“السينما الهندية أنقذت حياتي”.. مخرج القضايا الإنسانية كبير خان يتحدث للوثائقية
حاورته: ندى الأزهري
مَنْ يكون أفضل من سلمان خان -المسلم في الواقع- ليكون المنقذ الهندوسي لصغيرة مسلمة بكماء تاهت في الهند بعيدا عن والديها القاطنين هناك في الطرف الآخر في باكستان؟ من أكثر منه قدرة بجهوده الجبارة لإعادة الطفلة إلى بلدها؟
لقد فعلها النجم الساطع المحبوب في فيلم “باجْرانجي بهاي جان” (Bajrangi Bhaijaan) تحت قيادة المخرج وكاتب السيناريو الهندي كبير خان. حيث يُعدّ كبير خان حاليا أحد أكثر مخرجي بوليود رواجا، وهو الآتي إليها من عالم الفيلم الوثائقي، فقد عُرف بمهاراته السينمائية وأعماله المختلفة تماما في مواضيعها وأسلوب تنفيذها.
بعد تخرّجه من جامعة دلهي لوحظ خان أول مرة كمصوّر في “ما وراء جبال الهيمالايا” (Beyond the Himalayas) عام 1995، وهو فيلم وثائقي شهير أخرجه “غوتام غوس”، ثمّ جاء فيلمه الأول الوثائقي “الجيش المنسي” (The Forgotten Army) عام 1999 الذي أبرز دور “سوبهاس تشاندرا” أحد رموز حركة الاستقلال الهندية.
وقد حقق فيلمين وثائقيين عن حركة طالبان في أفغانستان هما “طالبان سنوات وما بعدها” (Taliban Years and Beyond)، و”تيتانيك تغرق في كابل” (Titanic Sinks in Kabul)، وذلك قبل أن يصنع فيلمه الروائي الأول “كابل إكسبرس” (Kabul Express) في بوليود عام 2006.
كبير خان.. أفلام ما بين كابل ونيويورك
عبر فيلم “قطار كابل السريع” (Kabul Express) الذي يسرد قصة خمسة أفراد مرتبطين بالكراهية والخوف تجبرهم الظروف على التعايش معا والتعرف على بعضهم؛ برز كبير خان كسينمائي متميز في أسلوبه عن السينما السائدة آنذاك. لقد فاز الفيلم بجائزة الإخراج لأول فيلم في جوائز السينما الوطنية السنوية في الهند.
وفي عام 2009 صنع فيلم “نيويورك” (New York) الذي طرح موضوعا حساسا عن الإسلام والإرهاب على خلفية أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وحقق الفيلم نجاحا في شباك التذاكر. لكن النجاح الأكبر له جاء مع فيلم “باجرانجي بهاي جان” (2015) الذي حقق شهرة كبيرة في الهند وخارجها، ولعب بطولته النجم سلمان خان، وكان هو الفيلم الثاني لهما معا بعد “كان هناك نمر” (Ek Tha Tiger) عام 2012، وتبعه “الأنبوب المضيء” (Tubelight) عام 2017 عن الحرب الهندية الصينية.
شارك كبير خان مؤخرا في مهرجان الجونة (14-22 أكتوبر/تشرين الأول 2021) كعضو في لجنة التحكيم الدولية للأفلام الروائية، حيث التقيناه هناك قبل بدء يوم مزدحم في الجونة، وأجرينا الحوار التالي:
-
يمكن الحصول على المعلومات عن بداياتك السينمائية من الإنترنت، لكن لدينا فضول لمعرفة ما ترغب بروايته أنتَ شخصيا، كيف دخلت عالم السينما، وما الذي دفعك مثلا للتوجه نحو الفيلم الوثائقي، وما الذي تُحب أن ترويه لنا بشكل خاص؟
بعد دراسة صناعة الفيلم في نيودلهي التقيت سعيد نقوي (مراسل ومحاور وصحفي شهير في الهند عمل لوكالات دولية وصحف معروفة)، كان يشتكي من نشرات الأخبار المحلية التي كانت برأيه تُعبّر دوما عن رؤية غربية، وتغيب عنها النظرة الهندية. قررنا السفر معا، وجلنا العالم، وهكذا لمسنا بأنفسنا اختلاف ما نراه عما نسمعه.
بدا لي هذا اكتشافا شديد الأهمية، فوجودي في مكان الحدث جعلني أتلمس هذه الهوة بين ما يُروى ويُقال وما يحدث في الواقع، أي بين الحقيقة والرواية، لقد فتح هذا عيوني، لذلك قررت السفر من جديد إلى أفغانستان، وإلى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة. حينها كان الجيش الروسي ينسحب منها، وكنا حينها (1991) في فترة وُصفت بأنها تمثّل “صعود الإسلام في آسيا”، لقد مررت مع زميل لي بطشقند، وظللنا نبحث لمدة ساعتين عن مسجد، وكان كلّ من سألناهم غير قادرين على الإجابة. أثناءها كانت إذاعة “بي بي سي” تتحدث عن صعود الإسلام في هذه المنطقة من العالم، وكم دهشنا لهذا التناقض.
-
من زياراتك المتعددة لأفغانستان صنعتَ وثائقيين، ثم قررت صنع فيلمك الروائي الأول “قطار كابل السريع”، كيف قررت حينها اختيار موضوع الفيلم والانتقال من الوثائقي للروائي؟
كانت السينما السائدة آنذاك في بوليود والهند تتجنب الاقتراب من السياسة، لم أكن مرتاحا لذلك، وشعرت بضرورة فعل شيء بهذا الخصوص، كنا في عام 2001، واتجهت من جديد إلى أفغانستان، وحققت عدة أفلام، وبدت لي من خلالها تعقيدات الوضع.
كنت أيضا أشعر بالإحباط لعدم توفر جمهور للفيلم الوثائقي في الهند، بينما كان التواصل مع الناس والوصول إليهم عبر أعمالي يشكّل أهمية كبرى بالنسبة لي، لقد تأكدت أن ذلك لن يكون ممكنا إلا عبر الفيلم الروائي.
بدأت فيلم “كابل.. القطار السريع” (Kabul Express)، وكان مخالفا لما هو متعارف عليه في السينما الهندية، فلا قصة حبّ فيه ولا رقص أو غناء، وقد تطلّب الأمر وقتا قبل أن أجد منتجا، إلى أن ساعدتني الظروف في التعامل مع أستديوهات بوليود.
-
وهل كانت رحلاتك العديدة لأفغانستان هي من ألهمك قصة الفيلم؟
بدأت بذرة الفيلم أثناء زيارة لمنطقة بانشير هناك، وكان صحفيون عدة يرغبون بزيارة سجن احتوى مقاتلين مرتزقة قبض عليهم المجاهدون، وقد سهّل لنا الأمر كوننا من الهند، كان المكان كجزيرة بين نهرين، بقينا هناك أياما، وتبادلنا الأحاديث مع السجناء، وتعرفنا على البعض منهم، وبينهم شخص من باكستان يُدعى خالد، إلى أن طلب منا يوما استخدام هاتفنا المتصل بالقمر الصناعي.
ترددنا جدا في البداية، ثم قبلنا واتصل بعائلته، وكانت تظنه ميتا بعد انقطاع أخباره لسنتين، بدا لنا هذا الرجل الضخم الهرم (62 عاما) كطفل تماما، وقد انهار وهو يتحدث مع ابنته، نظرنا إليه كإنسان ملتاع، وشعرت حينها برغبة باكتشاف نفسيات هؤلاء القوم وسبر أغوارهم، والنظر إليهم من جوانب أخرى، كانت هي اللحظة التي بدأت فيها التفكير بالفيلم.
- ذكرتَ أن كونك هنديا سهّل لك التواصل مع الناس في أفغانستان، كيف ذلك؟ هل يمكن أن تذكر لنا حادثة ما؟
السينما الهندية أنقذت حياتي، كنت مرة قد حاولت دخول أفغانستان من طشقند في ظروف صعبة وشاقة، لكن محاولاتي باءت بالفشل، إلى أن وقعت مع المنتج على مروحية روسية تنقل أدوية لأفغانستان، رشونا الطيار لإقناعه بقبولنا على طائرته، وما إن اقتربنا من كابل حتى انخفض بالطائرة طالبا منا القفز.
لم يكن يريد الوصول للمكان ونحن معه، فهذا مخالف للتعليمات، لقد وجدنا نفسينا في وسط الجبال، ولم نستطع تحديد موقعنا، ووقفنا في حيرة وضياع، وإذ برجل يتجه نحونا يتوعّد ويُهدّد برشاش، وكان يتهيأ لإطلاق النار، ارتعبنا فبدأت بالصراخ “هندوستان، هندوستان..” (الهند، الهند بالفارسية)، وإذ به يهدأ فورا، وينطلق مُغنيا بصوت جهوري بأغنية كان سمعها من فيلم هندي، ساعدنا بعدها وأرسل لنا من يوصلنا إلى كابل، وبدأتْ معاركي أنا بعد ذلك لكتابة الفيلم.
-
هل نال الفيلم نجاحا في الهند؟
نلت عنه جائزة إخراج العمل الأول في جوائز السينما الوطنية، وعُرض في تورنتو، أما عن النجاح الجماهيري فيمكنني القول إنه غطّى نفقاته، وإنما جاءت أهميته من فتحه المجال أمامي، فمن خلاله تعرّف علي الناس، ولاحظ البعض أنني صوت جديد في السينما الهندية، واقترحت لي أستديوهات “تشوبرا” الشهيرة في بوليود عمل فيلم جماهيري بعدها. وحين قلت إنني لا أعرف صُنع هذا، طلبوا مني التفكير في الأمر، وأعطوني كل الوقت اللازم.
كتبت فيلم “نيويورك” (2009) عن سجين غير مُحاكم في الولايات المتحدة كانوا التقطوه من الشوارع، ولم يكن يجمع بينهم شيء سوى كونهم مسلمين، وقررت عمل الفيلم عن ثلاثة طلاب منهم كانوا يدرسون في نيويورك.
فيلمي كان سياسيا جدا، ولم يكن عن الدين، ونظرتي كانت بالكامل متعلقة بكرامة الإنسان التي تُهان، وعزّته التي تهدر، إنه نضالي من أجل العزة والكرامة. لقد نجح الفيلم نجاحا جماهيريا كبيرا، لأنه من هذا النوع السينمائي الذي أميل إليه، ففي بوليوود لم تكن الأفلام ذات الخلفية السياسية دارجة، ومع هذا الفيلم بدأت الفكرة مقبولة أكثر.
-
حين شاهدتُ فيلم “باجرانجي بهاي جان” في نيودلهي جذبني فيه -كفيلم من بوليود- موضوعه، وكذلك اسم سلمان خان. حقيقة لم أكن أعرف اسمك حينها، وأظن أن هذا حال كثيرين ذهبوا لأجل سلمان خان. فما هو شعورك والناس تذهب لرؤية النجم وليس لاسمك؟
هذا أمر فيه مصلحتي، فأنا شخصيا انتقلت من الوثائقي للروائي لأصل إلى أكبر قدر ممكن من الجماهير. كان الفيلم سينجح من دون نجم كبير، لكنه نجح أيضا لأن سلمان خان فيه.
حين يستمتع الناس، فهذا سيفيد في انتشار الفيلم، لقد نجح في الصين مثلا على الرغم من أنهم لا يعرفون النجم تماما، لا مشكلة لدي، وما يهم هو انتشار الفيلم، فأنا ليس لدي هذا التمركز حول الذات.
-
كيف تعاملت مع سلمان خان في الفيلم وهو النجم الكبير، هل كان يتقبّل ملاحظاتك؟
هو فيلم لا نتوقع أن تكون بطولته لسلمان خان، قصته مختلفة وكذلك الشخصية، وحين أخبرت سلمان بالدور -وكنا عملنا معا فيلما قبلها- لمست لديه حساسية خاصة تجاه قضية التمييز بين المسلمين والهندوس، لكنه لم يكن يشير إليها أبدا مع أنه نجم كبير، فقد قال لي أنا أضع نفسي تحت تصرفك، واستسلم.
هو حقا نجم كبير، وله نظرته ورؤيته للدور، فقد كان يقترح بعض الأشياء، وكنت سأكون مغرورا لو لم أستمع إليه، فأنا منفتح تماما لاقتراحات الجميع، ولدي وضوح في الرؤية يتيح لي معرفة مدى ملاءمتها للعمل، لكن القرار يعود لي في النهاية، فسلمان كان يطبق ما أطلبه منه.
-
هل لك أن تذكر لنا حادثة جرت أثناء التصوير معه؟
من الأمور الطريفة المعروفة عن سلمان خان أنه يكره السفر، فهو سيكون في غاية السعادة لو أعطيته نصّا سينمائيا يدور كله في مومباي، ويفضّل أيضا أن تدور أحداثه قرب منزله، وعندها سيكون راضيا تماما، وسيوقع العقد فورا.
في فيلم “باجرانجي بهاي جان” كانت هناك طرقات كثيرة شاقة وأماكن شديدة البرودة، رغبت في مواقع تصوير جبلية بعينها، وعلى الحدود بين الهند وباكستان مناطق ثلجية بارتفاع 1200 قدم عن سطح البحر. كان علينا السير فيها أربعين دقيقة كل مرة للوصول لأمكنة التصوير، وكان سلمان لا يتوقف عن محاولة إقناعي بأنه سيجد لي موقع تصوير آخر مريحا وملائما، لكنني كنت أُصرّ على هذه الأمكنة التي قضيتُ شهورا لاختيارها.
وحين وصلنا للمكان بدأ الثلج بالهطول، وبدا الصعود شاقا والبرد قارسا، عند الغداء كان سلمان ينظر لي نظرات مُغتاظة ودالة، وكأنه يقول ” ألم أقل لك، هل أنت سعيد هكذا؟”. كانت هناك دائما مسافة بين مكان توقف السيارة وموقع التصوير، لكننا حصلنا على فيلم حقق أعلى إيرادات في تاريخ سلمان.
-
وكيف اخترتَ الطفلة، وكيف هيّئتها للدور؟
عملنا مقابلات لحوالي ألف طفلة، ليس فقط من الهند، فلم يكن عليها أن تعرف الهندية، لأنها ستظهر بدور بكماء في الفيلم، لقد بحثنا في إيران وأفغانستان، فالشخصية في الفيلم من كشمير، وعلى الطفلة أن تكون مشابهة في ملامحها للناس هناك، وحين التقيت بها عرفت أنها هي، وأجرينا لها دروسا تدريبية، وأدركت من خلالها أنها ستكون في التصوير كما في التدريبات.
-
وهل كانتْ تعرفُ سلمان خان؟
يجيب ضاحكا: ومن لا يعرفه؟ الطفل الصغير يعرفه.
-
أثناء التحضير للحوار، وخلال اطلاعي على لقاءاتك مع الصحافة الهندية، قرأت تعليقا لك على فترة حكم المغول للهند، وأنك تجد أنه من الإشكالي والمزعج مشاهدة الأفلام التي تُشيطن المغول، لأنها صُنعت لتتماشى مع السرد الشعبي، ولا تستند إلى أدلة تاريخية. أراك صريحا ولا تخفي ما تفكر به، ألا تخشى أن يؤثر هذا على شعبيتك وحضورك في عالم السينما الهندية؟
في الهند كان هناك فيلم “مغول أعظم” (Mughal-E-Azam)، وهو ملحمة تاريخية حققها “ك. آصف” عام 1960، وهو أهم فيلم تاريخي هندي عن تلك الفترة.
اليوم ومع صعود التيار اليميني والقومية الهندوسية، ثمة محاولات في السينما الهندية لإظهار المغول المسلمين وكأنهم أوغاد جلفين، لا أنكر أن من غزا الهند ارتكب أعمال القتل والعنف، لكن الحرب كانت بين ملك مسلم وملك هندوسي، وليست بين الاسلام والهندوس.
هم لم يكونوا يحاربون من أجل الدين، لكن من أجل مصالحهم والأرض، فلماذا التركيز على ديانتهم؟ هم قتلوا وحاربوا مسلمين آخرين، فالقضية لا تتعلق بالدين إذن، لقد هوجمت بشدة لأنني قلت ذلك في كل مكان، وجاءتني تهديدات بالقتل، وعرضت الشرطة حمايتي، لكنني رفضت. فهل التعبير عن رأي يسبب كل هذا؟
يجب قبول حرية التعبير واللجوء إلى النقاش، لا بثّ الكراهية.
-
لكن هل تنظر إلى نفسك كـ”مسلم” في الهند؟
البعض ينظر إلي هكذا، ويظنون أنني أُصرّح بتصريحاتي تلك لأني مسلم، لكن أفعالي ليست كلها نابعة من كوني مسلما، فأنا لا أطبق الفروض، وليس لدي الشعور بأنني مختلف لأني مسلم، لكن للأسف في السنوات القليلة الماضية أصبح إسلامك يمثل هويتك، وأرى أن هذا شيء محزن، وآمل أن الأغلبية لا تفكر على هذا النحو.
-
هل يؤثر هذا على عملك كسينمائي؟
هاجمني البعض على فيلمي “باجرانجي بهاي جان”، لكن أليس سبب نجاحه نابعا من كونه حكاية تُروى كأسطورة ووجد الناس أنفسهم فيها؟
هم إذن يجدون أنفسهم في الحبّ، وليس في الكراهية والانفصال والانعزال. الناس هم واحد، وإذا أحبوا الفيلم جدا فهذا لأنهم يؤمنون بأفكاره. ليس حسنا ما يحدث بعد إفصاحي عن آرائي، إن هذا ما يريده الجانب الآخر الذي يُحبذ منعنا من الكلام. نحن لا نريد التحريض، نريد النقاش فقط.
-
هل تؤمن بدور السينما في تغيير الأفكار والرؤى؟
ربما لا تغير السينما الناس، لكنها تدفعهم للتفكير. إن طرح الأفكار المخالفة للسائد مسؤوليتنا بما أن بحوزتنا منصة لذلك.
-
هل تفكر بالخروج عن نمط بوليود في إخراج الأفلام وصُنع فيلم مستقل، وما هو مشروعك الحالي؟
لا توجد سينما مستقلة حقا أو سينما بوليودية، لا خط فاصل بينهما. لقد أنجزت فيلم “83” الذي سُيعرض في ديسمبر/كانون الأول القادم، إنه عن رياضة الكريكيت التي تُعتبر أيقونة في الهند، وعن فوز الفريق الهندي ببطولة العالم فيها عام 1983، حين لم يكن أحد يصدق ذلك.