انتصار إيمان مطيع للوثائقية: المكياج السينمائي إبداع يحتاج لكثير من الاهتمام

المصطفى الصوفي

"انتصار" مولعة بالمكياج الفني وهي فنانة وممثلة مسرحية بدأت مشوارها في مجال المكياج الفني مع فرقة الإبداع المسرحي

الكائن الأسطوري الذي يدبّ على مهل بعين واحدة ووجه عبوس، تتطاير منه شرارة الشؤم والشر، يرمي بقوائمه الكبيرة التي تخبط خبط عشواء متجها نحو الجمهور، في تلك القاعة المظلمة ينشر هالة من الخوف في النفوس، حيث تتكلس المشاعر، ويعمّ صمت مريب في كل الزوايا، وذلك بانتظار خروج البطل لمصارعة الوحش، ليُخلّص العالم من هذا الجبروت الذي سلّطته الأرواح الشريرة على المدينة.

الكائن الأسطوري يكاد يكون حقيقيا بملامحه المخيفة وحركاته التي تخدش الخواطر في هذا الفيلم، والذي للأسف لم يستطع أي مخرج مغربي ابتكار شخوصه، فهو يعيش فقط في مخيال الفنانة المغربية خبيرة المكياج الفني والسينمائي انتصار إيمان مطيع، والتي تحلم بتصميم مثل هذه الشخصيات وصناعتها.

ولجت انتصار هذا المجال باحترافية عالية، وذلك بعد أن طوّعت وسائل إيجاد مثل هذه الشخصيات والكائنات الغرائبية، لتنتصر في كثير من المناسبات لسحر المشهد الفني والسينمائي الذي يتخذ من المكياج الفني مطية ساحرة لركوب المغامرة، بحثا عن ألق إبداعي يتطور ويتجاوز المألوف.

“انتصار” المولعة بهذا العالم هي فنانة وممثلة مسرحية بدأت مشوارها الفني في مجال المكياج الفني مع فرقة الإبداع المسرحي وفنون الشارع بخريبكة، حيث استلهمت من هذا المجال الكثير من أشكال الإبداع، وذلك عبر ابتكار أقنعة وتنظيم كرنفالات في الهواء الطلق، والاشتغال على ممثلين بلباس الشخصية المسرحية الحقيقية يجوبون الشارع، وذلك في مشهد فني غير مألوف يكاد يعتبره البعض نوعا من الجنون، لكنه لدى البعض الآخر نوعا من الإبداع.

تقول الفنانة انتصار -والتي تعتبر أن خبيرتي المكياج على المستوى الدولي كيتا أستوديو والكورية ميمي شوا قدوتاها- “إن المكياج السينمائي الشامل يمكن أن تَستعمل فيه مكياج الطفل ومكياج مسرح الشارع وفنون القناع والكرنفال والهالوين وغيره، كله حسب رؤية وتصور المخرج للعالم والشخصيات”.

وأضافت أن أبرز وأشهر مكياج سينمائي هو”إس إف أكس”، أي مكياج الجروح والكدمات في أفلام الحركة و”الآكشن” كشكل من أشكال المؤثرات والخدع البصرية، وذلك لإثارة المتلقي وجعله ينبهر ويتشوق لمعرفة بقية الحكاية حتى النهاية.

ومن أجل اكتشاف هذا المجال التقينا الفنانة انتصار إيمان مطيع في حوار خاص بـ”الجزيرة الوثائقية”.

انتصار: الموهبة لعبت دورا مهما في تجربتي

  • ما أهمية المكياج السينمائي في العملية الفنية بشكل عام، وهل يمكن اعتباره عنصرا ثانويا في الحلقة الفيلمية؟

الصحيح أن المكياج السينمائي أو المؤثرات السينمائية تلعب دورا أساسيا في العملية السينمائية والفنية برمتها، ولا بدّ لأيّ محترف أو خبير في هذا المجال من درايةٍ بعالمه.

بالنسبة لي يمكن القول إن الموهبة لعبت دورا مهما في تجربتي، كما يشهد لي بذلك العديد من المهتمين والأكاديميين والباحثين، وكل الذين تعاملت معهم سواء على مستوى السينما أو المسرح أو الورش التي قدمتها في مهرجانات سينمائية عديدة، فقد كانت بدايتي الحقيقية عام 2010 مع المكياج المسرحي، وهو الأساس في العملية الفنية.

وبالتالي أؤكد القيمة الكبرى للمكياج السينمائي في العملية الفنية، ولا يمكن اعتباره ثانويا بشكل من الأشكال، بل عنصرا قويا وفعالا ومساهما في إنجاح كل عمل سينمائي أو فني.

  • هل يعني أن المكياج السينمائي له علاقة بالمسرحي؟

فعلا، المسرح كما يُقال هو أبو الفنون، فهو الجامع لمختلف الفنون الجميلة والفنون البصرية، وحتى الشخوص الذين يتحركون فوق الركح (المسرح) ويجسدون أدوارا مختلفة كوميدية أو تراجيدية أو درامية، فكثير منهم هم ممثلون سينمائيون، وبالتالي فإن ارتباط المكياج السينمائي بالمسرحي هو ارتباط وثيق تتداخل فيه الكثير من الأنساق الفنية والميكانيزمات الإبداعية، وترتبط بالنص والممثلين والإضاءة والسينوغرافيا والحوار والأزياء والمؤثرات الصوتية والضوئية، فضلا عن المكياج الذي يمكن اعتباره حلقة مكملة للعملية الإبداعية بشكل عام، ليكون الإبداع متناسقا واحدا سواء كان مسرحا أو عملا سينمائيا، وأعتقد في هذا الجانب أن ارتباط الجانبين هو ارتباط عضوي ووثيق، لكن لكل واحد خصوصياته ومميزاته.

  •  وما هي خصوصيات المكياج السينمائي؟

على مستوى المسرح فإن الممثلين يحتاجون إلى لمسات دقيقة من خبراء المكياج، لأن الإضاءة القوية وطول العرض المسرحي والعرق الذي يتصبب في بعض الأحيان على وجه الممثل؛ تؤثر جميعها على القسمات والملامح، وقد لا تُعطيه تلك الصورة التي يريد أن يراه عليها المخرج. وهنا تبرز أهمية المكياج في الحفاظ على صورة الشخوص كما يريدها المخرج، إضافة لتصحيح وتعديل بعض الملامح، مع إضافة إكسسوارات ومؤثرات أخرى حسب نوع النص وموضوع المسرحية.

أما خصوصيات المكياج السينمائي فتنجلي من رؤية المخرج للشخصيات التي تجسد الأدوار المنوطة بها، وبالتالي فإن المكياج السينمائي يختلف عن المسرحي، خاصة على مستوى أفلام الرعب والخيال العلمي والأفلام الفانتاستيكية التي يمتزج فيها الواقع بالخيال والأسطورة والرؤيا السريالية للمخرج، وهنا تكمن جمالية السينما.

القيمة الكبرى للمكياج السينمائي في العملية الفنية، ولا يمكن اعتباره ثانويا بشكل من الأشكال، بل عنصرا قويا وفعالا ومساهما في إنجاح كل عمل سينمائي

  • وكيف وصلتِ مجال المكياج السينمائي وخبرتِ عوالمه؟

 كل من ولج هذا المجال يدرك أن دراسة هذا الفن لا تكفي، وكل ما هو نظري قد لا يصنع فنانا محترفا، لكن بالممارسة وتطبيق كل ما هو نظري، وبالتكوين وإعادة التكوين والمواظبة على الورش الفنية، والبحث والتقصي وابتكار الوصفات، والاحتكاك وتبادل التجارب، والاشتغال في أعمال عدة، خاصة تلك التي يقدمها محترفون في المجال من خارج المغرب؛ يمكن أن يساعد على كسب مزيد من التجربة والمهارة في المجال.

كما لا ننسى في هذا الجانب ما أصبح يوفره لنا عالم الإنترنت، سواء في محركات البحث أو على يوتيوب، فكل هذا ساهم في تطوير تجربتي وموهبتي، سواء على مستوى الألوان والمنتجات ووسائل العمل وما يريده المخرجون، وإن كان مجال المكياج السينمائي في المغرب لا يزال محتشما ولا يتهم به المخرجون كثيرا، مع استثناءات قليلة ونادرة.

كما أنني تجاوزت في تجربتي الفنية عملية المكياج الكلاسيكي إلى مرحلة التصميم، حيث أستطيع الآن مثلا مشاهدة عرض مسرحي وتصميم مكياج خاص به، أو مثلا يعطيني المخرج السينمائي رؤية فنية عن الفيلم فأقوم بتصميم ذلك، وهذا أمر مهم ويساعد على الإبداع والابتكار وتنمية المهارات.

  •  هل توجد أنواع مختلفة للمكياج الفني، ومنها المكياج السينمائي؟

هناك المكياج المسرحي والسينمائي، ومكياج الاحتفاليات الكبرى والكرنفالات، ومكياج البهلوان والهالوين والأقنعة، ومكياج الأطفال والتنشيط التي تقتصر على رسم بعض الحيوانات والأشكال الكرتونية والأزهار والفراشات على وجه الأطفال.

وفي السينما برز مكياج يطلق عليه اسم “إس إف إيكس” كما ذكرت سابقا، وهو الذي يتم الاشتغال فيه على حالات الجروح والكدمات وفي حالة الضرب والوفاة والحوادث، وهناك “مكياج التحول”، والذي نحوّل فيه وجه الممثل من كبير إلى صغير أو العكس، إضافة إلى اللعب بملامحه، وكلها حسب رؤية المخرج.

  •  هل يعني هذا أن مجال المكياج السينمائي ما زال بحاجة إلى اهتمام من قبل الجهات الوصية حتى يصبح فنا قائما بذاته؟

أعتقد أن التكوين في المغرب لا يزال ناقصا، حيث إن المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي في الرباط ومعهد آخر للسينما في ورزازات (التي تعد وجهة مفضلة لكبار المخرجين العالميين) غير كافيين. بالتالي يمكن القول إن المجال ما زال بحاجة إلى اهتمام كبير ودعم مهم من قبل جهات الاختصاص، لأن التكوين والتأطير ضعيف، والمنتجات التي تُستعمل في المكياج السينمائي تُستورد من الخارج، فهي غير موجودة محليا لأنها باهضة الثمن، مما يجعل العملية صعبة للغاية، وفيها الكثير من التحدي والمغامرة.

تضطر في بعض الأحيان إلى ابتكار وصناعة المنتجات والوصفات لوحدك، بناء على خبرتك وتجربتك في المجال، باعتبارها وسائل بديلة للتغلب على التشوهات والعاهات والجروح والندوب، وهي وصفات تعطي النتيجة نفسها وبثمن أرخص. ومن هنا لا بدّ من إيلاء مزيد من الاهتمام لهذا المجال، سواء من قبل الجهات الوصية أو المخرجين في أعمالهم.

  • وهل السينما المغربية حققت تقدما في هذا المجال؟

بصراحة لا تزال السينما المغربية بحاجة إلى الاستفادة من الممارسين، يوجد نقص كبير ومهول في هذا المجال، فإذا قورنت السينما المغربية بنظيرتها الهندية أو الأمريكية مثلا سنجد الفرق شاسعا جدا، فأغلب المخرجين لم يصلوا بعد إلى مستوى الاشتغال على أفلام الرعب مثلا، أو ابتكار كائنات أسطورية وما أكثر الحديث عنها في المغرب، مثلا كالديناصورات التي كانت موجودة في المغرب خاصة في الهضبة الفوسفاتية، حيث اكتُشفت فيها كائنات عملاقة من خلال الحفريات.

لا بد من إعطاء الفرصة لفناني المكياج لإبراز قدراتهم، والعمل على أفلام جديدة كأفلام الرعب والأفلام التراجيدية التاريخية والأسطورة القديمة، خاصة أن التراث الشعبي المغربي زاخر بالكثير من العادات والتقاليد وأساطير السحر والتراجيديا والقصص الغرائبية التي لا تزال تعشش في المخيال الشعبي.

وأعتقد أن بعض المخرجين لامسوا هذه القضية في بعض المسلسلات التلفزيونية الفانتاستيكية والكرنفالية، مثل أعمال المخرجة فاطمة بوبكدي في مسلسل “رمانة وبرطال” و”زهر ومريشة”، حيث اشتغلت على شخصيات أسطورية في هيئة أرواح. وتعد بوبكدي المخرجة الوحيدة التي نهلت من التاريخ، ووظفت المكياج السينمائي والفني في أعمالها، وهو أمر مشوق وممتع، وهو ما جعل تلك الأعمال تلقى شهرة وصدى كبيرا لدى الجمهور.

هناك المكياج المسرحي والسينمائي، ومكياج الاحتفاليات الكبرى والكرنفالات، ومكياج البهلوان والهالوين والأقنعة، ومكياج الأطفال

  • إذن تبقى الأعمال السينمائية التي توظف المكياج السينمائي بشكل مكثف هي الأفلام الغرائبية والأسطورة والخيال العلمي؟

ربما، لأن الممارسين يجدون في تلك الأعمال الفضاء الخصب للإبداع وإبراز مواهبهم، لكن تبقى السينما المغربية في اشتغالها على تلك المواضيع مقصرة للأسف الشديد، فهي تفتقر إلى الاشتغال على أفلام الخيال العلمي والأفلام الأسطورية والتراثية والشعبية ذات الحمولة الغرائبية، سواء من حيث الشخصيات أو الديكورات، وهو ما يساهم في إبراز خصوصيات وإبداعات خبراء المكياج السينمائي.

أما على المستوى العربي، فيبدو لي أن السينما في عدد من البلدان العربية كمصر مثلا قد حققت نوعا من التقدم، وذلك في الاستفادة من خبرات الممارسين في مجال المكياج السينمائي، وأصبحنا نرى عملا متقنا وجميلا، إضافة إلى ما أصبحنا نراه في الدراما المصرية والخليجية والعراقية.

وأرى أن من بين أسباب عدم المغامرة في الاشتغال على أفلام الخيال العلمي مثلا في المغرب هو الميزانية الضخمة التي تتطلبها تلك المشاريع، أو رؤية المخرج ومتطلبات السوق ورغبة الجمهور في مشاهدة نوع من الأفلام بعينها، وبالتالي فإن السينما المغربية في مجمل مواضعيها تبقى تتأرجح بين المواضيع ذات الطابع الكوميدي والاجتماعي، فضلا عن مواضيع أخرى ترتبط بقضايا حقوق الإنسان وإبراز معاناة شريحة معينة من الناس خاصة في القرى والأرياف، دون إغفال لقضايا الهجرة والاندماج والعنف والتطرف، وغيرها من المواضيع التي تعالج هموم مغربية ومغاربية وعربية مشتركة في علاقتها بما هو رائج على المستوى الدولي.

  •  وهل ترين أن الجيل الجديد من المخرجين الشباب قادر على الولوج إلى نوع جديد من الأفلام يتم فيها توظيف المكياج السينمائي؟

أعتقد ذلك، وأؤكد أنني شاهدت مؤخرا فيلما لشباب هواة بعنوان “بدون عنوان”، حيث اشتغلوا فيه على هذه الثيمة، علما بأن الجمهور مهووس بالإثارة والبحث عن الجديد، وبالتالي فإن التطور التكنولوجي وشغف الشباب بهذا المجال قد يعطي في المستقبل أعمالا تسير في هذا الاتجاه، ويخلق موجة جديدة من الأفلام العربية التي تعشق الحرية والتمرد والمغامرة، واكتشاف العالم بغموضه وغرائبيته وسحره ومستقبله.


إعلان