التونسي محمد الظريف: 45 ثانية أعادتني للسينما بعد غياب 30 عاما
حوار: صالح محمد سويسي
ممثل تونسي خبر الركح (المسرح) والمصدح والكاميرا، قضى أغلب سنوات عمره بين الكتابة والتمثيل والإخراج. قدم للإذاعة التونسية أعمالا لا تُحصى، شارك في أعمال تلفزيونية كثيرة، لكنّه لم يكن محظوظا على مستوى المشاركات السينمائية التونسية حيث تجاهله المخرجون والمنتجون لسنوات طويلة وانتظر ما يقرب من 40 عاما كي يجسّد دور البطولة في عمل سينمائي تونسي ويظفر من خلاله بجائزة أفضل ممثل في الدورة الثانية لمهرجان الجونة السينمائي بمصر.
بين أول فيلم شارك فيه “ريح السد” لنوري بوزيد سنة 1986 وفيلم “ولدي” سنة 2018 مسافة أكثر من 30 عاما قضاها الظريف بعيدا عن الأضواء، لا لشي إلا لأنه بعيدٌ عن العاصمة/المركز.
قدّم للمسرح الإذاعي والدراما الإذاعية كتابة وإخراجا وتمثيلا، أعمالا كثيرة ومتنوعة ساهمت في إثراء خزينة الإذاعة التونسية بشكل عام وإذاعة المنستير على وجه الخصوص، وساهم في أعمال تلفزيونية ناجحة لعل أهمها السلسلة البوليسية “ابحث معنا” على التلفزيون التونسي إلى جانب الفنان عبد المجيد الأكحل والتي لقيت نجاحا كبيرا في فترة الثمانينيات من القرن الماضي.
حصل في فيلم “ولدي” على جائزة أفضل ممثل في مهرجان “الجونة” في مصر وحصل مؤخرا على نفس الجائزة في مهرجان “طريفا” للسينما الأفريقية بإسبانيا، وترشح لنيل جائزة النقاد التي يمنحها مركز السينما العربية على هامش فعاليات مهرجان كان السينمائي 2019.
للحديث أكثر عن تجربته المتنوعة وعن نجاحاته وخيباته كان للجزيرة الوثائقية هذا اللقاء مع الفنان التونسي محمد الظريف.
- وأنت تستقبل عامك الثامن والستّين، كيف يمكن أن ندخل عوالمك؟ لننطلق من البدايات مثلا.
انطلقت تجربتي في مدينة القيروان بالاستماع إلى الراديو والعمل فيه، وقد تنتهي أيضا بالاستماع إليه، مررت بمرحلة المسرح المدرسي من خلال المشاركة في عدد هام من المسرحيات من بينها “فنجان شاي” و”الموت في المرآة” وغيرها مع نيل عدد من الجوائز.
في مرحلة متقدمة كان عليّ أن أختار بين ما أحب وما تريد العائلة، حيث كنت أرغب في التوجه نحو مركز الفن المسرحي في العاصمة التونسية، بينما كان للعائلة رأي آخر حيث طلبوا منّي التوجه لدراسة السياحة ولكنني لم أفلح وانقطعت عن الدراسة.
توجهت بعد ذلك لما رغبت فيه منذ البداية وأجريت امتحانا للدخول في مركز الفن المسرحي ومررت مباشرة دون المرور بسنة تحضيرية مع مجموعة من الفنانين التونسيين مثل علي العبيدي وحمادي المزي وشريف علوي ومنصف القليبي والصادق الماجري وتلقينا دروسا من جهابذة المسرح وقتها من أمثال حسن الزمرلي ونور الدين رزق الله ونور الدين العاتي، وكان هذا قبل أن يصبح المركز معهدا عاليا للفنون الدرامية.
ولأنني كنت مشاغبا، فإنّني لم أتم دراستي في المركز والتحقت بالفرقة المسرحية بالكاف في آخر أيام الفنان منصف السويسي قبل استقراره بالعاصمة، لأواصل هناك مع الفنان كمال العلاوي حيث شاركت في أعمال هامة مثل “عطشان يا صبايا” و”هذا فاوست آخر” لسمير العيادي.
كانت تجربتي في فرقة الكاف هامة جدا حملتني مباشرة إلى مدينة صفاقس حيث شاركت في مسرحية واحدة ثم عدت إلى القيروان، ولم ألبث طويلا لأنتقل إلى المهدية للمشاركة في عمل آخر، وهناك تعرفت إلى زوجتي الممثلة جميلة الظريف، وبعدها عدت للقيروان.
- رحلة سفر بين الفرق المسرحية والمدن التونسية قادتك إلى الإذاعة، هل كان قرارا منك أم هي الصدفة؟
كنّا نعمل في فرق مسرحية قارة تابعة للدولة ولكن دون أية ضمانات اجتماعية، وجاءت فرصة الالتحاق بالتلفزة الوطنية كمساعد إنتاج، فلم أتردّد.
ومع التحاقي بالتلفزيون لعبت الصدفة دورا كبيرا في حياتي، حيث كنت أعمل مع المخرج الكبير عبد الرزاق الحمامي وجدّ خلاف بينه وبين أحد الممثلين فقمت أنا بالدور وأتقنته وكانوا لا يعلمون أنني ممثل بالأساس، إلى أن جاءت الفرصة الحقيقية في الإذاعة حين قررت أن أغادر التلفزيون وألتحق بالراديو حيث تعرفت على الأسماء الكبيرة وقتها، جهابذة المسرح والدراما الإذاعية، حيث شاركت في عدد من الأعمال كما شاركت في أعمال تلفزيونية لقيت نجاحا كبيرا مثل السلسلة البوليسية “ابحث معنا”.
في مرحلة أخرى قررت الالتحاق بإذاعة المنستير (180 كلم جنوب العاصمة)، وهناك تمّ تعييني مديرا لقسم التمثيل، حيث ساهمت في إنجاز عدد كبير من الأعمال سواء في إطار المسرح الإذاعي أو الدراما الإذاعية وخاصة في إطار “السكتشات” التحسيسية والاجتماعية التي يتمّ اعتمادها في عدد من البرامج لدرجة أننا كنا ننجز 12 “سكتشاً” في الأسبوع.
كما حُوّلت السلسلة التلفزيونية “ابحث معنا” إلى سلسة إذاعية بعنوان “فتّش مع المفتش”، فضلا عن عدد من الأعمال الفكاهية التي ارتبطت بشهر رمضان، وكنت أكتب وأُخرج حتى أني ابتعدت في وقت ما عن التمثيل.
وقتها كنت أنتقل للإذاعة المركزية بالعاصمة لإثراء المكتبة الصوتية لإذاعة المنستير بالمؤثرات الصوتية التي كانت تفتقدها.
- في رأيك ما الذي يميّز التمثيل الإذاعي عن بقية أشكال الأداء؟
لا بد أن أشير إلى أنّ التمثيل الإذاعي هو أصعب أنواع التمثيل، لأنك كممثل مطالب بجعل المتلقي يتخيّل الشخصية، كما أنّك باعتمادك على الصوت فقط ستصنع عالما بأكمله، حيث إنّك كممثل حين تتمكن من رسم صورة ما في ذهن المستمع فقد نجحت، وهذا أمر صعب جدا ويتطلّب صدقا كبيرا في الأداء، وذكاءً في اختيار الأدوار التي تتلاءم مع صوتك.
- وما سبب تراجع المسرح الإذاعي والدراما الإذاعية، بل وربما اندثاره تماما؟
كثرة المحطات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي اليوم، وكثرة مشاغل الناس وسرعة أنماط العيش، كلها ساهمت في تقلّص حضور التمثيل الإذاعي بكل أشكاله بما في ذلك الدراما الإذاعية وصولا لمرحلة القول بعدم إمكانية عودة هذا الشكل الفني أو حتى الحديث عن استحالة منافسته للأشكال الأخرى.
المجال اليوم للأجيال الجديدة لتقدم أفكارها وتصوراتها، وأنا أومن بحق الشباب في تقديم ما يتماشى مع عصرهم ورغباتهم والتي قد لا تروقني أحيانا لكنني أقبلها وأترك لهم فرصة الاكتشاف سواء النجاح أو الفشل أو الخطأ وإعادة الكرة.
- هل تتابع الأعمال التونسية سينما وتلفزيونا؟
إحساسي بالظلم جعلني لا أسعى لمتابعة الجديد، خاصة على مستوى السينما، أعيش في المنستير ومنذ سنوات طويلة لا وجود لقاعة سينما إلا منذ سنتين أو ثلاث عادت إحدى القاعات لعرض الأعمال السينمائية التونسية والأجنبية، كما أنني لم أعد أتابع التلفزيون لنفس السبب وهو إقصائي من المشاركة في الأعمال الدرامية.
ورغم أن العطاء غير مرتبط بالسنّ، إلاّ أنني أكتفي حاليا بالقراءة ومتابعة ما يحدث حولي، وحتى مواقع التواصل لا أدخلها إلا نادرا، فأنا لا أستجدي أدوارا، ولكنّني أرى أنّ تكريس نفس الوجوه في جلّ الأعمال التلفزيونية والسينمائية مقلق جدا ويساهم في إقصاء وجوه أخرى لمجرد بعدها عن العاصمة لها تجربتها وإضافتها.
- إذن هو تغييب وليس غياب؟
نعم هو كذلك، فالبعد عن العاصمة/المركز يشكّل عائقا كبيرا جدا، حيث تجد نفسك نسيا منسيّا فلا يذكرك مخرج ولا منتج، وهو ما يؤكد مرة أخرى أن الحضور المتواصل في العاصمة ضروري جدا لتشارك بشكل دائم في السينما والتلفزيون وهذا ليس في تونس فقط بل في كل دول العالم، كما أن ربط العلاقات بالمتنفّذين الفاعلين في المشهد السينمائي والتلفزيوني أصبح مهما أيضا.
في مرحلة ما رفضت أدوارا بعينها لم أجد فيها أي إضافة لتجربتي، مما جعل عددا من المخرجين لا يعودون للتعامل معي، فالمسألة كما أردت مرتبطة مباشرة بالعلاقات الشخصية، وأنا لا يمكنني التنازل أو التغاضي عن بعض الأمور لأضمن دورًا ما، كما أن هنالك مخرجين لا يقبلون الحوار ولا النقد بأي شكل من الأشكال وبالتالي يكون العمل معهم مستحيلا.
فأنا كممثّل حين أكون أمام الكاميرا أصبح أنا صاحب العمل، فصورتي وصوتي هما اللذان يكونان في علاقة مباشرة مع الجمهور وبالتالي من الطبيعي أن أورد أحيانا بعض الملاحظات التي قد تُسهم في إنجاح الدور وإبراز ما يريده السيناريست أو المخرج من الشخصية.
- إذن هذا ما يفسّر قلّة أعمالك السينمائية بل نُدرتها؟
نعم، ومع ذلك عملت ونجحت، وشاركت في عدد من الأفلام الأجنبية التي تمّ تصويرها في مدينة المنستير.
في الأثناء ومنذ أن شاركت في فيلم “ريح السد” للمخرج النوري بوزيد منذ أكثر من ثلاثين عاما، لم تصلني أية دعوة للمشاركة في أعمال سينمائية إلى أن جاءت الفرصة مع فيلم “ولدي” حيث اتصل بي الصديق محمد دلدول للمشاركة في كاستينغ (تجربة أداء) لفيلم جديد.
ومن المفارقات أن القائمين على العمل سلّموني مقاطع باللغة الفرنسية، ثم أخبروني أن التمثيل سيكون باللهجة التونسية، ثم وجدت أن من سيقوم بعملية اختيار الممثلين شاب موسيقي لم يمثّل سابقا.
عموما لم تَرُق لي الأجواء ولم تمرّ مرحلة الكاستينغ كما يجب وعدت للمنستير حيث قمت بإعادة نشر خبر مخرج الفيلم حول البحث عن ممثل للمشاركة في الفيلم في صفحتي على فيسبوك رغبة مني في أن يجدوا من يبحثون عنه، وفي نفس الوقت أرسلت مقطعا مصورا للمخرج الذي أصبح صديقا في موقع التواصل الاجتماعي.
هذا المقطع الذي لم يتجاوز الـ45 ثانية وصوّرته في مطبخ بيتي كان سببا في أن أكون بطلا لشريط سينمائي بعد مسيرة تجاوزن الأربعين عاما بين المسرح والإذاعة والتلفزيون والسينما.
- كيف تقبّلت اتصال المخرج ليخبرك أنك ستكون بطل الفيلم؟
في الحقيقة لم أصدّق أنني سأكون بطلا للعمل لأنهم اتصلوا بممثل آخر ليقوم بالدور، ثم اعتذر على ما يبدو ثم حدث ما حدث وعاد الدور لي.
ويبدو أن كل الظروف عملت لصالحي، وبعد أربعة عقود من البطالة السينمائية التونسية أجدني بطلا لفيلم يقدم قصة إنسانية راقية.
عملنا بعد ذلك على تحويل السيناريو والحوار من اللغة الفرنسية إلى اللهجة التونسية، وطرأت عدد من التغييرات بين حذف وإضافة وتعديل ليستقيم الفيلم على ما هو عليه اليوم.
- بعد كل هذا الغياب عن الشاشة وأجواء التصوير، كيف كانت ظروف العمل؟
العمل في شريط “ولدي” كان متعبا جدا من الناحية الجسدية، حيث كنا نعمل بطريقة “بلان سيكونس” (Plan/séquence) فلا مجال للراحة بين المشاهد، حتى إننا أعدنا أحد المشاهد 57 مرة، بمعنى أن العمل كان مرهقا، ولكن الجميل أن فريق العمل أُبهر بصبري وتجربتي، وهنا لابد أن أسجل المعاملة الرائعة للمخرج محمد بن عطية الذي تعامل معي تعامل الابن مع أبيه.
حتى إنه في أحد المشاهد لم أفهم ماذا أراد بالضبط، وحدث تشنّج بيننا بلغ بي حدّ البكاء، ولكنه حال انتهاء المشهد توجه لي بالاعتذار أمام الجميع مما جعلني أحترمه أكثر وأعتزّ بالعمل معه.
- نجحت في دور الأب بشهادة الجمهور والنقّاد، كيف تعاملت مع الدور لتظفر بهذا النجاح؟
وبالعودة لدور الأب في فيلم “ولدي” ثمة أشياء مثّلت حافزا في نجاحي إلى جانب تعاون المخرج، أولا شخصية الأب فيه كثير مني كوني أبا حنونا أسعى لحماية أبنائي، أي ذلك الأب التقليدي الذي يخشى على أبنائه، فعملية الأداء لم تتعبني أبدا، لأنني وجدت الدور كما أحب بقدر ما أتعبتني التنقلات والصعود والنزول وتغيّر أماكن التصوير.
ثانيا، مَن تقمص دور الابن ودور الزوجة كانا متعاونين جدا وساهما في أن يكون أدائي متميّزا ومقنعا لدى الجمهور والنقاد.
- هل مثّل حصولك على جائزة أفضل ممثل في مهرجان “الجونة” مفاجأة بالنسبة لك؟
بالفعل، فوزي بجائزة أفضل ممثل في مهرجان الجونة السينمائي مثّل لي مفاجأة سعيدة جدا، وبالمناسبة قبل الإعلان عن النتائج قالت لي إحدى الممثلات والتي كانت عضوا في لجنة التحكيم “أنت ممثل عظيم وح تشوف” كما أن مخرجة جزائرية قالت لي حرفيا “أنت غول الشاشة” ونفس العبارة سمعتها من ابنة شقيقة المخرج الكبير يوسف شاهين.
هنا أحسست بنشوة وسعادة وراحة ضمير، وبدأت أرى جائزة في الأفق، ولكنني انتظرت حتى حفل الافتتاح لأتأكد من ذلك.
حين سمعت اسمي ودعوتي للصعود إلى الركح نطقتُ اللغة الإنجليزية وبكل عفوية “نعم لقد حصلت عليها” وتحدثت بلهجة مصرية احتراما لأبناء البلد المضيف وشكرت كل من ساهم في صنع محمد الظريف الفنان.
وفي الحقيقة كنت مبهورا جدا بمدينة “الجونة” المصرية لدرجة أنني سمّيتها الجنة، ومن الطرائف التي أذكرها الآن أنّ بعض التونسيين من ممثلين ومخرجين ومنتجين الذين حضروا المهرجان كانوا يتحدثون معي بعد مشاهدة عدد من الأفلام الهامة بطريقة فيها ما يشبه المواساة لعدم قدرتي على المنافسة أمام عدد من النجوم ولكنني في النهاية ظفرت بالجائزة في “الجونة” ولم أظفر بها في بلدي تونس.
ورغم النجاح الكبير في مصر وسعادتي بالجائزة كنت أنتظر أن أفوز بجائزة في أيام قرطاج السينمائية في دورتها الأخيرة حتى من باب التكريم لسنّي وتجربتي، ذلك أن شرف التكريم في بلدي لا يضاهيه أي تكريم أو جائزة.
وفي الحقيقة انتظرت الجائزة ولكنني صُدمت وأحسست بالظلم وعرفت فيما بعد أن المسألة مرتبطة بأمور أخرى كالعلاقات الشخصية وما إلى ذلك.
ولعل مما ساهم في عدم حصول فيلم “ولدي” على جوائز وذهبت إلى فيلم آخر اشتغل على موضوع الإرهاب، هو العملية الإرهابية التي حدثت قبل وقت قصير من انطلاق الدورة في الشارع الرئيسي للعاصمة.
عموما أنا سعيد جدا بعملي في هذا الفيلم وبجائزة مهرجان “الجونة” التي تلتها جائزة مهرجان “طريفا” للسينما الأفريقية بإسبانيا منذ أيام قليلة، وفخور بترشيحي لنيل جائزة النقاد في قسم أفضل ممثل والتي يمنحها مركز السينما العربية على هامش فعاليات مهرجان كان السينمائي.