مهندس الديكور توفيق الباهي للوثائقية: الديكور الناجح في الفيلم هو الذي لا تراه
حوار: بلال المازني

“الديكور الناجح في الفيلم هو ألا ترى الديكور”.. استوقفتني هذه الجملة في حوارنا مع واحد من أكبر مهندسي الديكور التونسيين توفيق الباهي، فهي تبدو جملة غير منطقية وربما تنفي وظيفة الديكور في السينما أو تقلل من أهميتها. لكن بالعودة إلى العديد من الأفلام الحاصلة على الأوسكار في تصميم الإنتاج وهندسة الديكور؛ وجدت فعلا أن الديكور متماهٍ بعبقرية كبيرة مع الإضاءة والشخصيات لدرجة أنك لا تلاحظه أصلا.
مهنة أخرى من مهن السينما التي نتابعها في حواراتنا، والتي تجعل من الديكور ذلك الجزء الخفي الذي يجعل من اللقطة بذلك التوازن والجمال والفن. مع مهندس الديكور توفيق الباهي نتابع كواليس هذه المهنة في حوار مع “الجزيرة الوثائقية”:
- في العديد من الأفلام شاهدت اسمك حاضرا بقوة وكثافة في الديكور، وبعد المشاهدة الثالثة أو الرابعة للفيلم واستيعاب كل تفاصيل اللقطة؛ وجدت فعلا أن ديكور توفيق الباهي مختلف. فمن هو توفيق الباهي صاحب تلك البصمة في هندسة الديكور؟
أنا مهندس ديكور ونحّات، درست الهندسة المعمارية في فرنسا، وبعد حصولي على شهادة البكالوريا تم توجيهي لدراسة الطب، حيث درست سبعة أشهر ثم غادرت كلية الطب في تونس، لأنه لم يكن الاختصاص الذي أحب. كما درست المونتاج في فرنسا، وبعد إنهاء دراستي ورجوعي إلى تونس لم تكن أبواب العمل في الهندسة المعمارية مفتوحة على مصراعيها، وتوجهت للعمل في مجال السنيما، وفي الإنتاج تحديدا لمدة 15 سنة.
في الواقع لم يكن هذا المجال غريبا عني، فقد تربيت في عائلة لها علاقة كبيرة جدا بالسينما، فقد سار كل إخوتي على خُطى شقيقي المخرج رضا الباهي، ثم حققت حلمي سنة 1996 بالعمل بصفتي مساعد مهندس ديكور في فيلم إيطالي، وقد فتحت لي تلك الفرصة الذهبية الباب لدخول هذا العالم، وانطلقت مسيرتي لأعمل بعد ذلك في فيلم “نغم الناعورة” للمخرج عبد اللطيف بن عمار، كما اشتغلت معه في فيلميه “أمينة” و”النخيل الجريح”، وفيلم “زهرة حلب” لرضا الباهي، و”السنونو لا يموت في القدس”، والفيلم التونسي الجزائري “أغسطينوس ابن دموعها” الفائز بجائزة الإنجاز الفني في مهرجان الإسكندرية، والعديد من الأفلام العربية والأجنبية. وإجمالا عملت في قرابة أربعين فيلما وأكثر.
- كانت لك أيضا تجارب في السينما مع مخرجين عرب وأجانب، ربما حملت معك الخبرة والنظرة التونسية في تصميم الديكور لهم، فما هي أبرز التعاملات التي تعتقد أنك أثّرت وتأثرت بها في السينما خارج حدود الوطن؟
نعم اشتغلت مع المخرج السوري محمد ملص في فيلمه المهد، وفي فيلم “كولونيل لطفي” للمخرج الجزائري أحمد الراشدي، كما كانت لي تجربة في السينما الأمريكية في فيلم “الموعد الأخير” (deadline) والذي خضت فيه إضافة إلى عملي كمهندس ديكور تجربة التمثيل حيث تقمصت دور الرئيس اللبناني أمين الجميّل، والفيلم الفرنسي “فيلا الياسمين” للمخرج التونسي فريد بوغدير، وفيلم “المندس” للمخرج الفرنسي تيري دي بريتي، إضافة إلى فيلم “الشمس المقتولة” للمخرج الجزائري عبد الكريم بهلول، كما كانت لي تجربة في السنيما الألمانية من خلال فيلم “الأصدقاء الخمسة”.. كل هذه التجارب خارج تونس كان لها تأثير كبير على مسيرتي، وكان تحدي تصميم الديكور المناسب هاجسا كبيرا، خاصة بعض الديكورات المعقدة مثل ديكورات الحرب أو ديكور حقبة زمنية غابرة.
- كيف أصبح لتوفيق الباهي إشعاع عالمي؟
كان الأمر صدفة في البداية، ثم أصبحت أعمالي سببا في التوصية بالتعامل معي، دون علمي بالطرف الذي يقوم بتلك التوصية، وهذا يدل على أن العمل المتقن وعشق الصنعة التي تحب يفتح لك أبواب النجاح.

- بالعودة إلى الديكور، أحيانا تستوقفك لقطة ترى أن إكسسوارا ما مُسقط إسقاطا، أو أن الديكور غير متناسق مع الشخصيات والإضاءة، مما يؤثر سلبا على الصورة وبنيتها الجمالية، فكيف يمكن أن تعرف الديكور المناسب في مشهد معين؟
إذا شاهدت ديكورا في فيلم ما فهذا يعني أن مهندس الديكور فشل في عمله، فالديكور مثل الممثل، إذا كان مصطنعا يمكن أن يتسبب في فشل العمل السينمائي، لأنه يجب أن يكون منصهرا مع مشاهد الفيلم، وإذا صنع مهندس الديكور مشهدا خارج موضوع الفيلم فهذا يعني أنه فشل في مهمته، لأن الديكور الناجح هو الذي يكون حاضرا دون أن تلاحظه.
ويجب على مهندس الديكور أن ينقل أجواء المشهد عن طريق الديكور، فهو ليس مُطالبا بالبحث عن الجمال بالمقياس التقليدي بقدر إثبات واقعية الديكور وارتباطه بالزمان وبالشخصيات ومكان أحداث الفيلم، فالديكور الناجح في الفيلم هو أن لا ترى الديكور.
- العمل على الديكور يتطلب مراحل عديدة، فما هي أبرز هذه المراحل؟
الخطوة الأولى التي يجب على مهندس الديكور اتباعها هي قراءة السيناريو قراءة أولية، وذلك حتى يتسنى له تكوين فكرة عن المكان وأجواء الفيلم، ثم يقوم بقراءة ثانية ليقرر ما يحتاجه من أثاث وإكسسوارات ومؤثرات خاصة، ثم تأتي مرحلة معاينة واستكشاف مكان التصوير، حينها يبدأ بتشخيص ما يحتاجه، وآخر مرحلة هي تنفيذ الفكرة حتى تكون ملائمة للقصة ولتَصوّر المخرج.
وطبعا هناك جانب نفسي وإنساني مهم، وهو تلك العلاقة بين المخرج ومهندس الديكور التي يمكن أن تُنجِح العمل أو تُفشِله، فهي يجب أن تكون علاقة انسجام كامل لأن المخرج بمثابة قائد سفينة، فهو حتى وإن منحك هامشا من الحرية لتجسيد فكرتك؛ فإنك ملزم باحترام فكرته، فأنت لست بصدد صناعة فيلمك الخاص بل فيلم أحدهم.
- هل يمكن أن يؤثر ضعف الموارد المالية على نجاح عمل مهندس الديكور؟
طبعا، ما لاحظته في السنوات الأخيرة هو أن أفلاما كثيرة لم تتحصل على تمويلات كافية، وهو ما يضطرك أحيانا للاستعانة بما تملكه في المنزل من أثاث أو أكسسوارات من أجل تفادي النقص، وتضطر للقيام بمجهود شخصي مضاعف حتى تتمكن من تغطية أكثر ما يمكن من النقائص، لأنك لا يمكن أن تخاطر بسمعتك وتقدم عملا فيه نقائص. فضعف الميزانية يمكن أن يستنزف مجهودا مضاعفا للبحث، ورغم ذلك لا يمكنك تغطية كل النقائص التي تظهر بمجرد مشاهدة الفيلم.
- أعتقد أن تصميم الديكور يخضع لمقاييس علمية وفنية، وينتمي في الوقت ذاته إلى مدارس بعينها، فما هي أقرب مدارس الديكور إليك؟
حتما، فأهم مدارس الديكور وأقربها لي هي المدرسة الإيطالية، وهي تسبق المدارس الأخرى حسب رأيي مثل المدرسة الأمريكية أو الفرنسية وغيرها. وبمجرد الرجوع إلى الأفلام الإيطالية مثل أفلام تورنتوري وبازوليني وغيرهما فإنك ترى مدى عبقرية الديكور في الأفلام الإيطالية، ومدى تميزه عن كل المدارس الأخرى.

- هل تملك السينما العربية مدارس في الديكور؟
ليس بالمعنى الكامل للمدرسة، رغم أن السينما المصرية القديمة قدمت مشاهد ذات مستوى عال في مجال الديكور، وهي حتما لا تقارن بالأفلام المصرية الجديدة. وفي تونس مثلا نهل تقنيو الديكور القدامى مثل فوزي تريمش ومحمد دانيال ومحمود بوزقرو من المدرسة الإيطالية، وهم مختصون في الديكور ولهم صيت عالمي، وللأسف ليس هناك من يخلفهم في السينما التونسية.
- ما هي نصيحتك لمهندسي الديكور الشبان؟
يجب عليهم الاشتغال مع مخرج محترف، ومن المهم السعي نحو إيجاد الانسجام مع صاحب الفيلم، وهو ما حصل معي مثلا عند لقائي المخرج عبد اللطيف بن عمار، والذي لمس الانسجام بيننا عند أول لقاء رغم أنني لم أتحدث معه مسبقا.
ويجب أيضا مع اكتساب التجربة أن يكون هناك اجتهاد وعمل ذاتي، فلا أعتقد أن تلقي تكوين علمي في الديكور يصنع مهندس ديكور ناجح، فحسب اعتقادي؛ الموهبة وحب هذا العمل هما الأساس، فحين تواجه صعوبة ما فإن موهبتك هي التي تمكنك من إيجاد حلول عملية، وهي شيء لا يكتسب بل هو هبة تحملها منذ صغرك.