المخرج اللبناني زياد دويري للوثائقية: “كتبت فيلم بيروت الغربية بطريقة كونية حتى يفهمه الكل”

حاوره: أيوب واوجا

“أنا أعرف”.. هي العبارة التي قالها طارق بطل فيلم “بيروت الغربية” لأمه التي لا تعرف ماذا يحدث في بيروت، ففي فيلمه الأيقوني “بيروت الغربية” الذي أنتج سنة 1998 ظهرت معرفة المخرج اللبناني زياد دويري بأحداث الحرب الأهلية التي عايشها ونقل لنا ظلالها عن طريق أبطال فيلمه الصغار الذين يحاولون التمرد على واقعهم، والتصادم مع أسئلة وجودية يجيبون عليها بمواقف هزلية تكشف عن فظاعة الحرب الأهلية، وما خلّفته من دمار فـي المجتمع اللبناني.

نجح زياد دويري في أرشفة الحرب اللبنانية، واستطاع بعمله أن يُتوَّج بجائزة مهرجان “كان” سنة 1988، ويكتشف اللبنانيون ومعهم العالم؛ ميلاد مخرج سينمائي عالمي بتوجهات سياسية متمردة كشف عنها منذ أول مشهد في فيلمه الأول الذي يظهر فيه البطل طارق يُحرّف النشيد الوطني لفرنسا في طابور المدرسة.

انتقل زياد دويري سنة 1983 من لبنان إلى أمريكا لدراسة السينما، واشتغل في هوليود كمصور في أعمال عالمية، كفيلمي تارانتينو “خيال رخيص” (Pulp Fiction) و”كلاب المستودع” (Reservoir Dogs) قبل أن يعود للبنان بأحلام سينمائية بدأت سنة 1998 بفيلم “بيروت الغربية”، ثم فيلم “قالت ليلى” (Lila Says) سنة 2004، وعدة أفلام ومسلسل لصالح شبكة نتفلكس، ثم يأتي فيلم “قضية رقم 23” (The Insult) سنة 2017، والذي جرّ عليه انتقادات بسبب تصوير بعض مشاهده في مدينة تل أبيب.

بعد غياب طويل عن الحوارات، وصعوبة ربط الاتصال به، يعود زياد دويري في حوار خاص مع “الجزيرة الوثائقية” ليحكي عن أفكاره ورؤيته السينمائية:

 

  • بدأتَ مساركَ في السينما في الولايات المتحدة، واشتغلت مع مخرجين كبار كالمخرج “كوينتن تارانتينو”، لكن لماذا عدت للعمل في الشرق الأوسط رغم المشاكل التي يعرفها هذا القطاع عوض الاستمرار في هوليود؟

عدتُ لبيروت بسبب تعلّقي بوطني، فعلى قدر ابتعادك عن وطنك يزداد حنينك لبلدك الذي ترعرعت فيه، وفي الوقت نفسه شعرت أن هناك الكثير من القصص في بيروت والتي هي بحاجة لأن أحكيها وأنقلها عن طريق الشاشة.

كذلك لا ننسى أن أمريكا في تلك الفترة كانت تعرف نوعا من “الإسلاموفوبيا” بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، رغم أنني شخصيا لم أواجه أي حادثة عنصرية أو تفرقة من قبل الأمريكيين، لكنني شعرت بأنه حان الأوان لأن أُغيّر المشهد النفسي والشخصي.

 

  • في فيلمك “بيروت الغربية” نجحت في توثيق الحرب الأهلية كعنصر جانبي في حياة بطلي الفيلم، هل حاولت من خلال الفيلم أن تنقل لنا قصة طفولتك خلال الحرب الأهلية، وإلى أي مدى أثرت الحرب في خلفيتك الفنية؟

حكاية فيلم “بيروت الغربية” بشكل كبير هي نوع من السيرة الذاتية، راعيت الجانب الدرامي في القصة عند كتابتها، لكن دون نفي أنني سردت جانبا من طفولتي.

لقد ابتعدت عن بيروت لفترة طويلة، فقد هاجرت منها سنة 1982، ولم أعد إليها إلا بعد 15 سنة، لم أكن أفكر في العودة بسبب استقراري المهني بالولايات المتحدة، لكن الذكريات التي أخذتها من لبنان لم تكن ذكريات مأساوية، بل ذكريات جميلة ونوستاليجية.

حين كتبت قصة بيروت الغربية وقررت العودة لبيروت، فذلك راجع لكوني أحكي قصة، وكنت أؤمن بأن على القصة التي أحكي أن تُفهم من خلال المجتمعات الغربية أيضا، لم أكن أريد كتابة قصة لا يفهمها سوى اللبنانيين أو العرب وحدهم، فكتبت القصة بطريقة كونية.

وعندما تسأل إلى أي مدى أثرت الحرب في خلفيتي الفنية، أعتقد أن العكس هو ما وقع، فمن خلال اشتغالي الطويل بأميركا استطعت فهم كيف يمكن استعمال التقنية في حكي القصة وليس العكس، لكن لا يجب أن ننسى أن بيروت بحد ذاتها تمتلك الكثير من الديناميكية، ولبنان بلد حامٍ بالمشاعر والخلافات، وهذا كله يوفر لك كنزا من الأفكار.

  • في فيلمك “بيروت الغربية” استعملت عدة مرات لقطات أرشيفية حقيقية للحرب في لبنان، ما الأسباب الفنية لهذا الاختيار؟

هي نوع من التقنية أستعملها مثلما يستعملها “أوليفر ستون” (مخرج أمريكي صاحب فيلم “الوجه ذو الندبة” Scarface) الذي يخلط بين اللقطات الأرشيفية والمشاهد المصورة، أنا أُحب هذا الأسلوب لأنه يعطي نوعا من العفوية للقصة، ومن الجميل أن تخلط بينهما.

 

  • تعرّض فيلمك “الصدمة” لموجة انتقاد ومنع في العالم العربي بتهمة التطبيع مع اسرائيل، هل كنت تعلم قبل تصوير الفيلم أنه سيخلق كل هذا الجدل؟

لا يوجد أي مخرج أو أي مبدع يعلم أنه سيُتهم بالتطبيع في حال قيامه بعمل مرتبط بإسرائيل، هذه كانت طبعا من الحماقات التي أُخذت عليّ، كل الأفكار الفاشستية تتهمك بالأشياء التي تناسب أصحابها.

الكثير من الأشخاص -خاصة اليسار اللبناني- اتهموني بالتطبيع، فبالنسبة إليهم أنا مُطبّع بسبب هستيريتهم، خصوصا من طرف النخبة المثقفة الفلسطينية، وأقول هذا بكل صراحة، هنالك نوع من الهستيريا المولدة بسبب التعصب والغيرة، أنا لا أرى أيّ شخص يتهم الفلسطيني بالتطبيع عند اشتغاله في أعمال إسرائيلية، وأنا لا أقول إنه يجب أن يُتهموا بالتطبيع، ولكن لماذا يُطلب من اللبناني أن يقاوم للقضية الفلسطينية أكثر من الفلسطينيين، وأريد أن أسأل من قاطعوا الفيلم: هل نجحت مقاطعتكم لفيلمي في خدمة فلسطين؟

  • هل تعتقد بأن على السينما في العالم العربي أن تكون سينما كفاح ومقاومة؟

لا أعتقد ذلك مطلقا، السينما يجب أن تكون للسينما، لأن لك أفكار تريد معالجتها ومشاركتها مع الجمهور، سواء أكان جمهورا عربيا أو غربيا.

بالفعل يمكن استعمال السينما كأداة كفاح في بعض الأحيان، لكنني لستُ من مُحبذي الكفاح والمقاومة، عندك موقف يجب أن تتكلم عنه، أنا لا أقوم بثورة ولا أقول إنني أقاوم وأكافح، هناك أشخاص يريدون أن يكافحوا بالسينما، وهذا من حقهم، لكن أنا لا أريد ذلك.

لقطة من فيلم “الصدمة” للمخرج زياد دويري، حيث يريد الممثل الفلسطيني علي سليمان إثبات براءة زوجته

 

  • عودة مرة أخرى إلى فيلمك “الصدمة” (The Attack) المقتبس من رواية للكاتب ياسمينة خضرا، فقد تعرّض الفيلم للمنع في لبنان بسبب تصوير بعض لقطاته في إسرائيل، هل تعتقد أن هذه القرارات تخدم القضية الفلسطينية؟

أخذ لقطات بإسرائيل لا يخدم القضية الفلسطينية ولا ينقص منها كذلك، أعتقد أن أي منع لأي فيلم لا ولن يخدم القضية الفلسطينية، لقد تعرض الفيلم للمنع في فلسطين بالرغم من أن الممثل الفلسطيني -وهو بطل الفيلم كامل الباشا- كان أول فلسطيني في التاريخ يفوز بجائزة رفيعة، وهي جائزة أفضل ممثل عن مهرجان البندقية.

أنا لا أفهم كيف يمكن لمنع الفيلم ومنع ظهور كامل الباشا الذي كان سجينا في سجون إسرائيل، كيف يمكن لهذا المنع أن يخدم القضية؟ شخصيا أعتقد أن هذا يضرها.

  • إن حاولنا القيام بمقارنة بين ماضي السينما العربية وحاضرها، فإننا قد نلاحظ أن هناك ارتدادا وتراجعا على مستوى الحريات والشراسة في الرقابة. بنظرك لماذا تخشى الحكومات العربية الفن والسينما وتسعى لخنقها؟

العالم العربي للأسف لا يتحرك بالطريقة المناسبة، هناك استثناءات، لكن نحن نرى أن الحرية في التعبير الشخصي سواء في الصحافة أو الأدب أو السينما لم تهدِّد أبدا استقرار دولة ما، نحن نعيش فترة مظلمة في تاريخ الحريات في الشرق الأوسط للأسف، بعد انتهاء الربيع العربي صرنا الآن بالخريف العربي، لأنك تحس بأن القطار يهرب علينا مرة أخرى، وهذا من الأسباب التي جعلتني أرحل للعالم الغربي مرة أخرى.

 

  • في فيلمك “القضية رقم 23” ركزت على مذبحة الدامور، وتم اتهامك بأنك منحاز للمسيحيين على حساب الفلسطينيين الذين صورتهم كإرهابيين، ما تعليقك على ذلك، هل فعلا تحاول إرسال رسالة سياسية عبر هذا الفيلم؟

هذا شيء طبيعي بسبب الهستيريا التي تصيب البعض، السؤال الذي يُفترض لمن اتهموني بهذا الانحياز أن يطرحوه على أنفسهم هو: هل ارتكب الفلسطينيون ما جرى في الدامور أم لا، وليس هل أنا منحاز في فيلمي أم لا؟

طبعا عندما تتكلم عن المجزرة التي ارتكبها المسيحيون في صبرا وشاتيلا فلا أحد يشكك في انحيازك، لم يستطع أي أحد أن يتهمني بالكذب في نقلي لأحداث مذبحة الدامور، وذلك لأن الأبحاث التي قمت بها كانت دقيقة، حتى إنني لم أستعمل نسبة كبيرة من الصور التي كنت امتلك بسبب وجود شك في مصداقيتها، واستعملت فقط تلك التي كنت واثقا من صحتها.

أعتقد أنه من الضروري علينا مراجعة ذواتنا، لأنه لا يمكن إنكار التاريخ الموثّق، ولا أحد يمتلك تاريخا نقيا. أنا لم أحاول إيصال رسالة سياسية عبر هذا الفيلم، بل حاولت أن أنقل قصة درامية لإنسان مسيحي وإنسان فلسطيني وقعا ضحية للمجتمع.

 

  • تصف فيروز الشعب اللبناني بأنه شعب عنيد ينجح في استخراج الأمل من المأساة، والدليل هو أن أشهر الأفلام اللبنانية مبنية على مآسي لبنان، مثل “بيروت الغربية” و”كفر ناحوم” و”طيف المدينة” وغيرهم، ماهي رسالتك إذن للمبدعين اللبنانيين في ظل الصعوبات التي يعيشها المجتمع اللبناني حاليا؟

أعتقد بأن المجتمع اللبناني يمر الآن في مرحلة من أصعب المراحل في تاريخه، لأن تسلسل الاضطرابات أصبح فظيعا، ولا أعرف شعبا تعذّب بقدر ما تعذّب الشعب اللبناني، ابتداء من الفساد السياسي، إلى انفجار مرفأ بيروت، وكأن آخر همّ للسياسيين هو ما يحدث حاليا.

أعتقد أن المواطن اللبناني بدأ يفقد روح الحب وروح التفاؤل، لكن بالرغم من ذلك فجينات اللبناني تحتوي على حُب الحياة، سيعود اللبنانيون لسابق عهدهم بالرغم من أن ذلك يتطلب وقتا طويلا جدا، لأن اللبناني فقد إيمانه بالكثير من الأشياء. أما رسالتي للمبدعين فهي أن يكملوا مشوارهم.

  • بيروت بهندستها غير المتسقة حسب وصفك سابقا، فإنها تُشكل مكانا ممتازا للتصوير والإبداع، فهل تفكر في التصوير مرة أخرى في بيروت؟

عاجلا أم آجلا سأعود إلى لبنان، لكن ليس بالوقت الحالي، لأن علاقتي مع الدولة ليست جيدة في الوقت الحاضر، ولا أريد أن أُحتجز بالمطار مرة ثانية.

لبنان الآن هو أسير لأفكار عاطلة، ولم يمضِ علي الوقت حتى أعود، سأنتظر في الغرب، وأتمم أشغالي، وفي داخلي يقين بأني سأعود يوما إلى بلدي.


إعلان