المخرج الهوليودي زياد حمزة للوثائقية: “لا أريد استغلال الألم السوري لجني الربح”

حاوره: حميد بن عمرة

السفر أكبر من المكان الذي تتجه إليه، والحلم أكبر من الطريق الذي تقتفي أثره، والوصول ليس إلا محطة متنقلة تكرر الاتجاه نحوها. هكذا هي الحياة حين يغادر شاب في الخامسة عشر من عمره بلاد الشام إلى قارة أمريكا، فهو لا ينفصل عن حضارة أبدية، بل ينتقل ويأخذ جزءا من حضارته معه، وعندما لا يخاف شاب فتي في هذا السن الإقدام على عالم جديد تختلف العلاقات الإنسانية فيه عمّا ألفه؛ فلا بد له من جنون وشجاعة متفردتين.

بهذه العين الفضولية يتحدث زياد حمزة إلينا كمخرج ومنتج وكاتب سينمائي سوري البذرة أمريكي المحصول، حول الانتقال من مُشاهد عادي يتطلع بشغف نحو الشاشة إلى صانع لمحتواها. وذلك لأنك عندما تواجه أمواج المحيط وسباحتك ما زالت في أبجدية حركاتها، فإنك تتعلم الغرق والعوم في آن واحد، ولأنك ستحمل في سيرتك الذاتية كل مهن العالم، مرورا بغسيل الأواني في المطابخ، وذلك من أجل راتب زهيد يسمح ببقائك على سطح الماء.

إن الاقدام على تنفيذ الحلم لا يكون بالتمني، بل بشحذ الإرادة والتخلص من الأنا والغرور، فالطريق ليس معبدا، والأصدقاء ليسوا بجانبك ليساندوك، فقد بقوا في مناضد المدرسة الابتدائية. فالسينما عالم نفعي وواقعي، والصديق فيه منافس، ولا يتحمل عبء وضغط العمل فيه إلا من كانت قدماه متجذرة في أرضية صلبة.

لم يكتفِ زياد حمزة بالعمل في السينما، بل فتح الإطار يمينا وشمالا وأضاف إلى أفقه المسرح والتدريس، ولن ندخل في محطات شخصية عائلية أو نتطرق إلى تواريخ الميلاد والزواج، بل سنركز هنا على السينما التي هي الجامع والرابط المشترك بيننا.

هناك بلاد مسقط الرأس وهناك بلاد البلوغ، هناك أرضية تشحذ فيها أسنانك، وهناك السماء التي تشرق منها الشمس على وجهك. بحذر مثل الماشي على خيط بين الجنة والنار، يتنقل زياد حمزة بين نقاط الاستفهام ونقاط الضعف، ويحاول الإخلاص لسينما كانت الزاد والراية التي كان يحملهما.

وفي هذا الحوار الذي أجرته معه الجزيرة الوثائقية نحاول تلخيص النقاط المهمة في مساره، وإليكم التالي:

 

  • بين جهاد السينما وجهاد الإرهاب هناك جنة وجحيم. ماذا تقول للذي انقرض الحلم باكرا في مخيلته؟

لقد توقفت في محطات شتى قبل الوصول إلى أمريكا، حيث كان يجب صقل الذات وتعلّم الكثير لأواجه العالم بذخيرة معرفية تسمح بالمقاومة والتصدي لكل مجهول. كان الحصول على التأشيرة أمرا خياليا، خاصة للسوري القادم من أرض عربية.

كل الطرق تؤدي إلى الحلم، وحلمي كان مكة السينما: أمريكا. كان الزاد قوة الإيمان والسلاح الحلم الذي أحمله على كتفي، وكان الماضي يطاردني، لكن الرغبة في حياة أفضل مكنتني من الوصول إلى مخدع آمن، فوجدت في أمريكا الترحيب الكافي للعمل.

لم يكن باستطاعتي دراسة السينما في سوريا، فلم يكن لدي سوى خيار واحد هو “هوليود”. لقد بدأت رحلتي مثل الكثيرين من قبلي، حيث وصلت إلى “الولايات المتحدة الأمريكية” صغيرا وحيدا من دون نقود، وكانت الحياة خطرة وصعبة خاصة في البداية، فلم أكن أعرف أحدا، ولا أملك شيئا سوى حقيبة صغيرة أحملها معي.

إن العدو الأول للطفولة في البلاد العربية يبقى دوما الحكومات القمعية التي تقتل الحلم في البيضة، حيث لم نعد نربي أولادنا على النزاهة والثقة، وإنما ندفع بهم إلى النفعية والمنافسة.

الفارق بين المجتمع الأمريكي والعربي يكمن في قبول الآخر وتساوي فرص النجاح بين الناس رغم اختلاف أجناسهم وطبقاتهم الاجتماعية. الأجيال العربية القادمة لا تثق في حكوماتها، وبالتالي هناك انفصال بين الشعب والحكومة.

المخرج السوري “زياد حمزة” رفقة فريق الإنتاج في هوليود

 

  • هل يستغل موضوع الإرهاب في أغلبية الأفلام العربية؟

لا أريد استغلال الألم السوري لأجني أي ربح من خلاله، فعدد كبير من المخرجين ضاعفوا رصيدهم المالي من خلال تنازلات سياسية. وبدون أي حكم أو انتقاد هناك العديد من المخرجين الذين يستغلون الوضع في بناء علاقات جديدة تستفيد من الحرب، ومن هذا الموضوع تحديدا.

  • هل الفيلم ينافس التقرير التلفزيوني في تعامله مع الواقع؟

إن التقاء السينما بالتلفزيون ليس دوما أمرا مجديا، لأن السينما حلم نتنقل من خلاله في مغامرات وعالم مثالي، حتى وإن كانت السينما بساط ريح يركبه المشاهد ويتناسى واقعه، فالتلفزيون اجترار للواقع ومواجهة لبشاعة يوميات ليست دوما مشرقة.

  • هناك فيلم روائي طويل حول موضوع الإرهاب يكلف ميزانية أربعة أفلام وثائقية، هل هذه الأفلام نوع من تبرير الضمير عند المخرجين العرب؟

الوثائقي لا يستقطب السجادة الحمراء أكثر من الروائي، لأن شخصيات الوثائقي لا يحق لها أن تصل إلى الضوء، لذلك عندما يتسنى للمخرج الاختيار فإنه غالبا ما يلجأ للروائي، وذلك لقوة وصوله للجمهور ولعالمه البراق، لكن الأسلوب لا يكمن في التوثيق أو التمثيل.

 

  • هل أخفقت السينما العربية في زرع الحلم الفكري بالمجتمع؟

السينما محفز روحي ونفسي وإطار منفتح على الجمال يغذي الإنسانية شعريا، لكن السينما العربية ما زالت تحوم حول الغبار، وكل من خرج عن السرب اتهم وصار يشار إليه بالأصبع، فالناس بالمجتمع العربي يقيدون بمعتقدات نفذ زمن صلاحيتها، والمخرج العربي المتفرد لا يسمح له بتطوير رؤيته.

  • البطل الأمريكي من أهم خصائصه إنقاذ العالم، لكن لماذا البطل بالسينما العربية يظهر مقهورا وبائسا وغير قادر على إنقاذ نفسه؟

إن قدرة السينما الأمريكية على إفساح المجال لكل ما هو استثنائي يجعل منها قوة إبداعية دائمة، أما بالنسبة للسنيما العربية فهي تختار أبطالا يشبهون المشاهد كثيرا، ظنا بأن هذا سيزيد من تفاعلهم معه، وهذا يمنع المشاهد من الحلم بعالم أفضل، ويبقيه في دوار لا تنتهي مشاقه إلى الأبد.

في أمريكا كل شخص له القدرة على تغيير حياته بنفسه، عكس العالم العربي الذي يبدو لي بأن من المستحيل أن ينجو الفرد فيه بنفسه، فما بالك بالتغيير؟

هناك “دون كيشوت” وهناك الآخرون، ولا بد للعربي أن يؤمن بالحلم وبإمكانية الخروج من فكرة المكتوب والمسطر أو المحتوم. نحتاج إلى “الحلم العربي” ربما بعد سقوط الديكتاتوريات والخروج من تورط الدين بالسياسة، حينها قد يكون ذلك ممكنا.

 

  • على أي دعم يعتمد الفيلم الأمريكي المستقل غير التابع للأستوديوهات؟

هناك عدة سبل لتمويل الفيلم المستقل بأمريكا، لأن المنتج يؤمن بالسيناريو قبل كل شيء، لكن سابقا كانت قوة الأستوديوهات لا تسمح بالمنافسة، فحتى وإن أنجز الفيلم فإنه كان لا يصل إلى عدد كبير من الناس، أما حاليا فقد خفضت الإنترنت والوسائل الحديثة من المستوى الفني، لأن الإنتاج صار سريعا، والطلب فاق العرض، لذلك فالأستوديوهات تحتاج إلى هذه الأفلام الحُرّة لسد الثغرة.

بالنسبة للفيلم المستقل عن الأستوديوهات العملاقة فهو يمثل تقريبا 50 بالمئة من شباك التذاكر الآن، فغالبا ما تجد أفلاما لم يصرف عليها كثيرا، لكن مداخيلها تفوق ميزانيتها بمئات المرات، لأن التقنيات المبسطة تسمح بتصوير أفلام بميزانية محدودة دون المساس بالجودة الفنية أحيانا، كما أن الإنترنت أصبح واجهة جديدة لعرض الأفلام، مما يقلص كثيرا ميزانية التوزيع.

  • هل السينما التي تمارسها أمريكية الأسلوب والمضمون، وأين تضع بصمتك السورية داخلها؟

ليس ضروريا نسخ أسلوب فرنسي أو أمريكي، لأن كل قصة تفرض أسلوبا سرديا معينا، رغم أن الرنّة السورية لا تفارقني، فالسيناريو يملي الأسلوب وليس العكس، وهوية الفيلم الفنية لا تحتاج إلى هوية سياسية.

  • يقول “غودار” “إن السينما هي الحقيقة 24 مرة في الثانية”، ويقول “دوبالما” “إن السينما هي الكذب 24 مرة في الثانية”. فما رأيك في ذلك؟

السينما تتحايل، أي أنها لا تدلي دوما بصراحة موضوعية، فلا يمكن فهم الحب دون تفهم الكراهية، ولا يمكن الاقتراب من الحقيقة دون الإلمام بالكذب. أعتقد أن الحقيقة لا يجب أن تمنعك من السرد الحر.

 

  • على أي منهج تعتمد كمدرس في إيصال الرؤية الصحيحة للطالب؟

الصورة تنافس الكتاب بشراسة، وأمريكا تعرف هذا جيدا، لذلك تنفق ميزانيات خيالية في السينما، فكل الجامعات تدرس السينما إلا في العالم العربي، رغم بعض المبادرات المحترمة، فمن يحب مهنته يريد إيصالها للآخر، والتدريس ليس إلا جزءا من المهنة، وما يهمني هو توصل كل طالب إلى أسلوبه الشخصي.

أما في العالم العربي ما زلنا ننسخ الشكليات ولا نهتم بقلب المادة السينمائية. لا بد لنا أن نهتم بالسينما كأداة تساهم في بناء عالم جديد، وأهم منهج هو أن يتعلم الطالب كيف يتعلم بنفسه قبل الاعتماد على الأستاذ.

  • كيف توفق بين المسرح والسينما؟

كان المسرح أساسيا في تدريبي، فهناك كنت قادرا على تطوير أسلوب التحليل وصقل عمل “البروفة” لضمان أفضل النتائج الممكنة. المسرح أعطاني نظرة حقيقية على أساليب الممثل واللغات المختلفة التي تحتاج إلى الإتقان من أجل أن أكون مخرجا فعالا، كما منحني المسرح الثقة للتغلب على أي عقبة تسمح لي برسم مساري الخاص.

كمخرج أفلام أستخدم الكثير مما تعلمته في المسرح، ممثلي وطاقمي لديهم تقدير حقيقي لأسلوبي بسبب احترام الحرفة والأشخاص الذين أعمل معهم، لا أستطيع أن أتخيل عدم وجود كل منهما في حياتي.

 

  • هل الإطار بالسينما أهم من السيناريو، أم أن السينما جودة في الإطار؟

من الضروري ملاحظة أن الجزء الأكثر أهمية هو السيناريو، فلا يمكنك بناء منزل على الأراضي الهشة بنفس الطريقة التي لا يمكنك أن تصنع فيلما كبيرا دون سيناريو رائع مهما كانت رائعة رؤيتك، فالنص يعطي السبب والغرض للإطار، ومن يعرف المسرح يعرف حقا قيمة الممثل.

  • هل المسلسل التلفزيوني يمثل مستقبل السينما في ظل الظروف الصحية التي ستدوم حتما؟

بسبب التغيير الملحوظ في التكنولوجيا أصبحت المسلسلات التلفزيونية جزءا هاما من وسائل الترفيه، فمعظم الناس في العالم اليوم يشاهدون أفلامهم وأجهزة التلفاز على منصات جديدة مثل أجهزة الحاسوب المحمولة أو الهواتف النقالة، لذلك يجب علينا دائما اعتماد التغييرات التي يقدمها العالم، بل هي أيضا فرصة للوصول إلى جمهور أكثر عالمية.

التحدي الجديد الآن هو وجود فيروس كورونا (كوفيد 19)، وكيف نضمن سلامة طاقمنا، إذ لا بد من إدارة التغييرات الجديدة ومتابعتها عن كثب، لأن الناس أكثر أهمية بالنسبة لي من صنع أي أفلام، وقد عُرضت علينا هنا في الولايات المتحدة الأمريكية مبادئ توجيهية صارمة يجب أن نتبعها.

شخصيا أرحب بهذا الجانب من عملنا. التلفزيون لم يقتل الراديو ولن يقتل السينما، مثل الإنترنت الذي لم يقتل الأدب ولا الشعر أو الرقص، بل السينما باقية مهما تغيرت طرق التنفيذ والعرض.

المخرج السوري الكبير “محمد ملص” الذي وصفه المخرج “زياد حمزة” بأنه فنان حقيقي ورائد في السينما السورية

 

  • يبحث المخرج السوري محمد ملص حاليا عن تمويل منذ 10 سنوات، كيف تفسر عدم التوصل إلى إيجاد ميزانية لهؤلاء المخرجين؟

أعرف عددا من المخرجين الكبار مثل محمد ملص، ممن يجدون صعوبة في العثور على المال لسرد قصصهم. وأعتقد أن أحد الأسباب هو أنهم فنانون حقيقيون يحاولون سرد القصص بالصفات النبيلة، لا ينظر إلى أعمالهم على أنها وسيلة تجارية، وجميع المنتجين وشركات الإنتاج في العالم العربي تنظر إلى فرص إنتاج الأفلام أو المسلسلات التلفزيونية القائمة على مشروع تجاري. كل شيء الآن هو جني المال بدلا من تغذية أرواح مجتمعاتنا.

أقدّر محمد ملص ومساهمته الرائعة في السينما السورية، وأملي هو الوقوف إلى جانبه كمنتج في المستقبل القريب عندما تعود الأمور إلى طبيعتها.

  • منذ عمر الشريف لم نرَ الكثير من الممثلين العرب في أدوار رئيسية بالسينما الغربية، لماذا؟

لا أعتقد أنه سيكون هناك أي عمر شريف آخر، لقد كان مثاليا في هوليود لأسباب كثيرة، كان لمصر عصر ذهبي من السينما والثقافة، وكانت تحظى بالاحترام على الصعيد العالمي. لقد فقدنا تقدمنا ودمرنا صورتنا في أذهان المجتمع العالمي، لم نعد مثالا للرومانسية كما في زمن عمر الشريف، بل ينظر لنا كجهلة متخلفين لا يستحقون أي تقدير.

انظروا إلى غالبية الأدوار التي يظهر بها العرب: إرهابي أو بدوي أو جاهل خشن، وبمجرد أن نتبنى الثقافة الحقيقية سنتمكن من إقامة علاقة أعمق في هوليود.

المخرج السوري الهوليودي “زياد حمزة” خلال جلسة تصوير لأحد أفلامه في هوليود

 

  • ماذا ينقص الإنتاج العربي كي يصل إلى قوة الفيلم الأمريكي؟

إن المشكلة الكبرى في الإنتاج العربي هي القصص وطريقة سردها، إنها تحافظ على النكهات المحلية بدلا من اختيار نهج أكثر عالمية. إنهم بحاجة إلى الاستثمار في تعلم الكتابة بطريقة جديدة، إلى جانب نمو معايير صناعة السينما والتلفزيون. إنهم بحاجة إلى خلق ورعاية صانعي الأفلام، وإعادة تعريف الثقافة، كما أنهم بحاجة إلى الاستثمار في تطوير وتثقيف جمهورهم المحلي قبل أن يتمكنوا من صنع شيء أصلي وأصيل.

لا أحد مهتم بقصص أشخاص لا نحترمهم، لا يجب أن تهتم هوليود لأنه يجب علينا إعادة بناء صورتنا بدلا من السماح لهوليود بخلقها لنا.

من المشاكل الكبرى اليوم أن العرب قد سجنوا أنفسهم حقا في تقاليد قديمة وعقول ضيقة، نحن نقتل هذه   الأحلام والأفكار الحرة ونستبدلها بهاجس الخوف. إنها أيضا مشكلة مجتمعية، لأن الناس فقدوا الأمل والثقة بأنفسهم وأطفالهم، ولكي يزدهر المخرجون الجدد والأفكار الجديدة يجب علينا أولا أن نعيد الثقة للأطفال العرب بهويتهم، للأسف لا يمكن للأطفال وصُنّاع السينما العرب أن يحظوا أبدا بالاهتمام والاحترام من مجتمعهم حتى يغادروا وطنهم، ويُمنحوا الفرصة للحلم والنمو في الخارج. لقد وضعنا أنفسنا في موقف لا نعرف فيه ما هو جيد حتى يخبرنا الغرب به.


إعلان