“أمُّ عظيم”.. لوحة حنونة وقاسية عن حياة اللاجئين الأفغان في إيران

حوار: ندى الأزهري
“عظيم” هو لاجئ أفغاني يعيش في ضواحي طهران مع عائلته، ويعمل ليلا كعامل تنظيفات، يُخطط -بصفته الابن الأكبر للعائلة- لإرسال والدته رونا وشقيقه الأصغر فاروق وأسرته إلى ألمانيا بحثا عن حياة أفضل، لكن قبل مغادرتهم بقليل يخبر فاروق أخاه بأنه لم يعد يرغب باصطحاب الأم معهم، على الرغم من تعلقها الشديد بابنها الصغير.
يشعر “عظيم” بالخيانة ويجد نفسه أمام معضلة أخرى، وذلك حين يكتشف أيضا أن والدته في حاجة ماسّة إلى عملية زراعة كلى، وأنه لن يكون بوسعه العثور على كِلية مناسبة لها بسبب قانون يمنع الإيرانيين من التبرع بأعضائهم لأجانب، وعليه سيختار خيارا مؤلما بين حياته وحياة الكائن الأكثر قربا منه، إنها “الأمّ ثم الأمّ ثم الأمّ، ومئة مرّة الأم” كما يقول في الفيلم.
في هذا الفيلم “رونا.. أمُّ عظيم”؛ يرصد المخرج الأفغاني جمشيد محمودي الحياة اليومية للمهاجرين الأفغان في إيران عن كثب، وذلك في سرد مثير للمشاعر بحميميته وقدرته على كشف تعقيدات العلاقات الإنسانية، حيث يهتم بارتباط هؤلاء بماضيهم وإرثهم الثقافي والعائلي من جهة، وباندماجهم وتوقهم إلى حياة أفضل في مجتمعات جديدة من جهة أخرى.
قصة ذاتية ذات بعد إنساني شامل، وإخراج محكم وشخصيات صادقة في فيلم يقترب فيه محمودي من “عدة أمتار مربعة من الحبّ”، وهو فيلمه الروائي الطويل الأول (2014) المستوحى من حالات واقعية، والذي اختير لتمثيل أفغانستان في الأوسكار لفئة أفضل فيلم أجنبي.
في هذا الفيلم يتناول محمودي أحوال عمّال أفغان في إيران تُشغّلهم مؤسسة سرّا، حيث يعيشون في عشوائيات ومستودعات، وفي إحداها يداوم عامل إيراني على لقاء ابنة أحد العمال الأفغان بعد أن تنشأ بينهما قصة عاطفية شاعرية لا أحد يجهل تبعاتها.
جمشيد محمودي ولد في أفغانستان عام 1983، ولجأ مع عائلته إلى باكستان ثم إلى إيران، حيث تابع الدروس في كلية الفنون في طهران، ثم ساهم مع أخيه نويد محمودي في تأسيس شركة إنتاج. عمل في البداية مساعد مخرج وحقق فيلما تلفزيونيا عام 2008، وبدعم من شقيقه أنجز فيلمه السينمائي الأول الذي عُرض في أكثر من 30 مهرجانا وحاز ثماني جوائز.
أما فيلم محمودي الثاني الأخير “رونا.. أمُّ عظيم” الذي عُرض أيضا في عدة مهرجانات، فقد فاز بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان فزول للسينما الآسيوية في فبراير/شباط 2019 في فرنسا. وعن فيلمه هذا يقول في تصريح نُشر على موقع المهرجان “حين كنت طفلا فرّت أسرتي من أفغانستان إلى إيران، اليوم وبعد تجاوزي لعامي الثلاثين يُنظر إليّ باستمرار كلاجئ، أفهم تماما هذا الشعور باللاعدالة لملايين الأفغان في مواجهة عبثية القوانين الإيرانية، وكسينمائي أكرّس نفسي مرة ثانية للنطق باسمهم على أمل أن يفعّل سحر السينما فعله في إيقاظ وعي الناس لتغيير القوانين”.
التقينا جمشيد محمودي في باريس حين جاء لعرض فيلمه “رونا.. أمُّ عظيم” في مهرجان سينمات إيران بباريس (من 12 وحتى 18 يونيو/حزيران الماضي) وكان مع أخيه “نويد”، إذ يتعاون الأخوان في إنتاجاتهما السينمائية، ويتقاسمان الأدوار بين كتابة السيناريو والتوليف والإخراج في توافق تام ومثمر، فقد كتب جمشيد سيناريو وأنتج وولّف فيلم أخيه نويد “الرحيل” عام 2016.
-
عُرض فيلمك “رونا.. أمُّ عظيم” في مهرجان فجر في إيران وقُدّم على أنه فيلم إيراني، وفي مهرجان فزول في فرنسا قُدّم على أنه فيلم أفغاني، وهو الآن في مهرجان سينما خاص بإيران بباريس، فكيف تصنّفه أنت؟
الفيلم إنتاج مشترك بين إيران وأفغانستان، وبالنسبة لي هو يمثّل البلدين معا، فأنا من أفغانستان وأُقيم في إيران.
-
لقد أثبتّ نفسك في بلد سينماه هي الأشهر في المنطقة، ألم يكن ذلك صعبا بالنسبة لمهاجر أفغاني؛ أي الخروج من مجتمع المهاجرين الضيّق من ناحية، والدخول في مجتمع مغلق وصعب هو الآخر من جهة أخرى؟
نعم كان هذا صعبا بل صعبا جدا، لقد كانت مهمة شاقة بالتأكيد، لكن المهمة الأصعب قام بها أخي نويد. صحيح أنني نشأتُ في إيران وكنت في الثالثة من العمر حين وصلتها، لكن ما سهّل الأمور أمامي كان نويد الذي بدأ العمل قبلي في مجال الإنتاج في التلفزيون الإيراني، مما أتاح لي التعرف على هذا العالم، ومكنني من مشاهدة السينما الإيرانية أكثر فأكثر.
في البدء وبواسطة كاميرا فيديو شرعت بعمل أفلام قصيرة، وذلك حتى أنجزت فيلمي التلفزيوني الأول ثم أتبعته بعدة أفلام، وحتى تحقيق فيلمي السينمائي “بضعة أمتار مُكعّبة من الحب”.
الوسط الفني مغلق ومن العسير اختراقه، لكن كما سبق وذكرت فإن أخي نويد كان قد فتح الطريق أمامي، وهو من تحمّل وأزال العوائق، واستغرق منه ذلك زمنا طويلا. لا يمكنني الآن شرح كل ما صادفه وعاناه، لكني حين وصلت كانت الطريق معبدة بفضله (يشير هنا إلى أخيه نويد الجالس في الصالة).

- ذكرتَ أنك شاهدت الكثير من الأفلام الإيرانية، هل تأثرك محصور بها لا سيما أن فيلميك فيهما من الشاعرية والواقعية ما يحيل إلى هذه السينما؟
كنت متأثرا جدا بالسينما الإيرانية بالتأكيد، لا سيما بالمخرج الإيراني عباس كيارستمي، لكن تأثري الأكبر جاء من خارج هذه السينما، وذلك من أفلام التركي نوري بيلغ جيلان على سبيل المثال أو السينما الروسية، لكن تأثري لا يعني طريقتي، إذ تبقى نزعتي أو لمستي محلية وخاصة بي في أفلامي.
-
هل تشرح لنا ما تقصده بـ”محليّة”، وهل لهذا علاقة بمضمون الفيلم؟
أورد مثالا عن تأثري بكيارستمي، فهو يكمن في تلك النظرة الخاصة التي كان يحملها لعالمنا ومن انعكاسها في أفلامه. تأثري به لا يتجلى باتّباع أسلوبه في السرد أو طريقته في الإخراج، فما أعنيه أنني لستُ متأثرا بما يسرد وكيف، بل بأفكاره ونظرته الشاملة، بالتالي أكتب قصتي الخاصة وأقدمها بأسلوبي.
-
استعنتَ بممثلين إيرانيين لا سيّما الشخصية الرئيسية “عظيم” التي جسّدها الممثل الإيراني المعروف “محسن تنابنده”، كما كان الأخ الأصغر إيرانيا، فلِمَ لمْ تستعنْ بممثلين أفغان؟
صحيح أن الشخصيتين الرئيسيتين هما من إيران، إنما أعطيت أدوارا مهمة أخرى مثل الأم والأخت (فرشته حسيني بطلة فيلم رحيل) والزوجة لأفغانيات.
هنا أعود إلى ما سبق وقلت عن كيارستمي، فهو لم يكن يستخدم ممثلين محترفين في أفلامه، فيما أنا أتّبع في أفلامي قصة محددة ببنائها السينمائي مع ممثلين محترفين، وقد اخترت ممثلين من إيران لأنني أفكر بالجمهور وبعرض الفيلم في دور السينما، إضافة إلى ذلك ففي إيران حيث أقيم لا يوجد ممثلون أفغان محترفون، لكن هذا الممثل (محسن تنابنده) استطاع وبكفاءة رائعة إتقان دور الأفغاني بلهجته.

- قد لا أستطيع التفريق بين اللهجة الإيرانية والأفغانية في اللغة الفارسية، لكن صديقة إيرانية ذُهلت لشدة إتقان الممثل الإيراني اللهجة الأفغانية، لقد كان رائعا ومقنعا حقا.
عندما كنتُ أكتب السيناريو كان في خاطري طوال الوقت وكأنني كتبت له، أما الأخ الأصغر فلم تكن لدي فكرة عمن سيقوم بالدور حتى رأيت فيلم أصغر فرهادي “البائع” (2016)، واكتشفت فيه مجتبى بيرزاده الذي قام بدور ابن الرجل المتهم بالاغتصاب.
-
كيف أدرت الممثلين، لا سيّما تنابنده وهو ممثل شهير يتمتع بحضور قوي على الشاشة ويفرض نفسه؟ هناك ممثلون كبار يتدخلون ولا يستمعون أحيانا للمخرج.
(مبتسما) يبدو أنه ممثل له متطلباته خلال التصوير التي قد تضايق المخرجين أحيانا. لقد اجتمعنا قبل البدء بالتصوير لتكون الأمور واضحة، وعرضت عليه طرح أيّ مشكلة يفكر بها قبل الشروع بالعمل لمحاولة حلها معا، فحين أبدأ بالتصوير لن يكون هناك سوى شخص واضح يحكم، لقد استمر نقاشنا شهرا وحددنا كل التفاصيل خلاله. ولم يحاول خلال التصوير فرض نفسه أبدا على الآخرين أو التدخل، وكان قبل البدء اقترح بعض المقترحات.
-
مثلا؟
في المشهد الذي يقول فيه لعائلته إنه يكذب عليهم، وإنه ليس مريضا لدرجة عدم التبرع بكليته لأمه. لقد كان عندي تصوّر آخر لإخراج المشهد، أحدنا كان يقترح وجود الزوجة أثناء الاعتراف والآخر لا، وقد اقتنعت بفكرته ونفذتها.
- المرأة في فيلمك إما سلبية كالأخت أو حنونة كالأم أو شريرة كزوجة الأخ، أين المرأة المبادرة أو المستقلة بقرارتها؟ وكيف هو وضع المرأة الأفغانية اليوم؟
لا يمكن تصنيف المرأة في الفيلم هكذا من وجهة نظري، فهناك امرأة قد تجمع كل هذه الصفات معا وتلعب دورا إيجابيا. المرأة الأفغانية التي تعيش في إيران منذ ثلاثين سنة هي الآن أفضل من السابق، ولها دور أكبر ومتزايد، وكذلك هو وضع من هاجرن إلى أوروبا.
في الفيلم حاولت أن أبدي النساء اللواتي لا سيطرة لهن أو قوة لطرح وجهة نظرهن، وذلك سعيا مني لانتقاد هذا الوضع. أنا في الواقع وبكل صدق وإخلاص مؤمن بالمساواة بين الجنسين على كل الأصعدة.
-
هل تتابع ما يحدث في أفغانستان، سينمائيا أقصد؟
لا أتابع السينما الأفغانية المعاصرة. شاهدت سينما عتيق رحيمي وصادق برماك، أما الشباب فلم أر أفلامهم.
-
وماذا عن تحقيق أفلام لك في أفغانستان، هل عدتَ إلى هناك منذ مغادرتك البلد؟
أعمل حاليا على قصة تجري أحداثها في أفغانستان، وربما نذهب للتصوير هناك، لكن المشكلة تكمن في الأمن. لقد عدت إليها مرتين وقضيت حوالي أسبوعين. تهمني جدا زوايا التصوير وكادراته (إطاراته)، ومن هذه الناحية كابل مدينة رائعة.