المخرج السينغالي موسى توري للوثائقية: تجارة العبودية توقفت، لكن ممارستها لم تتوقف
حاوره: حميد بن عمرة
الرجل يتقن الحديث عن حياته وعن السينما التي يمارسها، ولا يبخل بالتفاصيل عن فيلم أو موضوع يعرفه ويكون متأكدا من مضمونه، فهو لا يحتاج إلى بطاقة تعريف لأن موضوعه الأساسي الذي يدافع عنه في كل جبهة هو الهوية الأفريقية.
تبدو اختياراته منطقية ومتسلسلة ومرتبطة بتوجهاته الأناسية، وعادة ما نتكهن قبل مشاهدة أفلامه أن البصمة غير مُزوّرة، وأن الخط البياني الذي يسلكه ثابت في جوهره. لقد تحدثنا طويلا في مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية عام 2017، حيث كنا بلجنتي التحكيم الوثائقية والروائية، فكنا نلتقي في أوقات مستقطعة تُخرِج كلانا من جدال اليوم مع فريق عمله، ولمدة أسبوع تبادلنا فيه الخبرات وزوايا الرؤى المختلفة. إنه المخرج السينغالي موسى توري.
قبل فتح ملفات تدور حول إنجازاته، دعونا نتوقف عند فيلم تسجيلي أثار اهتمامي سريعا لأهميته الاجتماعية والإنسانية، حيث أخرج موسى توري عام 2001 أول وثائقي في قائمة أفلامه حول يتامى الشوارع بمدينة برازافيل الكونغو بعنوان “غبار الشارع”. وقد تحوّل فيه المخرج من وظيفته المهنية إلى الأخ الأكبر، وتخلّى عن الكاميرا كقناع فاصل بينه وبين واقع طفولة مُهملة لا يرعى مستقبلها سوى القدر.
لم يقبل أن يصور بؤس الأطفال والعودة إلى السينغال دون القيام بأي شيء من أجلهم، فقام بتصريح جريء بالفيلم يُخبر فيه الأطفال والمشاهد أنه لم يعد مُخرجا، بل أبا قبل كل شيء، ولأن الأطفال باحوا له بأسرار حياتهم؛ توّجب عليه أن يعرفهم بنفسه، فالسينما الحقيقية ليست استغلالا لحزن الآخر، بل تبادل في الشاعر.
“نحن الآخرون”.. عزلة الجالية المالية في إسبانيا
في مسيرة موسى توري الآخر المختلف عنه والقريب من إنسانيته يستقطبه أكثر من الذي يشبهه في كل شيء، وهذا الفضول نحو الآخر يجعله مخرجا إنسانيا قبل كل شيء، فيخرج بعد ذلك فيلما تسجيليا آخر على نفس النسق وبالعين الفضولية نفسها، وهو “نحن الآخرون” Nosaltres) 2006) حول جالية مالية تعيش في إسبانيا. لماذا الماليون دون سواهم؟ لأن المخرج من أم مالية وأب سينغالي، وباهتمامه بذويه يهتم بماضي أمه من باب آخر.
السوق أهم مسرح منذ الأزل، حيث نبيع ونشتري فيه البضاعة ونتبادل النفوذ والتوابل والابتسامة والوجه المكشر، وبالسوق أيضا نبض الحياة الحقيقية لكل مدينة، وفي مدينة تبعد 35 كلم عن برشلونة تدعى “سان فيليو” تعيش جالية مالية بين الجالية الكتالانية الإسبانية.
لا ينظر موسى توري إلى الوجوه فقط، بل إلى ظلهم ويقول: إنك لا تعرف إن كان الشخص أسمر أو أبيض من خلال الظل، والظلال لا تقترب من بعضها، بل تتعاقب في صمت خائفة كلاها من الآخر.
ما لاحظه في الأرض كان أكثر بشاعة عندما رفع رأسه، فالكتالان من جهة والأفارقة من جهة أخرى في الفضاء نفسه، لكن لا أحد يبالي بالآخر. فاقترب من مجموعة سارعت أن تتهم المجموعة المقابلة بالعنصرية، فذهب إلى هؤلاء العنصريين فقالوا لهم الشيء نفسه عن المجموعة التي غادرها. أي أن المخرج يجد نفسه بين كتلتين تُتهم كل منهما بنفس العورة، ولا تعرف أن تنظر كل منها إلى عورتها.
فتوصل إلى استنتاج مفاده إن المجموعة الأفريقية من أصول مالية كانت فقط منطوية على ذاتها، حيث خلق هذا الانزواء نوعا من التكبر الوهمي الذي يظنه الإسباني تعاليا، وبالتالي عنصرية. الأجناس لا تعرف بعضها ولا تعرف عن تاريخ وطقوس الآخر إلا النمطي والمُحرّف، والعنصرية تنتج من قراءة لم يتفق الطرفان على معنى أبجديتها.
أنا والآخر.. بذرة الصورة النمطية التي تنبت العنصرية
يتساءل موسى توري عن سرعة اللسان في الاتهام وعدم التأني في اتخاذ قرارات مصيرية قد تغير سبل حياة بأكملها؟ فعاد بالكاميرا كمرآة، وتنقّل بين المجموعتين وعاشرهما، واستخلص أنهما يتقاربان في انغلاقهما، وأيضا في خوفهما المتبادل من الآخر، فالمخرج ليس فقط متلصصا على حياة الناس، بل رابط ومُقرّب للشمل.
خلال تصوير الفيلم قرر أن يلتقي بالطرفين وأن يتحدثا جهرا، وأن تُعبّر كل مجموعة عن كل ما قالته على انفراد، وأن تعيده على مسمع من الجهة المعنية، وذلك بشكل رسمي بحضور رئيس البلدية وجمعيات لكل منهما.
عاد موسى توري إلى المدينة ليشاهد بعينه ما غرسته السينما في أرضية كانت تبدو عاقرا، فوجد أن علاقات الود والعمل وحتى الزواج صارت أمرا عاديا بينهما.
من باقة أسئلة متناثرة اخترنا انتقاء ثلاثة منها نعرضها في شكلها المباشر والحرفي من خلال طرحنا لسينما موسى توري. إنه مثل الحكواتي قد يتحدث عن فيلم لمدة ثماني ساعات، وقد يضاعف الزمن المحدد له في إطار ورشة بين التلاميذ.
-
هل الفيلم الوثائقي يتعامل مع التاريخ أم يتحرى اجتماعيا لوضع ما؟
إن السينما الأفريقية تنطلق كلها تقريبا من الواقع بحثا عن رؤية ورواية خيالية، فالشاشة كانت وما زالت تمثل الواقع، وغالبا ما ترى المشاهد يتحدث مع شخصيات الفيلم جهرا حتى وإن كان يعرف أن ما يُعرض ليس حقيقة، غير أنه يتجه نحو البطل إما ليأنبه أو يشجعه، وأحيانا قد تسمع أشخاصا يحذرون البطل من خطر قادم.
في بداية السينما هرع الكثيرون أمام قدوم قطار الإخوة “لوميير” عندما عرض لأول مرة. الجمهور الأفريقي رائع لأنه يثق في الشاشة، فالسينما الأفريقية تدوّن تاريخها دون شعور، ودون خطة ممنهجة مسبقة التخطيط.
المخرج الأفريقي لا يحتاج إلى تحرٍ، بل يكفي أن يرصد الأحداث، فالواقع يبحث ويتساءل طبيعيا في مجتمعاتنا.
يحدد موسى توري أن هناك تيارا سينمائيا أفريقيا بين جيل متسرع وجيل قديم ما زال يفكر بآليات وعيار العمل القديم والثقيل، ليس مهما كثرة الإنتاج، لكن الكثير يخلق تمرسا يعوض انعدام المدارس بأفريقيا.
يهتم كثيرا بالسينما الحرة على غرار السينما الموجهة والمعلبة، فالحرية السينمائية تربط بين الشخصي والحميمي، وبين العالمي الخالي من الزركشة والراية العشائرية.
“الزورق”.. مصدر للرزق ومقبرة لخيرة أبناء السنغال
يتحدث موسى توري بغضب عن الشباب السينغالي الذي يمثل 52% في سن العشرين. لذا يأتي فيلمه الروائي ” الزورق” كإنجاز منطقي يُعبّر عن غضب جيل كامل عن الحكومات المتعاونة والمتورطة في قضايا تُغرق البلد في زوبعة دائمة.
يقول إن فيلمه حول المهاجرين عبر البحر ليس فيلما حزينا، وإنما هو قصة ثورية تُسجّل مواجهة الشباب للأمواج، فالبحر مصدر للحياة ومقبرة لخيرة أطفال السينغال.
إنهم قراصنة لا يقتحمون البواخر للاستيلاء على كنوزها، وإنما يحاولون اقتحام الأفق والاستيلاء على الأمل المجهول. فكيف يتحول منعدم الأمل إلى بحّار لا يُجيد السباحة، لكنه يؤمن بأن البحر لن يخونه؟ لأن السياسيين يخونون شعوبهم كل يوم، فلا يمكن للأمواج إلا أن تحمل ألم أجسادهم. فحتى في غرقهم يجدون في الموت أسلوبا نقيا ونظيفا لفراق الحياة.
-
ما الفرق بين فيلم “الزورق” الروائي، وبين فيلم “غبار الشارع” الوثائقي الذي يتحدث عن يتامى أفارقة لا يبحرون، بل يتبخرون في أرصفة مدينة برازافيل؟ ما الفرق بين من يحملهم الموج نحو الأفق، وبين من يغطيهم ظلام الموت المحتوم كل ليلة؟
يقول موسى إن العبودية موضوع لا يمكن أن تتحايل فيه على المشاهد، فعندما تأتي إلى غوري فإنك تصدم ببصمات العبيد، ولن تنجو من الرحلة مهما كانت معرفتك بالموضوع. لذا يأتي فيلمه “خشب الأبنوس” (Bois D’ebene) كإجابة منطقية لفيلم “الزورق”.
حيث يروي الفيلم كيف اقتلعت أرواح وأجساد من أراضيها لمدة قرن ونصف بعنجهية وعنف لا يضاهيهما أي استعمار. فبيع الإنسان للإنسان أقبح تعامل عرفته البشرية، وهنا يلحّ موسى توري أن تجارة العبودية توقفت، لكن ممارستها لم تتوقف.
أفريقيا عميقة وإلى الآن لا يمكن السيطرة على باطنها، أي أن التجارة لم يتمكن منها الأوروبي إلا بتورط أفارقة آخرين في هذه التجارة.
رحلة البحر.. تغيرت الأسماء والعبودية واحدة
يربط موسى توري بين عبودية الماضي وعبودية أبطال فيلم “الزورق”، ويقول إن الأسماء تغيرت، لكن الأفريقي ما زال رهين الوهم الغربي، فالإبحار هو نفسه، لكن ما يختلف هو الاتجاه فقط، فالعبيد كانوا يُرسَلون إلى أمريكا، والمهاجرون يتوجهون إلى أول شاطئ أوروبي قريب منهم.
في السابق كان الأفريقي يأخذ بقوة رغما عنه، أما الآن فالأفريقي يذهب إلى المكان نفسه بمحض إرادته. فهل المهاجر من دون تأشيرة في زورق مجهول الاتجاه يذهب إلى أوروبا في حج مقتفيا رحلة أجداده العبيد، أم أن تجارة العبيد ذكية إلى درجة توفر على السيد عناء المرتزقة في اصطياد العبيد وتكلفة النقل في بواخر يدفع ثمن استعمالها وراتب بحاريها وقوت العبيد حتى الوصول؟
لا يكون هذا إلا إذا كانت هناك واسطة، وقد كانت تتمثل سابقا في عناصر أفريقية من قبائل مقاتلة تستولي على أفراد من قبيلة مزارعين أو صيادين مسالمين، أما الآن فنفس الطبقة التي تُسلّم العبيد لبست هنداما سياسيا ودبلوماسيا، وجعلت من بلداننا الأفريقية والعربية فريسة سهلة. هل المبحر في زورق الموت يفكر بهذا المنطق، أم أنه بين موت يومي روتيني وموت مجازف يفضل نكهة البطولة الوهمية فيه؟
“جذور”.. حلقة واحدة من مسلسل أشعل الفتيل
يعترف موسى توري بأن من الصعب إخراج فيلم بعد مسلسل “جذور” من بطولة “كونتا كينتي”، لأنه كان يحتاج إلى زاوية أفريقية تنطلق من الميناء الأول لهذه الكارثة.
يقول موسى توري إنه عندما عرض المسلسل بالسينغال؛ وقعت تظاهرات امتنع إثرها كل الأوروبيين من الخروج خوفا من الانتقام، وقد عرضت حلقة واحدة فقط، وكانت كافية لإشعال النار بالبلاد، فتوقف المسلسل فورا بعدها.
يستغرب موسى ويتفهم أن الأفريقي الذي كان يعيش يوميا بالأمكنة التي صدرت منها ملايين العبيد؛ كان بحاجة إلى مشاهدة الواقع من خلال شاشة التلفزيون. فهل تحول التلفزيون إلى وعاء تقاس وتوزن به الأحداث التاريخية؟ وكيف استطاع هذا الجهاز التغلب على الكتاب والجريدة، وأن يصير هو الناشر الأول للحقائق؟
يستنكر موسى توري بشدة كون السينمائي الأفريقي لا يتحدث عن بيع الأفارقة بليبيا حاليا منذ أن سقط هذا البلد بين تجار النفط، وكيف تستعبد مرة أخرى الأرواح الأفريقية من طرف أفارقة آخرين؟
-
هل الغرب يريد فعلا مساعدة السينما الأفريقية؟
السينما الأفريقية بحاجة لأن تخلق الظروف اللازمة لمساعدة ذاتها، ولا يمكن أن تنتظر الدعم الأوروبي، لأنه حتما سيحرف ويوجه مسار هذه السينما. لا يمكن أن تساعد من لا يرفض ذلك. الفرنكوفونية تخلق فضاء يخدم لغتها وسياستها ولا يمكن لومها، إنهم يدافعون عن لغتهم، لكن علينا أن نساعد بعضنا وأن نخلق فضاء أفريقيا مماثلا غير مبني على لغة فرنسية أو إنجليزية، بل على هوية الأرض الأفريقية.
يمكن تحويل مهرجان “الفيسباكو” (Fespaco) المنعقد في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو إلى سوق أفريقية كبيرة تسمح بتوزيع الفيلم الأفريقي في كل بلد من القارة.
يبدو “موسى توري” عندما يتحدث عن الدعم الأفريقي وعن مهرجان “الفيسباكو” غير متفائل كثيرا، فيلخص الموضوع بسرعة كمن يتجنب التورط في إجابات قد تثير استنكارا من جهات معينة.
لكنني أعرف هذا المكان كمخرج وعرضت به فيلمين في دورتين مختلفتين 1989 و2٠13، ويمكن الجزم بأن مهرجان “الفيسباكو” كان مكسبا ثوريا مهما في بدايته، لكنه تحول سريعا إلى عرس بلا عروسة، لأن السينما صارت فيه ميدانا لسباق خيل بين إسطبل المعسكر الفرنكوفوني والمعسكر الأنجلوفوني، مع بعض التنويهات والفتات المرمي لبعض الدول المغاربية حتى لا تحتج وتواصل التطبيل.
سينما وراثية بالعائلة.. فن الاستماع إلى الآخر
في مقام آخر يتطرق موسى توري إلى أهمية النضال السينمائي لكونه موقفا ضروريا، فالتعبير السينمائي تبجيل لا يمكن أن يستخدم عنده لاستعراض أنواع الأنا، فالاستماع للآخر أهم من محاولة استباق ما يريد أن يقوله، لأنك دوما تعتقد وتتوقع من الآخر حديثا لا وجود له إلا في ذهنيتك، فعندما لا يطرح الآخر عليك ما تريد سماعه تظنّ أنه خرج عن الموضوع، لذا فإن “بعض الظن إثم”.
نعم الآخر ليس أنت، ووجودك تحمل كاميرا لا يجعلك قديسا أو مستخرج آبار بترول، وإنما مستمعا يجعل من محاوره ممثلا محترما لا شخصا مضخما بقيم لا يحملها، ولا عنصرا مصغرا بإخفاء لُبّ وجوهر هويته.
كان والد موسى توري مُصوّرا فوتوغرافيا، وعندما وافته المنية كان عمر موسى 14 سنة، وهو يفتخر بتبني الكاتب والمخرج السينغالي “سمبان عصمان” له في سن مبكر، ويذكر بداياته كمسؤول على الكهرباء بالسينما.
كان ينام وفي مخيلته تعابير الوجوه التي صُورت بالنهار، وما كان يمكن تجنبه أو القيام به، فتوصل بعد سنوات إلى الخروج من الظل، فصار مدير تصوير. وكان أول فيلم قصير له بعنوان “بغن” أي “شواء الحوت”، وتدور كل أحداث الفيلم بزورق بين جدّ وحفيده، حيث يعلم الجدّ فيه حفيده الصيد. الفيلم عبارة عن رواية حول صلة الرحم.
-
هل فيلم “بروم شارت” روائي أم وثائقي؟
إنه فيلم واقعي وثائقي يُدرج في قاموس السينما التسجيلية، لكن يمكن أن يكون روائيا أو نوعا من البورتريه. معرفته بأبي جعلتني قريبا له، لقد عملت بفيلمه “معسكر تراوري”، وهو من إنتاج سينغالي جزائري تونسي، وهي تجربة دعم مغاربية أفريقية لم تتكرر بالسينما الأفريقية.
كنت بالإضاءة أصور النور على الوجوه التي كانت بين يديه لسرد واقع المجندين في الحرب العالمية الثانية الذين استعملوا في الصفوف الأولى، وبعدها وقع التخلص منهم لأنهم طالبوا ببعض الحقوق. فهل السينما هي الحب الأول، أي الرجوع إلى القصة الأولى التي بعد سنوات تحوّلت إلى فيلم “الزورق” الذي دخل به إلى مهرجان “كان” عام 2012؟ أم إنها قصة “المسن والبحر” للكاتب الأمريكي “همنغواي” وعلاقة الصياد “سانتياغو” بالطفل “مانولان”؟ أم أن فيلمه الأول كان رمزا لعلاقته بالمخرج “سمبان عصمان” وكيف كان يتعلم منه؟
الهاجس الوحيد لأول فيلم لسمبان عصمان “بروم شارت” بعد الإضاءة كان اكتشاف المخابر للتحميض بفرنسا، فسافر للتعلم دون فقدان حلم الرجوع إلى الوطن لأن “سمبان عصمان” كان يلح دوما على الرجوع الى أرض الوطن والحفاظ على هوية التراب.
فيلم “توباب بي” لموسى توري رغم أنه توصل أن ينتجه من طرف أكبر شركة فرنسة للإنتاج “غومون”، فإنه حافظ على البصمة الأفريقية بموضوع أفريقي. حيث يستغرب موسى توري مرة أخرى أن الأوروبي يسأل دوما الأفريقي عن ما إذا كان سيبقى ببلاده، غير أن المخرج السينغالي رفض هذا التوجه وما زال يمارس السينما بوطنه.
يعتمد موسى توري في فيلمه “تي جي في” (TGV) على شخصية فكاهية تدعى “رامبو” (الممثل الراحل برنار جيرودو) كناية عن شخصية الفيلم الأمريكي كسائق حافلة سريعة تربط بين العاصمة السينغالية داكار والعاصمة الغينية كوناكري. فكل الشخصيات تغامر في هذه الرحلة رغم علمهم بأن الحدود خطيرة، وذلك لكون الحدود بين البلدين تحت سيطرة مجموعات مسلحة. حيث يحشر في حافلته أكثر من ثلاثين شخصية كل منها بتوجه وهدف شخصي معين، وقد جرى التدريب على محتوى الحوارات بشكل دقيق داخل الحافلة كل يوم حتى يتسنى التصوير بسرعة.
اختيار الممثل من نظرة عينه.. تدريبات التصوير المكلفة
يقول موسى توري إن تكلفة التدريبات فاقت بكثير كلفة التصوير ذاته لهذا الفيلم. أي أن التحضير الدقيق يسمح دوما بتصوير المشاهد بسرعة، لكن المخرج غيّر كل الحركات أثناء التصوير، وذلك حتى يخلق عند كل الممثلين شكا يظهر بالكاميرا كقيمة إضافية لتمثيلهم، وهذا دون تغيير الحوار. فهل هذا النوع من أفلام الحافلات والقطارات والبواخر والطائرات والغواصات ومركبات الفضاء هو بمثابة مسرح متنقل؟
اختيار الممثل بالنسبة له يعتمد على قوة النظرة أساسا، فالعين هي التي تستقطب العدسة. ويؤكد أن الوثائقي علّمه كيف يستمع لشخص له حضور حتى وإن كان في نطقه وفي كلماته لا يحمل أي بلاغة وفصاحة.
لولا الكاميرات الحديثة وأسعارها المنخفضة مقارنة بالشريط 35مم وثقل ميزانية التحميض ومحدودية عدد اللقطات المكررة؛ لما كان حاليا للسينما الأفريقية ولا للعربية أي وجود. فقبل فيلم “الزورق” أخرج 17 وثائقيا لا يمكن ذكرها جميعا، لكن يذكر موسى توري أنه تعلم منها ماهية الواقع وما الفرق بين التمثيل السطحي وحقيقة التمثيل؟
رحلة الأيام السبعة.. بين روّاد الفضاء وروّاد زوارق الموت
ما لا يعرفه المشاهد أو البعيد عن الواقع المؤلم للمهاجر عبر زوارق الموت هو أنهم يتدربون على عدم التحرك لمدة 7 أيام (أي الزمن المحدد بين السينغال وإسبانيا)، وإنهم يتدربون على الصوم وعدم الأكل حتى لا يجبرون لقضاء حاجاتهم اليومية. فما الفرق بينهم وبين رواد الفضاء الذين يحضرون بنفس النسق؟
رواد الفضاء لم تخنهم حكوماتهم ولم يعانوا من العبودية، ولم تجرب على أجسادهم الأسلحة وحقن التطعيم النافذة صلاحيتها، ولم يعانوا من الميليشيات المتعددة الأجناس، ولم يناموا على وهم الهجرة. أما روّاد زوارق الموت فلا يختلفون عن الذي قرر أن ينسف حياته وحياة غيره بقنبلة يدوية مصنعة تقليديا قد تنفجر أو قد تشتعل فقط لتكون هزلية الحدث، فبشاعة المنظر أكثر من الدمار المقرر سلفا.
موسى توري رائد بكاميرا تعرف اصطياد الحقيقة وتبحث عن الصادق أكثر من الجميل، لأن الصدق جمال، ولأن الحب جمال، ولأن الوطن حقيقة وليس وهما، ولأن الزورق مخصص لاصطياد السمك وليس لاصطياد الأرواح. فالسينما الأفريقية تحتاج إلى صراحة ومنهج وثقة بالنفس، مثل التي يحملها المخرج موسى توري في أفلامه وتدخلاته المختلفة. فهل السينما واقع وخيال معا، أم أنها نسيج متشابك لا نفرز فيها الحقيقة من الكذب؟
لكن ما يميز كثيرا موسى توري هو أنه يعيش ببلده وقريب من أفريقيته أكثر من الكثير من المخرجين المقيمين بأرووبا، والذين يزعمون أنهم أكثر حرية لوجودهم بالضفة الأكثر إشعاعا.