الوثائقية تحاور المخرج أنور قوادري الذي كسر القاعدة وحوّل فيلما عربيا إلى العالمية
حوار: عدنان حسين أحمد
يُعدّ المخرج أنور قوادري علامة فارقة في المشهد السينمائي البريطاني، فهو من المخرجين البريطانيين القلائل الذين لم يقطعوا صلة الرحم بوطنه الأم سوريا، وإنما ظلّ يتردد إليها كلما سنحت له الفرصة للزيارة، أو لإنجاز عمل سينمائي أو تلفزيوني.
هو مخرج هجين سوري الأصل بريطاني الجنسية، قومي الهوى حتى هذه اللحظة، ولم تستطع أربعة عقود ونيّف من السنوات أن تخفّف من غلواء مشاعره القومية المتدفقة، رغم إنجازه فيلما يحمل عنوان “جمال عبد الناصر” الذي أثار جدلا واسعا لم تنتهِ تداعياته حتى الوقت الحاضر، لأنه تعامل معه كإنسان قبل أن يتعامل معه كزعيم.
استطاع أنور أن يلفت الانتباه إليه منذ أفلامه القصيرة الأولى التي راهن فيها على الصورة كما في “بولينا”، من دون أن يهمل الثيمة أو يقلل من شأن المؤثرات السمعية في أفلامه الروائية، وبجانب هذا الرهان الفني العسير انتبه إلى أهمية الموضوعات التي يعالجها، مثل التمييز العنصري كما فعل في “غرفة الانتظار”، أو هروب الأدباء والفنانين من الاتحاد السوفياتي السابق كما في فيلم “كسّارة البندق”، أو تهريب الآثار كما في “سباق مع الزمن”.
لم يكن رهان أنور مقتصرا على الصورة البصرية والموضوع الحسّاس، وإنما على طريقة المعالجة الفنية المُرهفة التي أقنعت نجوما بريطانيين كبارا جذبهم إلى دائرته الإخراجية الساحرة التي أحرزت نجاحات متتالية طوال أربعة عقود.
عاد أنور إلى دمشق ليخرج مسلسلين ناجحين هما “سحر الشرق” الذي حاول قدر استطاعته أن يُغيّر نظرة الغرب النمطية عن الإنسان العربي والمسلم، كما أنجز مسلسل “عرب لندن” الذي يتحدث عن عرب الداخل والخارج، وقد حالفه النجاح مثل كل أعماله السينمائية والتلفزيونية السابقة.
ولتسليط الضوء على حياة المخرج وإنجازاته الفنية السينمائية التقته “الجزيرة الوثائقية”، وأجرت معه الحوار التالي:
- وُلدتَ في أسرة فنيّة، فوالدك هو المُنتج والمُوزِّع تحسين قوادري، فهل تعزو شغفك الفني المبكر إليه، أم أنك استشعرت أهمية الفن السابع بكل تفاصيله رغم صغر سنك آنذاك، وهو الأمر الذي دفعكَ لدراسته والتخصص فيه لاحقا؟
فيما يتعلق بشغفي وحبي للسينما فهو عبارة عن خليط من وعيي الشخصي وتأثري بوالدي، لأنّ الطفل عندما يعي الدنيا ينظر لوالده كنموذج، وكان والدي في ذلك الوقت قد بدأ تألقه في الفن السابع، وكانت السينما معشوقته الكبيرة.
أتذكّر والدي وهو يقف وراء آلة العرض المحمولة التي كان يأتي بها إلى البيت، بالمناسبة آلة العرض هذه كان يعرض فيها أفلاما للرئيس جمال عبد الناصر عندما كان يأتي إلى الشام، وكان يحب أن يشاهد كل يوم فيلما، وكان والدي من الموزعين والناس القلائل الذين يتصل بهم الزعيم عبد الناصر، وكان بيتنا قريب جدا من قصر الضيافة الذي كان يقيم فيه الزعيم كلما حلّ ضيفا على دمشق، وقد عرض له والدي فيلم “يوم سعيد” بطولة محمد الوهاب وفاتن حمامة، وأتذكر أنني رأيت فاتن حمامة في هذا الفيلم وهي طفلة صغيرة، وأنا أيضا كنت طفلا صغيرا.
في هذا العمر المبكر بدأ شغفي بالسينما، كما كنت أشاهد الأفلام التي تُعرض في عيدي الفطر والأضحى المباركين، ثم بدأت أتردد على السينمات بشكل دائم كوني ابنا للموزع والمنتج تحسين قوادري، وكنت أدخل إلى الصالات كلها من دون أن أدفع ثمن التذكرة، الأمر الذي يسّر لي مشاهدة الأفلام التي تُعرض في سينمات العاصمة كلها.
شاهدت أفلاما متنوعة، وأتذكر أول فيلم رأيته وتعلقت به وأنا عمري أقل من عشر سنوات هو فيلم “من أجل حفنة من الدولارات” بطولة كلينت إيستوود وإخراج سيرجيو ليوني العظيم الذي التقيته أواخر أيامه في الثمانينيات في مهرجان القاهرة، وتكلمت معه في هذا الموضوع، وقلت له “أنت السبب في حبي للسينما، وأنت الذي دفعتني لأن أكون مخرجا”، فردّ علي بالقول “حسنا، لقد كسبنا مخرجا عالميا”، وكان في حينه قد شاهد فيلم “كسّارة البندق” الذي لعبت فيه الفنانة جوان كولينز دور البطولة.
كان خيط التعلق بالسينما سببه والدي أول الأمر، لكنني ما إن كبرت قليلا ووعيت على الدنيا، وأصبحت أشاهد الأفلام التي أختارها بنفسي حتى تضاعف تعلقي بالسينما، فاتخذت قرارا بأن تكون السينما مهنتي الرئيسية في المستقبل. شَعَر والدي بهذا الموضوع فأعطاني فرصة في فيلم “خياط للسيدات” (1969) للمخرج عاطف سالم، وبطولة دريد لحام ونهاد قلعي وشادية، كما اشتغلت كلاكيت في فيلم “واحد بلس واحد” (1971) ليوسف معلوف مع دريد ونهاد وسهير المرشدي، وعملت كذلك مع الكبير هنري بركات في فيلم “الزائرة” (1972) بطولة نادية لطفي ومحمود ياسين، واشتغلت ملاحظ سيناريو ومنتجا منفّذا أيضا.
لقد نشأت منذ الطفولة على حُب السينما حتى أصبحتْ جزءا من حياتي، وكان هاجسي دائما أن أشاهد فيلما وأحلّله، وأتكلم عنه سواء مع أصدقائي أو مع أفراد عائلتي، وهكذا صرت أتعمّق في الفيلم الذي أشاهده فازداد وعيي بالسينما، وتضاعف شغفي بها مع مرور الأيام.
- في سن العاشرة شاهدتَ فيلم “من أجل حفنة دولارات” (1965) للمخرج الإيطالي سيرجيو ليوني 25 مرة، هل جذبكَ البطل كلينت إيستوود، أم نمط الفيلم الذي يُصنّف ضمن “الغربي السباغيتي”، أم المضمون الذي قدّم رؤية عنيفة للغرب الأمريكي آنذاك؟
ما جذبني في فيلم “من أجل حفنة من الدولارات” هو تقديم فيلم كاوبوي مختلف تماما عمّا هو سائد آنذاك، أسلوب سينمائي لم نشاهده من قبل، سينما مختلفة ومُبتكرة تسيطر فيها الصورة على الحوار، أي أن الصورة هي البطلة.
كان سيرجيو ليوني يلعب على التقطيع في اللقطة العامة الكبيرة الموسعة التي ترى جمال الطبيعة والغرب المتوحش من خلال الضباب أو العواصف في مساحة كبيرة لوجه البطل مباشرة، أو حتى على عينيه فقط، فقد كان المخرج يركِّز على العينين في حالة المبارزة بين الصالح والشرير، ويوظف الموسيقى التصويرية مع إنيو موريكوني في هذه الأعمال توظيفا دراميا فذّا بطريقة تحرك المشاعر والأحاسيس.
كنت أرى شيئا مختلفا تماما، ومع الزمن عندما قدّم سيرجيو ليوني بقية أفلامه الكاوبوي لاحظت كيف طوّر نفسه، حيث كان يجرّب في فيلم “من أجل حفنة من الدولارات”، ونجح في ذلك حين قدّم شيئا جديدا ومختلفا عن الأفلام الأخرى السائدة.
كانت أفلام الويسترن يُعاد عرضها في صالات السينما بدمشق، وصرت أنتظر أوقاتا محددة كي أرى مشهدا معينا وأتمعن فيه لأكتشف كيف نفّذه المخرج، كان يجذبني مشهد المبارزة الأخير بين كلينت إيستوود والشرير، وبعد هذا الدور تحديدا أصبح إيستوود من أكبر نجوم العالم في ذلك الوقت. أحسست وأنا أرى هذا النجم الكبير وأتفاعل معه بأنني أرى فنانا غير نمطي يؤدي دوره بطريقة مختلفة تماما عن الممثلين الآخرين.
طبعا لم أستوعب آنذاك سبب الاختلاف لأنني كنت في بداياتي، لكن إحساسي كان يدلني على الشيء المختلف والمغاير في الأفلام التي أشاهدها وأستمتع بها، لذلك ظللت أعوّل على هذا الإحساس الداخلي سواء في الأفلام التي أشاهدها أو الأفلام التي أُخرجها أنا شخصيا.
لقد رافقني هذا الإحساس الداخلي فبقيت هاويا ولست محترفا، لأن الهاوي يتوفر على نوع من الجنون الذي يمكن أن تجده عند سيرجيو ليوني، جنون الطفل الهاوي، فلا غرابة أن يقدّم أفلاما مختلفة أحدثت انقلابا غير مسبوق في هذا النوع من السينما.
- اشتغلتَ منذ وقت مُبكِّر أيضا كلاكيت وكاتب سيناريو، كم أفادكَ هذان التخصصان في مسيرتك الإخراجية؟ وهل تعتقد أن السيناريو والقصة السينمائية هما عصب الفيلم وعموده الفقري، خاصة في السينما الواقعية التي تستمد مادتها من الواقع المعاش؟
لا شك في أن عملي كـ”كلاكيت” في الأفلام التي أنتَجها والدي أو مساعد مخرج أو حتى ملاحظ سيناريو جعلتني أتعلم ألف باء السينما، وحينما جئت إلى لندن كنت أعرف إلى حد ما أسرار هذه المهنة، أعرف تحريك الكاميرا، وأعرف اللقطة الكبيرة والمتوسطة والعامة وغيرها من الموضوعات التقنية، لذلك كنت أجلس في المحاضرة الجامعية وأنا أعرف ماذا يدور فيها من معلومات، وكنت أفكر بالأشياء الأكثر أهمية، مثل كيف تستطيع أن تُخرج أو تبدع عملا فنيا مختلفا لا يشبه أعمال المخرجين الآخرين.
أثناء دراستي جاءتني الفرصة لأن أقدّم فيلما قصيرا أردته أن يكون مغايرا ومتميزا، وأن أشتغل فيه على الصورة بتأثير من سيرجيو ليوني، فالسينما هي صورة قبل أن تكون صوتا أو حوارا أو مؤثرات، وهذه كلها مكملات، لكن الصورة المُبهرة والموظفة دراميا هي المُعوّل عليها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القصة والسيناريو يلعبان دورا أساسيا.
لديّ مقولة معروفة وهي “النص قوي يعطي عملا قويا”، وكنت محظوظا لأنني التقيت مع المخرج الكبير صلاح أبو سيف رحمه الله وتحدثت معه عدة مرات، فأنا بالمناسبة معجب بشخصيته وبأعماله كثيرا، وكان يقول لي “لا أقوم بتنفيذ أي فيلم قبل أن أطمئن على السيناريو لأنه يشكّل نسبة 50% من نجاح الفيلم”.
وكانت لصلاح أبو سيف مقولة معروفة مفادها “نص قوي مع مخرج وسط = فيلما قويا، أما نص ضعيف مع مخرج عبقري = فيلما ضعيفا”. لاحظ المعادلة التي اعتمدها هذا المخرج الكبير، لذلك عليك كمخرج سينمائي أو تلفزيوني أن تعتمد على النص القوي، فمهما كان المخرج عبقريا ويعتمد على نص ضعيف فإنه بالنهاية لا يستطيع أن يفعل شيئا حتى لو كان ديفد لين أو ألفريد هيتشكوك أو صلاح أبو سيف، فالأفلام الناحجة تتكئ دائما على نصوص قوية.
- مَنْ مِن المخرجين السوريين أو العرب الذين أحببتهم وتعلقت بأعمالهم حاولت السير على خطاهم، باستثناء عاطف سالم وهنري بركات ويوسف شاهين الذين تمحضهم حُبا من نوع خاص؟
يوجد عدد كبير من المخرجين السوريين والعرب الذين أحب أعمالهم، فقد كنت متأثرا بأساتذتي مثل عاطف سالم أو هنري بركات، لكن هناك مخرجون زملاء لي أحب أفلامهم، مثل المرحوم محمد خان الذي أخذت قصة فيلمه المعروف “موعد على العشاء” وحوّلتها إلى فيلم سينمائي عالمي.
أحب من سوريا المخرج محمد ملص وعبد اللطيف عبد الحميد، وهما من أصدقائي المقرّبين، ومن مصر أحب يوسف شاهين وهنري بركات وعاطف سالم، كما أحب طبعا صلاح أبو سيف الذي أعتبره أستاذا كبيرا جدا في الواقعية، إضافة إلى فطين عبد الوهاب الذي أعتبره مخرجا خفيف الظل، فأفلامه كوميدية تُضحك الآخرين، والكوميديا -كما هو معروف- من أصعب الأجناس السينمائية.
وفي السياق ذاته أنا معجب جدا بمحمد كريم الذي أخرج أفلام محمد عبد الوهاب، وأعدّه رائدا من روّاد السينما، وأشاهد أفلامه إلى الآن وأتعلّم منها، كما أحب أفلام المخرج حسين كمال وأعتبر فيلمه “شيء من الخوف” من أهمّ الأفلام في السينما العربية، إضافة إلى سعيد مرزوق وغيره من المخرجين العرب الكبار.
- ألا تعتقد بأن أولى التجليات الرومانسية قد ظهرت في فيلم “بولينا” (1974)، وهو فيلم التخرّج الذي لم تجتز مدته العشرين دقيقة؟ هل لازمكَ هذا الأسلوب أم أنكَ تبنيتَ أساليب أخرى بحسب ثيمات أفلامك والمناخات العامة التي تهيمن عليها؟
لا شك في أنّ “بولينا” يمثل البداية، وهو فيلم التخرج لمرحلة معينة من دراستي في لندن، وقد اشتركت به في مهرجان شيكاغو السينمائي عام 1978، وكان فيلما مهما بالنسبة لي لأنه باكورة تجربتي الإخراجية التي أردت أن أقدّم فيها عملا صوريا خلال 20 دقيقة.
تتمحور قصة الفيلم حول امرأة تتنبأ بموت حبيبها أثناء الحرب العالمية الثانية قبل أن يستشهد في المعركة. كان هذا الفيلم أشبه بحقل تجارب، وكنت أريد أن أجرّب وأراهن على اشتغالي وفق الإحساس الطفولي، وكيف ستكون ردّة فعل المتلقّين. وحينما اكتشفت تجاوب الجمهور وحبهم لهذا النمط من الموضوعات جعلت منه أسلوبا خاصا بي، حتى لو كنت أنجز أفلاما واقعية أو مأخوذة من التاريخ مثل فيلم “جمال عبد الناصر”، حيث تجد فيها نفحة من الإحساس الطفولي الذي يلعب فيه الخيال دورا كبيرا، وأعني الخيال القريب من الواقع، أو أحاول أن أمزج بين الخيال والواقع.
كانت تواجهني مشكلة حقيقية سببها أن هناك مَشاهد كثيرة في فيلم “جمال عبد الناصر” دارت فيها أحاديث بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وهي أحاديث مهمة تاريخيا، لكنها كانت مبنية على شخصياتهم، وأنا لم أكن حاضرا خلال تلك الأحاديث، ولم أعرف ماذا قالوا بالضبط، كما أنها ليست موثقة، لذلك يلعب الخيال هنا دورا كبيرا في ملامسة تلك الأحاديث، وخاصة المَشاهد الإنسانية التي أفتخر بها لأنني تخيلتها بهذه الطريقة التي تقارب الواقع، ثم طوّرت هذه المقاربة مع الزمن في “كسّارة البندق” و”جمال عبد الناصر” وبقية أفلامي الروائية الأخرى.
كلما أتقدّم في السن أكتسب خبرة وأزداد جرأة، فلا غرابة أن أقدم بالنتيجة أفلاما تستهوي الجمهور ويحب مشاهدتها، وكما تعرف فإن المُشاهد يحب دائما الفنان المجنون الذي يُظهر جانبا من جنونه الفني الذي يشبه إلى حد كبير جنون موزارت ومحمد عبد الوهاب اللذين أظهراه في نتاجاتهما الموسيقية، أو كما فعل الموسيقي أنيو موريكوني أو فلّيني في أفلامه التي ترجم فيها هذا الجنون إلى أعمال فنية خالدة.
- تتحدث في حواراتك الصحفية والتلفزيونية عن حقبة التمرد في ستينيات القرن الماضي التي برز فيها فرانسوا تروفو وغودار وكلود شابرول في فرنسا، ومارتن سكورسيزي وفرانسيس فورد كوبولا في أمريكا، وحسين كمال وسعيد مرزوق ويوسف شاهين في مصر.. هل تنتمي بشكل من الأشكال إلى هذه المجموعات المتمردة، وهل تنوي الخروج على ما هو سائد ومألوف؟
أنا لا أستطيع أن أبعد الشُبهة عني لأنني كنت متأثرا بأفلام المخرجين المتمردين، لقد ابتدأت العمل الإخراجي بعد أن شاهدت أفلام كوبولا وغودار وسكورسيزي وغيرهم، وهذا لا يعني أنني لم أكن متأثرا بالأفلام الكلاسيكية لهيتشكوك أو هنري بركات، فهذه الأفلام لها ثقل كبير ومنزلة خاصة عندي، كما أنني كنت متأثرا بكل المدارس السينمائية الموجودة آنذاك.
أنا عاشق لأفلام ديفد لين كلها، وبين آونة وأخرى أعود لفيلم “لورنس العرب” وأدرسه دراسة سينمائية، وأتمعّن فيه لقطة بلقطة، وذلك لأرى كيف نفّذها هذا المخرج العبقري بطريقة غير مسبوقة في تاريخ السينما، كما أتأمل فيلم “حدث في الغرب” لسيرجيو ليوني الذي يُعدّ رابع ويسترن قدّمه المخرج وتألق فيه، وأحبّ أن أدرس لقطاته ومَشاهده تباعا.
أحب ديفد لين لأنه كلاسيكي وملحمي لا مثيل له، وأعشق سيرجيو ليوني لأنه متمرد وكسر قواعد الويسترن المتعارف عليها، وبالنتيجة أستطيع أن أعدّ نفسي خليطا من هذين المخَرجين، أو مزيجا من جيليّ الكلاسيكيين والمتمردين اللذين أحبهما معا لأنهما يسكنان في أعماقي.
كنت أحيانا أفكر مع نفسي وأقول هذه اللقطة التي عملتها كان يمكن أن ينفذها سيرجيو ليوني، وهذه اللقطة كان يمكن أن ينجزها هنري بركات، وتلك اللقطة كان يمكن أن يصنعها عاطف سالم، طبعا أنا لا أقلل من قيمة هؤلاء، لكنني أشعر بتأثير هؤلاء المخرجين الكبار عليّ سواء في حركة الكاميرا أو حركة الممثل التي يؤديها في لقطة عامة.
خلاصة القول إن تأثري بمدارس متعددة هو الذي خلق لي شخصيتي السينمائية والدرامية.
- في فيلم “غرفة الانتظار” (1980) عالجتَ قضية التمييز العنصري في زمن حرج لم تتحطم فيه التابوهات كليا، هل خططتَ لتحدي هذا المحرّم تحديدا، أم أنه جاء عفو الخاطر ليأخذ بيدكَ إلى نجاحات قادمة بعد أن حدّدت نهجك الرومانسي والإنساني في آن معا؟
الحقيقة أتتني فكرة فيلم “غرفة الانتظار” وأنا في محطة القطار في لندن، حيث كان يوما ضبابيا باردا، فوضعت نفسي في غرفة الانتظار وقلت “ماذا سيحدث لو كانت هنا امرأة بيضاء ورجل زنجي في هذا الجو الكئيب الراعد الممطر، فالمحطة خالية وليس فيها أي مخلوق، والموظف بعيد نسبيا، وقام هذا الرجل الزنجي باغتصاب المرأة البيضاء التي حتى لو صرخت فلن يسمعها أحد؟”.
قدّمت هذا العمل الذي يعالج التفرقة العنصرية والإساءة بالظن واللعب بالأقدار، وكانت تلك الفترة حرجة، فقد بلغت فيها التفرقة العنصرية ذروتها في جنوب أفريقيا، وكان نيلسون مانديلا لا يزال قابعا في السجن، وكانت الحكومة البريطانية تعتبره إرهابيا.
أنا شخصيا أعتبر فيلم “غرفة الانتظار” من أهمّ أعمالي، فهو كان يراهن على الصورة، إضافة إلى أنني قدّمت فيه موضوعا حسّاسا وخطيرا في عام 1980، ونحن الآن في عام 2019 ولا يزال الفيلم بقوته الدرامية، وسوف يعيش لأجيال قادمة، وهو الذي صنع لي اسما كبيرا في عالم السينما العالمية.
- يُعدّ فيلم “كسّارة البندق” (1983) عملا تجريبيا لجهة تحويل سمفونية “بحيرة البجع” لتشايكوفسكي إلى جاز من جهة، كما أن اقتباس “كسّارة البندق” من قصة خرافية لكاتبين كبيرين وهما ألكسندر دوما وآرنست هوفمان وتوظيفها في القصة السينمائية من جهة أخرى هو نوع من التجريب الميتاسردي (ما وراء السرد)، هل تتفق مع هذه النزعة التجريبية أم تعترض عليها؟
يُعتبر فيلم “كسّارة البندق” خليطا من خلجات وجداني الداخلي، وفي الوقت نفسه اقتحاما للسينما التجارية العالمية، يعني كان عليّ أن أقدّم عملا تجاريا مع نجمة مشهورة وهي جوان كولينز، وأمسك خيطا فنيا كبيرا لا جدال عليه، وهو سمفونية تشايكوفسكي واللعب عليها وإبرازها بطريقة مختلفة، وتوظيفها في الحدث الدرامي للعمل الفني، وبالتالي قررت أن أحوّلها إلى جاز بعد أن أتيت بشريكي سايمون باركر الذي سوف أتعاون معه بعد 15 سنة في فيلم “جمال عبد الناصر”.
كانت تجربة مثيرة فيها جرأة كبيرة على الصعيد الفني والتقني والموسيقي، كما أعتبر الموضوع مهما جدا أحبَه المشاهدون وتفاعلوا معه، خصوصا وأن الفيلم عُرض في 70 دار عرض عام 1983 وأشاد النقاد به، وكان يُعرض في التلفزيون ويحصد مشاهدات كبيرة. وأعترف بأنني مسكت العصا من المنتصف لأوازن بين الفني والتجاري المحترم بأسلوب تشويقي يتحدث عن الحرب الباردة وهروب الفنانين من الاتحاد السوفياتي السابق.
يُعدّ “كسّارة البندق” من الأفلام الكلاسيكية الناجحة التي أعتز بها جدا.
- على عكس كل المخرجين العرب الذين يقتبسون أفلاما غربية ويحولونها إلى أفلام عربية، قمتَ باقتباس فيلم “موعد على العشاء” (1981) لمحمد خان وحوّلته إلى فيلم أجنبي حمل عنوان “كلوديا”. ما الأسباب التي دفعتك للجوء إلى هذا المنحى، وما هي الحصيلة النهائية التي خرج بها أنور قوادري؟
الحقيقة أن العنصر الذي أغراني لآخذ قصة فيلم “موعد على العشاء” لمحمد خان وأحوّلها إلى فيلم عالمي هو الثيمة الرومانسية في هذا العمل، وبما أنني رومانسي من الداخل، وأظن أن كل فنان حقيقي هو رومانسي بشكل من الأشكال، فقد تضاعف لديّ هذا الإغراء.
يتناول الفيلم قصة امرأة متزوجة من رجل لا يبادلها المشاعر العاطفية والإنسانية، فتتمرد عليه وترتبط برجل آخر يحبها ويكرّس كل حياته من أجلها. جذبتني الفكرة لكنني حوّلت البطلة من امرأة شرقية إلى امرأة إيطالية من البحر المتوسط لكنها تعيش في لندن، وقد جاء هذا التحوير كي تكون القصة منطقية وتتماشى مع المجتمع البريطاني والغربي عموما.
أحببت المناخ الرومانسي للعمل، علما بأنني قدّمت أفلاما عديدة فيها قضايا سياسية واجتماعية وتاريخية، ولهذا ركّزت في هذا الفيلم على المرأة التي تتمرد على الحياة الزوجية النمطية، وتنقذ نفسها من الضغوط النفسية الشديدة وتسترد شخصيتها.
يجب ألا ننسى أن تاريخ إنتاج الفيلم كان في أثناء حقبة مارغريت تاتشر؛ المرأة الحديدية التي تعكس الواقع الحقيقي لوضع المرأة في المملكة المتحدة والعالم. وربما تكمن أهمية الفيلم في تمردي الشخصي الذي كسرت فيه القاعدة العربية التي يأخذ فيها المخرجون العرب أفلاما أجنبية ويحولونها إلى أفلام عربية، بينما حوّلت أنا الفيلم العربي إلى فيلم عالمي ونجحت فيه.
- يعتمد فيلم “سباق مع الزمن” على فكرة تهريب الآثار العربية إلى الدول الغربية، فهل يتكئ الفيلم كليا على ثيمة تهريب مومياء الإسكندر المقدوني، أم أنه يتشظى إلى موضوعات أخرى تؤازر الثيمة الرئيسية لتؤثث المتن البصري للفيلم؟
ينطوي فيلم “سباق مع الزمن” على تحد آخر مختلف عن كل الأفلام التي عملتها بحياتي، وأظنها كانت أفلاما مهمة، وكانت في ذلك الوقت موجة أفلام رائجة لإنديانا جونز تتمحور حول موضوع الآثار وتهريبها، أو الصراع عليها لتكوين ثروات طائلة. وأنا أضفت له موضوع البحث عن مومياء الإسكندر المقدوني التي لم يُعرف إلى الآن مصيرها، حيث اتصلت بكاتب بريطاني مهم عاش في هوليود اسمه جيسي غراهام، وعملنا معا توليفة جميلة لأننا لم نكن نريد أن ننجز فيلما تقليديا عن تهريب الآثار، لذلك جئنا بفكرة المومياء التي شغلت الناس، فمنذ موت الإسكندر المقدوني عام 360 ق. م لم يعرفوا حتى الآن مكان جثته، هل هي في دجلة أم في الإسكندرية أم في مكان آخر؟
نحن وضعنا نظرية تقول إنها موجودة في واحات “سيوا”، وكان الفيلم عملا بصريا مشوّقا، فكما هو معروف أن الدخول إلى تلك الواحات والتصوير فيها ممنوع، فهي تقع على الحدود الليبية، وكانت العلاقات بين مصر وليبيا مقطوعة، ولك أن تتخيل حجم الصعوبة في الذهاب إلى تلك المناطق والتصوير فيها مع نجوم أمريكيين وإنجليز ومصريين وعرب، علما بأن التصوير بدأ في اليونان والقاهرة والإسكندرية وأسوان، وأخيرا في “سيوا” التي وظفت فيها المواقع الخلابة، والتي أعدّها من أجمل مواقع التصوير التي دخلتها في حياتي، وقدّمنا في الفيلم “حدوتة” مختلفة.
نجح الفيلم وهو يُعرض إلى الآن في العديد من التلفزيونات العالمية، كما يُعرض في تلفزيونات العالم العربي ويلقى أصداء طيبة.
- أثار فيلم “عبد الناصر” (1997) جدلا واسعا في حينه، لأنك ركّزتَ على عبد الناصر الإنسان وخرقتَ حياته اليومية، ولامستَ علاقته الرومانسية بزوجته، هل هذا هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى استفزاز أسرة عبد الناصر، أم أن هناك أسبابا أخرى لا يعرفها القارئ العربي؟
إنّ السبب الذي أحدث مشكلة بيني وبين أسرة الزعيم عبد الناصر أو جزءا من الأسرة هي الدكتورة هدى عبد الناصر، وذلك لأنني التجأت إلى شقيقتها الثانية منى عبد الناصر في توضيح رؤيتي الإنسانية للزعيم وزوجته، ولم ألتجئ إليها لأنهما كانتا على خلاف عائلي.
كما طلبت منى من الدكتور خالد عبد الناصر يرحمه الله أن يتعاون معنا، وقد رتّب لي لقاءات مهمة جدا أثّرت في كتابة السيناريو بالنسبة لي مع عبد اللطيف البغدادي الذي كان صديقه والمعارض له، لكنه كان يحترمه جدا وإن اختلف معه. كما قابلت أشخاصا أخرين وأخذتُ منهم أحاديث مهمة، لكنها لم تكن تحبهم لأنها كانت وراء مشروع فيلم “ناصر 56” الذي يركز على 100 يوم من حياة عبد الناصر، بينما أركّز أنا على 35 سنة خلال ساعتين وربع الساعة، فهناك أحداث كبيرة عاشتها الأمة العربية والعالم في حياة هذا الزعيم، وبالتالي كان عليّ أن أكون مخلصًا مع نفسي، فأنا أحب الزعيم عبد الناصر، ونشأت على تاريخه العظيم، ولي في الوقت نفسه ملاحظات عليه، وأن مضمون الفيلم يكشف ما للزعيم وما عليه في الوقت نفسه.
في فيلم “ناصر 56” نراه كزعيم لا كإنسان، وأنا برأيي أنه كان إنسانا قبل أن يكون زعيما، وهنا تكمن المشكلة، فهم لا يفضلون أن نُري الآخرين قصة ا��زعيم مع زوجته السيدة تحية وحبه لها، كما تطرّق الفيلم إلى زواج عبد الحكيم عامر من برلنتي عبد الحميد التي سبّبت مشكلة بينهما ذَكَرها محمد حسنين هيكل في كتاب “الانفجار”، وكانوا على خلاف كبير، لكن أنور قوادري وحّدهما ولله الحمد ضده، في هذا الفيلم الذي خرج في خاتمة المطاف وأصبح مُلكًا للجماهير، وهو فيلم ناجح ويعرض بشكل مستمر في المناسبات، وأنا أفتخر به جدا.
- لماذا أصررتَ على تغطية 35 عاما من حياة الزعيم الراحل عبد الناصر، ألا تعتقد أن تناول هذه الحقبة الطويلة فيه نوع من المغامرة، أم أنَّ رهانك كان في محله؟
طبعا كان هناك تحد كبير وهو أن أكثِّف 35 سنة من حياة عبد الناصر في ساعتين وربع الساعة، لكن هذه حلاوة السينما، أي أنك تمسك جوانب معينة وتلقي الضوء عليها وتركز عليها دراميا.
هنا اختلفت الآراء، فهناك أناس أُعجبوا بالفيلم وأحبّوه، وهناك آخرون قالوا إنك أغفلت بعض المواقف والأحداث، وهذا صحيح لأنني لا أستطيع أن أضع أحداث 35 سنة في فيلم روائي، لكنني ركزت على عبد الناصر الإنسان، وعلى علاقته مع صديق عمره عبد الحكيم عامر، وبالتالي أسميته “قصة حياة إنسان، قصة حياة أمة” وهذا هو الهدف من العمل.
لقد وضعت في حسابي أن أعمل فيلما للأجيال القادمة وليس فقط لمرحلة معينة، وقد عرض الفيلم عام 1998 وهو الآن يعرض في المناسبات الرسمية، وسوف يبقى لأجيال قادمة، وهو موجود في المكتبات السينمائية مثل بقية الأفلام المهمة، وأتمنى أن يكون متوفرا في المكتبات العادية إن شاء الله.
- هل تعتقد أن النجم الراحل أحمد زكي كان يقلّد الشخصيات السياسية والثقافية والفنية التي أدّاها مثل عبد الناصر والسادات وحليم وطه حسين وغيرهم كما يدّعي بعض النقاد، أم أنه كان يتقمص أدوارهم ويجسدها بطريقة فنية مُقنعة لغالبية المُشاهدين؟ وهل كنتَ ستتعاون معه لو لم يشترك بفيلم “ناصر 56″؟
أحمد زكي برأيي نجم عالمي دون شك، وكانت تربطني به صداقة رائعة، وكانت صداقتنا قوية جدا قبل أن أقوم بإخراج فيلم “جمال عبد الناصر”، وأظن أنّ كل الشخصيات التي قام بها تقمّصها بطريقة مذهلة، ولو كان يمتلك لغة إنجليزية قوية مثل لغة عمر الشريف لتجاوزه بمراحل كثيرة، وحصل على الأوسكار بجدارة عن الأفلام التي قدّمها.
أرى أن أحمد زكي يجيد التقمص لكن عن طريق تقليد الشخصيات، والتقليد -كما تعرف- يُضيّع الممثل، لأنك كمشاهد تصدقه عندما يؤدي شخصية طه حسين أو السادات، وحينما أدى شخصية عبد الناصر أدّاها مُقلدا إياه إلى حد كبير، وحاول أن يُمسك بالحركات الشكلية فقط وقد أجاد الدور، لكنني عندما اشتغلت مع خالد الصاوي وقدّمت له الدور نجح في تأديته نجاحا مذهلا يشبه إلى حد كبير بن كنغسلي الذي أدّى دور غاندي.
أنا اعتمدت منهج مدرسة الممثل التي لا نقلّد فيها، لأن التقليد عملية سهلة جدا، وإنما نتقمص الشخصية من الداخل، وهذا هو الذي فعله خالد الصاوي تماما، وحينما يشاهده الناس يقولون هذا عبد الناصر منذ بداية شبابه حتى وفاته.
كانت القصة مختلفة مع خالد الصاوي وكان التحدي أكبر، وكنت أتمنى طبعا أن أعمل أنا وأحمد زكي في فيلم، وكنّا نخطط لكن الظروف عاكستنا ولم نحقق شيئا، ومع ذلك تبقى له ذكرى طيبة في قلبي ولن أنساه أبدا، لأنه كان صديقا من أصدقاء العمر.