يحمل قسطا من الخيال والبصيرة السينمائية بوزن مماثل لعنف الحرب وعنف الناس وعنف الحياة العادية، كما تحمل مثقال الحب والأنس اللذين كانا زاد عدنان مدنات وبوصلته في مدينة مشرقة تستقطب كل وجوه العالم؛ مدينة بيروت.

السيرة الذاتية للسينمائي لا تحتاج إلى جواز سفر لأن الشاشة هي بلده وجنسيته رغم أن عدنان أقام في بلدان مختلفة من سوريا ولبنان والأردن. وعلى الرغم من أنه مُنع لسنوات من السفر لأسباب مفتعلة لا يفهمها حتى الآن، فإنه لا يريد رفع الستار عنها حتى وإن مر على ذلك زمن كاف.

غير أنه لم يتستر على العنف الآخر الذي يسميه “عنف المخابرات” الذي يلخصه بالانتظار ثم الانتظار وتكتل الزمن فوق الظهر ليقوّس القامة والأنا.

السينمائي له دوما نغم سري يعرض به كل هواجسه أكان في الرواية أم التنظير. لذا يعسر التفريق بين رده الشخصي ومقتطفات من نصوصه.

 

  • في كتابك “حكايات من ليالي العنف”، أنت السارد والبطل، لكن شخصيتك ليست بطولية بالمعنى السينمائي. كيف تمكنت من وصف الحميمية والبقاء كشاهد على حياته؟ هل كان الدافع الأول للكتاب سينمائيا أم تاريخيا؟ ولماذا لم تحوله إلى مشروع سينمائي؟

عندما صدرت الطبعة الأولى من الكتاب قبل نحو عشرين عاما، لقيت ردود فعل إيجابية، وكانت بعنوان “حكايات من ليالي العنف في بيروت”. كتب أحد الكتّاب أنها “رواية داخل رواية”. بالنسبة لي لا أعتبرها رواية بل أعتبرها نوعا من أدب السيرة، لكن ليس السيرة الذاتية، بل سيرة تشكّل العنف في نفوس الناس الذين يعيشون في مدينة تستعر فيها حرب أهلية.

تجنبت في الكتاب أي محتوى فضائحي وأي محتوى سياسي، سردت الوقائع دون أن أحدد أي اسم يشير إلى الأطراف المشاركة في الأحداث التي أسردها فيما يشبه التجريد.

كان همي تقصي كيف يتشكل العنف وسرد ذلك عبر وقائع كنت شاهدا عليها. وجودي في الكتاب وجود الشاهد لا “البطل”، لكن طريقة السرد يمكن أن توحي للقارئ المدقق بنوعية شخصيتي، مع أن هذا ليس مهما، فالمهم هو مضمون الكتاب.

هذا أيضا ما يمكن قوله بشأن الطبعة الثانية من الكتاب التي صدرت بعد سنوات من الطبعة الأولى وأضفتُ فيها فصلا جديدا يسرد وقائع عنف مختلف كنت شاهدا عليها تتعلق بعنف رجال المخابرات أثناء التحقيق. والقصد من الفصل المضاف كان المقارنة بين نوعين من العنف البشري، نوع يتشكل نتيجة ظروف حرب أهلية وآخر نتيجة طبيعة العمل، الأول عنف عرضي والثاني عنف ممنهج.

الأسلوب الذي سيطر على النص أسلوب يقترب من السينما، أو هو نص مكتوب من خلال كاميرا تشاهد وتسجل. أنا في الأساس مخرج سينمائي متخصص في الفيلم التسجيلي تحديدا، وهذا ما انعكس بوضوح على النص. لم أكتب سيناريو، ولم أرغب بذلك أبدا، بل كتبت نصا مصورا بعين سينمائي. في الحقيقة تحمس أكثر من مخرج صديق لتحويل النص إلى سيناريو فيلم طويل، لكن لم يتحقق أي سيناريو، ربما ذلك بسبب غياب “البطل” فيه.

 

“سبع” الأسطورة

تذكرت المتنبي وتذكرت بيته في حمل السلاح:

إن السلاح كل الناس تملكه
وليس كل ذوات المخلب السبع

لكن في كتاب عدنان هناك سبع آخر لا أعرف إن كان اسمه مستعارا كما يحدث بكل الحروب أم حقيقيا؟

يكتب عدنان في هذه الشخصية السينمائية الحقيقية ما يلي: كان سبعُ عبر أحاديث معارف أسطورة.. أسطورة مقاتل بدوي الملامح بارع وشرس. كان يحافظ على مظهره العسكري الصارم، وكان وجهه المتجهم دائما يوحي بالرهبة التي يزيدها البريق الأحمر الحاد الذي يشع من عينيه، والذي يخيف أي شخص يحدّق في وجهه مباشرة.. إن مظهره الخارجي وطريقته في الحديث لا يوحيان لمن يتعرف عليه للمرة الأولى بأن من الممكن عقد أوصار الصداقة معه.

لكن عدنان تمكن من التقرب إليه والوصول إلى حميميته السرية، ليضيف في آخر الباب المخصص له: بعد أيام استشرته في إمكانية حصولي على مسدس، قلت له إنني غالبا ما أعود إلى المنزل في ساعة متأخرة من الليل وقد أحتاج إلى مسدس لحمايتي من أي طارئ.. أوضح لي سبع أن حمل السلاح يولّد شعورا مزيفا بالقوة، لذا فإنه قد يورطني في مشكلة أنا في غنى عنها، وأكثر من ذلك قد يشحنني السلاح بعنف في غير محله.. ثم أردف وهو يبتسم: إضافة إلى ذلك قد تشهر مسدسك في وجه شخص ما فيشهر في وجهك بالمقابل بندقيته الرشاشة.. زارني سبع يعد أيام وهو يحمل بندقية رشاشة، أمضى السهرة عندي وقضى ليلته أيضان وفي الصباح عندما استيقظت كان سبع قد غادر، لكن دون أن يأخذ الرشاش معه. انتظرت بضعة أيام أن يعود ليأخذ رشاشه، وعندما لم يحضر لبيتي ذهبت إليه لأطلب منه أن يأخذ سلاحه من عندي. ابتسم وقال: لقد تركته لديك عمدا، ألم تكن ترغب في الحصول على سلاح؟  قلت له إن وجود السلاح في بيتي أصابني بالتوتر رغم أنني وضعته داخل خزانة. قال: أترى.. حمل السلاح ليس بالأمر السهل.

كم هم المراهقون الذين يحملون السلاح تباهيا أمام البنات متوهمين أن المسدس يضيف إليهم قوة جنسية أكبر في بعض مدن أمريكا اللاتينية، وكم هم المجانين الذين يجدون في حمله عملا بطوليا مثل الجوكر، وكم هم الذين تجرهم أوهام الثورات المصطنعة إلى جبهات لا يعرفون فيها حدود خنادقها ولا هوية الرصاص المتهاطل فيها عليهم؟!

كم هم الأشخاص الذي يقاتلون ولا يدركون أنهم كراكوز بين قوى رتبت كل شيء بدراية وبعين تنظر للعالم من فوق قمر اصطناعي وليس من عين إبرة؟

كم هي أفلام الأبطال المضخمة المنتَجة من الشركات الأوروبية تحت غطاء إنساني لكن بتقنيين ومخرج أوروبي ثان مرافق ومُراقب مع اسم عربي يوضع بالواجهة لبيع الملصق؟

كم من فيلم تلصيق مكون من لقطات وفيديوهات صُقلت وحُرفت واستُعملت دون رخصة من أصحابها تم عرضها بواجهات العالم كسينما ثورية؟

هل سياسة البلدان لها علاقة بكمية السلاح ونوعيته أم أنها مرتبطة فقط بحجم الاقتصاد؟

هل الدول النووية السلاح بعيدة عن أي تهديد لأمنها الوطني أم أن السلاح النووي جنون إنساني لن نسيطر على مفعوله؟

هل الحروب القادمة ستكون طائفية دينية أم اقتصادية علمانية أم أن أهمها ستكون عن مصدر الحياة؛ الماء؟

الماء هو سيناريو الحرب المحتملة بين مصر وإثيوبيا في غياب تسوية سلمية عادلة بين الطرفين.

في لبنان لم تكن الحرب على الماء ولا على البترول كما لم تكن بين طرفين مثل ما يحدث في السينما؛ بين قوى الخير والشر، وإنما بين أطراف متعددة ومتداخلة لا يفرز خيوطها حتى الآن حتى أهل البلد أنفسهم.

فهل نالت الحرب الأهلية اللبنانية نصيبها من السينما بعد أفلام اللبنانيين من فيلم جوسلين صعب “بيروت أبدا” عام 1976، وفيلم جورج شمشوم “لبنان.. لماذا؟” عام 1977، وفيلم برهان علوية “بيروت اللقاء” عام 1981، وفيلم مارون بغدادي “حروب صغيرة” عام 1982، وفيلم بهيج حجيج “الخط الأخضر” عام 1988؟

وهل كانت السينما غير اللبنانية لنفس الحرب موازية أم مكملة لنظيرتها اللبنانية مثل فيلم الجزائري فاروق بولوفة بفيلمه “نهلة” عام 1979، وفيلم الألماني فولكر شلاندورف “المزور” عام 1980.

 

السينما في خدمة الحروب

كان نشاط السينما في السبعينيات والثمانينيات زخما رغم ثقل المعدات وصعوبة التحميض السريع حتى لعيار 16 ملم الذي كان الأقل كلفة. كان استعمال كاميرات “إريفليكس” التي أصدرت نسخة 15 ملم عام 1952 تناسب حروب الشوارع.

ويعود استعمال كاميرات “إريفليكس” إلى الحرب العالمية الثانية وكانت تستعمل بشكل واسع في الجبهات الألمانية، وهذا بقرار من هتلر الذي أمر بتصوير كل ما يحدث؛ ليس فقط للبروباغندا (الدعاية)، بل لإدراك وتقدير أن إمكانياته مازالت قادرة على مواصلة الحرب.

إنها وسيلة براغماتية لتقييم الخسائر الميدانية، لكن أحيانا التقدم الإستراتيجي قد يعطي نتائج معاكسة لما صُممت له.

عندما قصفت الطائرات الألمانية لندن يوم 7 سبتمبر/أيلول 1940 وتواصلت إلى 21 مايو/أيار 1941، اعتقد الألمان أن المدينة دُمرت عن آخرها، وهذا الاعتقاد غيّر مسار الحرب.

وقد جاء هذا الاعتقاد من صور الكاميرات التي وضعت تحت الطائرات فلم تعد تصور إلا الدخان المتصاعد بعد القنابل الأولى، فتوهم الألمان أنهم قضوا على الإنجليز نهائيا. السينما أحيانا قد لا تترجم وقائع الميدان بشكل صحيح إن استعملت بطريقة غير مناسبة.

كاميرات ” إرفليكس” التي ظهرت أول مرة بمعرض ليبزيغ عام 1937 بعيار 35 ملم صُممت من طرف شركة أرِّي (Arri) المعروفة لحد الآن في عالم السينما والتي تأسست عام 1917 من طرف “أوغست أرنولد” (Auguste Arnold) و”روبرت ريختر” (Robert Richter).

لم يكن مفهوم النشطاء واردا وقتها، ولم يكن المصورون والمخرجون الذين تفاعلوا مع الحرب مثل عدنان مدنات يعتبرون أنفهسم أبطالا أو يمسكون بمواد حصرية باهظة الثمن لأنهم لم يقوموا بهذا من أجل المال وإنما من أجل السينما النضالية.

الكاميرا والبندقية يتنافسان في علاقتهما مع الزمن، فالبندقية تُخرج الإنسان من الحاضر بطلقة، والكاميرا تُدخل الشخص نفسه في الخلود بلقطة.

  • سينما النشطاء انتشرت بتعدد المظاهرات، حيث اكتشف كل حامل هاتف أنه “فلاهرتي” جديد. هل التسجيل في هذه الظروف الاستعجالية يعتبر سينما أم أرشيفا، وكيف يتحول الأرشيف إلى سينما؟

لا أرى مشكلة في هذا، بل أراه أمرا إيجابيا، فهو يجسد نوعا من الديمقراطية، إذ إن التقنيات المتاحة للجميع تعطي لكل راغب الفرصة للتعبير على نفسه بوسيلة السينما، و هو ما يقتصر على قلة محظوظة فقط من أهل الاختصاص ممن يتوفر لهم التمويل. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن يُنتج حامل الهاتف فناً وأفلاما مبدعة، بل مجرد أفلام تعنيه وحده، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح. على كل حال ما يجري تصويره على الهاتف بات يشكل أرشيفا حقيقيا للوقائع التي تجري في العالم، فحيث لا توجد فِرق تصوير تنتظر الحدث يُصور الهواة الأحداث أثناء تواجدهم بالصدفة، فيساهمون بذلك في نشر المعلومات حين يبثونها فورا عبر وسائل الاتصال الجماعي.

 

هاتف يصنع سينما!

لقد ساهمت الجزيرة باكرا في إعطاء مصداقية للتصوير عبر الهاتف النقال لبثها أول مظاهرة من سيدي بوزيد بتونس في أول شعلة للثورة التونسية.

أما هوليود فاستعملت الهاتف في إخراج فيلم عالمي مع مخرج ليس في أول مشواره وهو ستيفن سودربرغ، والفيلم هو فيلم “أنسين” (UNSANE).

هل هذا دعم لشركات هواتف نقالة أم دعاية باهظة التكاليف من الصانع أم أن تلاقي خطوط الهواتف بخطوط التوجه الصحفي هو الذي خلق نوعا جديدا في التعبير اليومي؟

لماذا لم يحدث هذا مع الصحافة المكتوبة على اعتبار أن كل شخص يمكن أن يحمل قلما في جيبه؟

هل الكتابة ليست في متناول العامة أم أن الضغط على زر التسجيل يشبه الضغط على زر الإنارة بأي غرفة في البيت؟

هل الهواتف تبعد الناس عن الكتابة وتخلُف مكان ذاكرتهم حتى إنهم صاروا لا يتدخلون في حالات الطوارئ بل يفضلون تصوير الحادث؟

كم من فيديو لأشخاص يغرقون أو يُضربون أو يُسرقون متوفرة على الشبكة العنكبوتية الإعلامية مصوروها كان بإمكانهم إنقاذ حياةٍ أو منع سرقة أو إسعاف محروق؟

هل الهواتف صارت قريبة إلى محتوى الفكرة السائدة “لم أر، لم أسمع، لم أقل”، لتتحول إلى “صوّرت الفيديو لما جرى وقيل وسُمع”؟

هل نحن أمام أيدولوجيا الذاتية المفرطة التي تعزل الناس عن بعضهم رغم اشتراكهم في نفس خيوط الشبكة؟

هل الحرية المزعومة التي تمنح كل مواطن التعبير عن وجوده بتصوير ما يريده في أي وقت طُعمٌ يسمح باستقصاء الرأي العام واستباق توجهاته أم أنها فعلا حرية مطلقة؟

هل حرية التعبير صراحة مفرطة أم رأي مخالف فقط؟

هل الهواتف خطر على الحكومات الانتهازية أم سلاح للديمقراطية الشعبية؟

 

  • السينما التي تعلمتَها بروسيا والسينما التي مارستها، هل تنطبقان أيدولوجيا وفنيا؟

السؤال عن التطابق الأيدولوجي بين ما درستُه وما حققته من أفلام يحتاج إلى تصحيح، فكلمة أيدولوجيا هنا لا محل لها، ربما من الأصح الحديث عن المنهج الذي تحققت تجربتي كمخرج وككاتب من خلاله. الأفلام التي حققتها هي أفلام تسجيلية، مادتها الواقع الحي بالطبع. والمنهج الذي استندت إليه يعتمد على تأثري بـ”دزيغا فيرتوف” الذي عرّف السينما التسجيلية بأنها “شِعر الوقائع”، وذلك في وقت مبكر من عشرينيات القرن العشرين، وهو سبق ذلك التعريف المقارب الذي أطلقه “غريرسون” المخرج الإنجليزي في أواسط العشرينيات حين اعتبر أن الفيلم التسجيلي هو “معالجة فنية للواقع”. كما أن هذا المنهج ينسجم مع التعريف المتداول للفيلم التسجيلي باعتباره “إعادة تنظيم للواقع”، بعكس الفيلم الروائي الذي هو إعادة خلق للواقع. فنيا، فإن المونتاج بالضرورة يلعب دورا مهما في دعم تجسيد هذا المنهج.

عدتُ فورا إلى صفحات كتابه السينمائي “السينما التسجيلية.. الدراما والشعر” مدققا في فهرس مواده والبحث عن رابط بين إجابته ونص مطابق أو مخالف لقوله حتى لا يبقى النقاش بيننا وإنما بين تفكيره الماضي وبين رؤيته الحاضرة من جهة، ثم بين استيعابي لمضمون كتابه وبعض أحاديثنا الشخصية عندما التقيته بعمّان.

السينما لغة بذاتها لا تحتاج إلى فواصل وكناية وإعراب الحروف كي يتمتن سائسها، كما لا تحتاج إلى حُلى وموسيقى وفنون مكملة كي تزيد بريقا. فهل الصورة والإطار كافيان لحشر جماليات وقوة الفكرة المرئية في ثوان.

في باب “دراما المواد الأرشيفية”، يتطرق عدنان إلى فيلم “ميخائيل روم” (Mikhaïl Romm) “فاشية عادية” عام 1965 والذي أُنجز من خلال الأرشيف النازي والشخصي لهتلر، حيت تم استخدام هذه المواد بشكل معاكس لهدفها الأساسي البروباغندي.

نال الفيلم الجائزة الكبرى بمهرجان “ليبزيغ” بألمانيا وصار نموذجا لأجيال عربية نسخت من قالبه أفلاما لها وزنها في الفضاء السينمائي العربي.

وقد أخرج الجزائري عز الدين مدور عام 1985 فيلم “كم نحبكم” مستخدما أرشيف وكالات الأخبار الفرنسية التي كانت تعرض صورها بالجزائر وبالعالم عن عملياتها الحربية ضد الثوار الجزائريين وتُقدمهم على أنهم ” فلّاقة” أو تجمعات إرهابية.

السخرية من مادة صُممت للدعاية السياسية وتحويل محتواها الجدي إلى مضمون مضحك؛ وسيلة تستعملها لحد الآن الصحافة الغربية لتشويه صورة من تريد في العالم العربي، وهذا الأسلوب نجد أصوله في فن الكاريكاتير الفرنسي الأصل. وقد استُعمل كثيرا بفرنسا وأمريكا بالإشهار المقارن والحرب الإعلامية التي تشنها الماركات العالمية ضد بعضها.

 

  • هل السينما الممارسة عربيا بعيدة عن المفهوم السينمائي الذي حلمت به بعد عودتك من موسكو؟

عدت بعد الجامعة إلى دمشق في العام 1972، وعملت مع المؤسسة العامة للسينما كمخرج. في ذلك الوقت كانت قد بدأت المساعي من قبل مخرجين شبان لإقامة المهرجان الأول للسينمائيين الشبان العرب والذي انعقد في شهر أبريل/نيسان وطرح شعار “السينما العربية البديلة”. البديلة عن ماذا؟ البديلة عن السينما العربية التجارية السائدة التي كان يُنظر إليها على أنها تشوه الواقع العربي. كانت هذه المساعي تتطابق مع أفكاري آنذاك، لذلك انخرطت بحماس في الجهود المرتبطة بالسينما العربية البديلة، وبخاصة عبر المقالات التي كتبتها عن هذا الموضوع. كما شاركت في عروض المهرجان بفيلمي القصير “التكية السليمانية”، وهو فيلم يتمتع بقدر كبير من التجريب الفني.

الحلم البديل في السينما

لكن ماذا بقي من الحلم البديل والجيل البديل؟ هذا المصطلح قد لا يعني شيئا الآن، مثل مصطلح “الموجة الجديدة” الفرنسية. إنها تسميات يلجأ إليها النقاد وكتّاب السينما لوضع نوع من الأفلام في دولاب معين.

الظاهر الآن أن المنتجين الأوروبيين المندسين في إنتاج الأفلام العربية الأفريقية يسيطرون حتى على المد والجزر وفي عمق قاعاتنا. فكيف نفسر الولع الجديد لسينما بلد معين تم تنفيذها بتقنيين أوروبيين وفرضها على كل المحافل العربية بعد أن تُوجت بشكل أيدولوجي في مهرجانات الغرب كي تخلق نموذجا يُقتدى به؟

هل الإنتاج الأوروبي حاليا أكثر بروباغندا من السينما السوفياتية والسينما الأمريكية؟

إننا نحتاج إلى إنتاج بديل وتوزيع بديل. نحتاج إلى نقد بديل وكتب بديلة وقراءة بديلة لمفهوم السينما كأداة لتثقيف الناس وليست كملهى أو مصدر لإشباع فضول سخيف.

نحتاج إلى جمال بديل وذوق بديل وأناقة بديلة في السينما والأدب وكل مكونات الحضارة والفكر في مجتمعاتنا.

 

  • في كتابك “السينما التسجيلية.. الدراما والشعر”، تتطرق لجماليات الفيلم التسجيلي.

السينما قامت أساسا على تقنية تعكس الواقع، وفعليا لا تعكسه بل توهم به. في بدايتها لم تكن السينما قادرة على تصوير أي شيء ما لم يكن موجودا أمام الكاميرا، وكان الواقع هو المرجعية للصورة السينمائية. التطور الرقمي للسينما جعل من الممكن خلق عالم افتراضي، عالم لا يوجد فعليا أمام الكاميرا.. لكن مع ذلك، يبقى الواقع هو المرجعية الأساسية، حتى للواقع الافتراضي، فالعقل البشري، مهما بلغ من درجات الخيال، لا يمكن له أن يتخطى الواقع، وهذا ما يمكن التأكد منه عبر دراسة كل ما أنتجه العقل البشري في مجال الأدب الخيالي عبر التاريخ، وما ينتجه الآن في الأفلام ذات التقنية الرقمية.

إذا كانت المواضيع التي تعالجها الأفلام ملقاة “على قارعة الطريق”، فإن مادة وصور الواقع هي كذلك، لكن ما يميز الفنان المبدع هو أنه يرى ما لا يرى غيره، ويحكي للناس ليس فقط عما لا يعرفونه، بل يحكي -حسب ما كتب ذات يوم المخرج الراحل نبيل المالح- عما لا يعرف الناس أنه يجب عليهم أن يعرفوه.

لهذا كله السينما التسجيلية تحافظ على مشروعيتها، والسينما التسجيلية فن، والفن يتجسد عبر الفنان؛ عبر عقله وأحاسيسه وذوقه، وما يريد قوله وكيف يقوله، وكيف يختار من الواقع ما يلائم هدفه وبأي أسلوب، والأسلوب -كما هو متعارف عليه- هو الشخص؛ إي الفنان.

من الطبيعي أن الواقع السينمائي هو واقع مواز للواقع المادي، واقع معادٌ خلقه ومعادٌ تركيبه عبر حكاية ما. والسينما لا تروي الواقع مجردا وصافيا بل ترويه عبر الحكاية، والحكاية خيال. وهناك من يعتبر أن المهم في السينما ليس فقط أن مرجعيتها الواقع، بل أساسا ما يمكن تصديقه من قبل المشاهدين على أنه واقع، لهذا قد لا نعرف ما سيحصل في الواقع، لكننا حتما يجب أن نعرف كيف سيحصل في الواقع المعاد خلقه وتركيبه في الفيلم، وتحديدا في الفيلم الروائي.

أوردت في كتابي “السينما التسجيلية.. الدراما والشعر” العديد من نماذج الشعرية في أفلام تسجيلية، لكن يجب ملاحظة أن المجاز الذي هو أساس الشعرية، لا ينعزل في السينما عن الواقع، وكما قال بازوليني ذات يوم “لا يمكن أن أرمز لك بتفاحة ما لم أصور تفاحة حقيقية”.

 

التمويل والإضرار بالسينما

هل ترتبط السينما حتما بالواقع، وهل الجمال فيها ناجم عن تركيب الواقع في قالب معين؟

هل هذا النوع يُظهر الجمال في أشياء لا ننتبه لها في حياتنا اليومية؟

هل الإطار يعزل الشيء المصور أم يخرجه من شفافية الحياة العابرة؟

كيف يمكن كتابة سيناريو لحياة واقعية لا نعرف منطقيا ما قد سيحدث فيها من يوم لآخر؟

هل الكتابة السينمائية هي التي تتم عند التركيب؟

هل التركيب تنظيف للمواد المسجلة أم وتيرة موسيقية تُسمع بالعين؟

لكن السينما تحتاج إلى التمويل، ومن دون أسس إنتاجية تديرها سياسة مُخططٌ لها لا يمكن بناء حقيقة سينمائية وطنية حرة.

  • هل الدعم الممنوح من طرف التلفزيونات والمهرجانات والجمعيات المتعددة -وخاصة الأجنبية منها- هو نوع من الرقابة الجديدة، أم فرز للمشاريع المناسبة للسياسة المخطط لها؟ وإلى أي مدى قد يضر هذا بالإبداع السينمائي العربي؟

قضية الدعم الأجنبي وما يثار حوله من نقد سلبي واتهامات في الواقع، وفي غياب قطاع عام سينمائي عربي يتيح للمخرجين تمويل أفلامهم؛ يضطر السينمائيين للتمويل الأجنبي ولاستحقاقاته المتمثلة بفرض أفكار ومواضيع محددة. في العادة ينكر الممولون أنهم يفرضون أي شيء على المخرجين، ويقولون إنهم فقط يقدمون “مساعدة تقنية” لتحسين السيناريو، وهي مساعدة في حقيقتها تنتهي إلى تنازلات في مجال المضمون. وقد اكتسب الكثير من المخرجين العرب الخبرة في مجال “المساعدة التقنية” التي تتيح لهم إنتاج أفلامهم أو توزيعها عالميا أو عرضها في المهرجانات، فصاروا يصممون مشاريعهم وفقها. هذا هو الواقع قبلناه أم رفضناه.

هل السينما “استرجال” أم “نسوة” يمكن الانهماك فيها بامتلاك أجود هاتف أو أجود الكاميرات، أم أنها دراسة لسنوات وتفكير ومنهج في الحياة وليست مهنة تختارها لأن الخِبازة والصيدلة وقيادة التاكسي وظائف ليست شاغرة؟

لماذا نقبل أن تُدرّس الموسيقى لسنوات وأن تدرس الفنون التشكيلية بنفس الشكل وأن يدرس المسرح بالمثل، ولا نقبل أن تُدرس السينما بنفس المنهج؟

لأننا لا نُفسّر ما الذي يسمح لأي ممثل وأي كاتب أن يتحول فجأة إلى مخرج وكاتب سيناريو؛ يحدث هذا بالبلاد العربية كما يحدث أيضا بالغرب.

 

  • لماذا لا يوجد في الوطن العربي مدارس سينما ببرامج مفصلة وشاملة لكل اختصاصات هذا العلم؟ كيف يمكن إعداد سينما وطنية ومنهج فكري سينمائي دون تأطير سينمائي دقيق؟

لا يمكن الوصول إلى سينما وطنية دون إنتاج وطني وتحديدا من قبل قطاع سينمائي عام وطني. هذا كان المطلب الرئيسي للسينمائيين العرب الشباب منذ مهرجان دمشق للسينما العربية البديلة عام 1972. المثال الأبرز المعاصر هو “المؤسسة العامة للسينما” السورية التي تنتج الأفلام على أنواعها على قاعدة غير ربحية، وأنتجت -ولا تزال- عبر تاريخها بعض أفضل الأفلام العربية.

  • هذا العام عيد الميلاد المئة لأول مدرسة سينما بالعالم “فغيك” (VGIK) في روسيا، كيف تفسر هذا الإنجاز العملاق، وهل له علاقة بسياسة معينة أم أن هناك أرضية فكرية خاصة سمحت بوجوده؟

أهم معهد للسينما في العالم العربي يوجد في مصر، وثمة تدريس للسينما في بعض الجامعات اللبنانية، وأعرف أنها تتوفر على أساتذة مؤهلين وتخرج من هذه الجامعات مخرجون قدموا أفلاما مهمة.

عندما درست السينما التسجيلية بجامعة موسكو كانت المواد تضم الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع وتاريخ الصحافة وتاريخ الأدب الروسي وتاريخ الأدب العالمي والفلسفة وعلم الجمال.. بالإضافة إلى المواد المتعلقة بالسينما والتلفزيون.

لقد درست نصف عام في السنة الأولى قبل أن أنتقل للدراسة في جامعة موسكو والتخصص في الفيلم التسجيلي، لكن “فغيك” (VGIK) نتج عن فهم القيادة السياسية لدور السينما، وساعد في إنجاح مهمته أساتذة عظام، مفكرون في المجال النظري، ومبدعون في مجال الإخراج، ومنهم أيزنشتاين وميخائيل روم.

 

الحياة عندما تكون تسجيلية

كان في عام 1974 حياة “تسجيلية” تُكتب يوميا لخص أهمها عدنان في مقدمة كتابه “حكايات ليالي العنف” حيث نقرأ: صار العنف أحيانا يحمل طابعا احتفاليا حتى وإن لم يكن أحد يدرك أبعاد ذلك.. لم يعد إطلاق النار وحده في الاحتفالات يكفي لإشباع العواطف المتأججة، فانتشرت عادة تفجير القنابل الصوتية وأصابع الديناميت في الأعياد وفي الأعراس والاحتفالات.

الصفحة 25 من كتاب عدنان تنذر بالكثير، ولم ينتبه في عين المكان -ربما إلا قلة- أن البلاد ملغومة، وأن كل شبر قد يتحول إلى خندق بلون مختلف عن الخندق المجاور. يواصل عدنان الأمثلة التي ستكتب ليالي العنف ويدقق في الأمثلة. يقول: معلم عاشق يفجّر بالقنابل منزل عائلة الفتاة التي أَحب ورفض أهلها تزويجها له، مما تسبب بقتل بعض أفراد عائلتها.. عسكري كبير في الجيش برتبة عقيد يتصدى لسيدة من سيدات المجتمع الراقي وسط شارع مكتظ -وهي عشيقته التي تخلت عنه- ويحرق وجهها بماء النار.

كانت الصحف تنشر يوميا هذه الأخبار الأليمة، وبالتوازي مع هذا النص الدامي ينوه عدنان إلى شيء لاحظتُه صغيرا في الجزائر: “في تلك الفترة انتشرت بنجاح في صالات السينما أفلام الكاراتيه”.

لعبت هذه الأفلام دورا جديدا في لفت الأنظار عن الكرة والملاكمة وسباق الدراجات التي كانت دون منازع الألعاب الرياضية الأكثر شعبية في العالم.

في صراع الملصقات المتناحرة على شباك التذاكر، كانت هناك أفلام لم تنجَز، وأفلام لم يصل الحمل فيها إلى مبتغاه.

كان عدنان مدنات قد انتهى من فيلم “خبر عن تل الزعتر”، وبادر إلى تصوير فيلم عن الحرب الأهلية التي تعدت مرحلة الأعراس والتدريبات الأولى. استعمل فيها طريقتين: الأولى تشبه فرق وكالات الأخبار في استقصاء كل قذيفة واتباع كل مجموعة مقاتلة وترصّد كل تفجير. أما الطريقة الثانية فكانت أقرب للتفكير السينمائي، حيث كان يقتفي صدى الحرب على حياة الناس والتأثير الدرامي لها عليهم.

فيصف في فصل “الفيلم غير المنجز” هذا المشهد الذي لن نراه لأن المادة ضاعت بين عبوات ناسفة، لكن لم تُنسف من ذاكرته بعض الصور النادرة: فوجئتُ مع فريق التصوير بامرأة تسير في الشارع في حالة من الذهول، كانت في حوالي الخمسين من عمرها وترتدي ثيابا بسيطة. كان الرعب والاضطراب يسيطران عليها وبدت كمن يبحث عن شيء ما.. اقتربت منها بعد أن أوعزتُ للمصور بتصوير الحدث.

–  ما الأمر؟

– أريد أن أشتري بعض الحلوى (كانت لهجتها مصرية)، هل تدلني على متجر مفتوح؟

– عودي إلى بيتك، ألا ترين أنك وسط معركة؟! لا متاجر مفتوحة، عودي فقد تصابين برصاصة في أية لحظة.

– لا أستطيع، يجب أن أشتري الحلوى لسيدتي.. هي تشتهي الحلوى الآن.

– عودي وقولي لها إنك لم تجدي الحلوى.

– لا أستطيع، لقد هددتني بطردي من العمل والبيت إن لم أحضر الحلوى، وهي عجوز لئيمة جدا.

يوضح عدنان جيدا الفرق بين التفكير الإعلامي والتفكير السينمائي، فبينما كان وضع السيدة المصرية أكثر درامية وإنسانية، كان همّ أحد المصورين الإخباريين وقتها أنه صور جريحا ينزف.

الحصرية تختلف عن التسجيل المخمر الذي يحتاج إلى زمن تفرز فيه المواد رحيقها. الشاعرية ليست سمفونية غرامية في العشق، وإنما عبوة مشاعر تُفجر في قلب المشاهد.

عدنان مدنات المولع بالعين السينمائية التي أسسها “تزيغا فيرتوف” مازالت عينه تراقب كل حرف يُثقل كلمة، وكل لقطة تعطل فكرة المشهد. مازال الناقد والمخرج يحتفظ ببريق العين التي تفرق بين التسجيل والتدوين والتوثيق وبين الربورتاج والأرشيف والتقرير والسينما المباشرة والبروباغانذا.

هناك فصل الحب وفصل الطلاق وفصل القرب وفصل الحنين وفصل البعد وفصل الأنين، كما هناك الفصل بين السياسة والدين والفصل بين “س” و”ع” والفصل بين اليسار واليمين.

هناك بيوت نفقدها لكن يبقى حنين النوم فيها أهنأ من أي مكان، هناك أفلام نفقدها لكن لقطاتها تُعرض دوما في ذاكرتنا باستمرار، هناك أوطان ترفرف راياتها بالكيان وتُحدِث زفيرا غير منقطع.

فكيف ننجو من فقدان هذا وذاك حتى لا نفقد الذات؟

عدنان مدنات يدير حاليا قسم السينما بمؤسسة عبد الحميد شومان بعمّان في الأردن، ويسعى لبرمجة أفلام تخرج عن السرب، كما ينظم دوريا ورشات سينمائية للشباب الأردني بشكل منتظم.