النجم التونسي ظافر العابدين للوثائقية: “رحلة كفاحي بدأت من غسل الأطباق في إنجلترا”
حاورته: د. أمــل الجمل
لم تأت من فراغ هذه الجائزة التي تُوج بها فيلمه من الاتحاد الدولي لنقاد السينما كأفضل فيلم بالمسابقة الدولية بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الثالث والأربعين (26 نوفمبر/تشرين الثاني وحتى الخامس من ديسمبر/كانون الأول 2021) ، لقد كانت وراءها رحلة إنسانية طويلة من الكفاح والألم والمحاولة المعجونة بالإصرار.
ورغم أن فيلمه “غدوة” (أي غدا) هو أول تجربة إخراجية للنجم التونسي ظافر العابدين، جمع فيها بين التمثيل والإنتاج وكتابة السيناريو، فإنه أثبت موهبته في هذا المجال. كذلك قدّم نفسه بالفيلم كممثل غير ذلك الذي نعرفه، وكأنه يُعيد اكتشاف نفسه بعالم فنون الأداء رغم كل الأدوار السابقة التي حققت له نجومية شاسعة، لدرجة أن كثيرين تساءلوا أين كان يخبئ كل هذا؟
الجزيرة الوثائقية التقت بظافر العابدين، وكان لها معه الحوار التالي:
-
كانت كرة القدم هي الحلم الأول والأكبر لك منذ الثانية عشر وحتى سن الخامسة والعشرين، فما الذي أحدث التحول في حياتك؟
كنت ألعب مع الترجي التونسي، في البداية أبعدتني الإصابة عن الملاعب، ولاحقا كنت أرغب في اللعب مع فريق آخر، لكن بسبب التعقيدات الإدراية كان الحل أن أبتعد عامين حتى ينتهي العقد.
وخلال هذين العامين شعرت أن جزءا مني قد راح إذ أصبحت بعيدا بروحي أيضا عن عشقي للكرة، ثم جاءتني فرصة العمل كعارض أزياء بالصدفة، إذ عرض عليّ صديق يعمل في المجال وقبلت، لكنني لم أجد نفسي بهذا المجال، فلم أكن أمتلك فرصة لتقديم إضافة أو عمق خلال عملي بالأزياء، لم تكن هناك فرصة للبحث أو التحدي الفكري، فقط الاعتماد على الشكل والهيئة الجسدية.
-
وكيف وقع التحول المفاجئ لعالم التمثيل؟
صحيح أن التمثيل لم يكن حلمي، لكن عالم السينما لم يكن غريبا عليَّ، فقد كان للأسرة محل لتأجير شرائط الفيديو، فكنت أقضي وقتي بين لعب كرة القدم ومشاهدة الأفلام، لذلك أثناء العمل كعارض جاءتني فكرة التمثيل، كانت بوصلتي آنذاك مرتبكة، لم أكن أعرف من أين أو كيف أبدأ، تحدثت مع آخرين بعضهم نصحني بالعمل في مجال الإخراج، لأنمي من خلال التعامل مع الممثلين سأكتسب الخبرة، فبدأت كمساعد مخرج ثالث مع أفلام تونسية، ثم شاركت كمساعد بفيلم إيطالي عام 1998، ثم في إعلان بريطاني.
-
ومتى جاء قرار الهجرة أو السفر لإنجلترا، ودراسة التمثيل؟
عملي بالإعلان البريطاني بكل الدقة والاحتراف الذي عشته أثناء تلك التجربة جعلني أُفكر جديا بالسفر إلى إنجلترا لدراسة فن التمثيل هناك عام 1999، فبدأت رحلة كفاح جديدة من الصفر، سافرت إلى بلد لا أُجيد لغته، وكنت لا أملك أموالا كافية، فبدأت العمل في غسيل الأطباق بأحد المطاعم صباحا، ونادلا لتقديم الطلبات مساء، وما بينهما وقت لدراسة اللغة الإنجليزية.
كنتُ أُحاول تجميع مبلغ لدراسة التمثيل، مما اضطرني للإقامة في نُزل مع خمسة أشخاص بغرفة واحدة، في أحيان أخرى لم يكن معي أموال لدفع مصاريف هذا النُزل، فصرت هائما على وجهي في الشوارع بحثا عن ملجأ، ومرات أخرى لم يكن معي المبلغ لاستكمال الفصل الأخير بدراسة التمثيل، لكني صمدت، تحملت المشوار بكل صعوباته، لذلك حين جاءتني الفرصة للمشاركة في المسلسل البريطاني “فريق الأحلام” على موسمين أثناء دراستي للتمثيل بمعهد برمنغهام؛ كنت مستعدا لاستقبال الفرصة وإثبات نفسي، ثم لاحقا لعبت دورا بمسلسل “ترانسبورتر” (Transporter).
-
الصدفة جعلت الدور الذي رشحت له بمسلسل “فريق الأحلام” هو لاعب كرة، كذلك التقيت بزوجتك جوانا، إذ كانت تشارك في بطولة المسلسل نفسه، أليس كذلك؟
رغم أننا كنا نشارك في المسلسل نفسه، فإننا لم نلتق أثناء التصوير، التقيت بزوجتي بعد المسلسل بنحو ستة أشهر في لقاء تلفزيوني بالصدفة، فتعرفنا وربطت بيننا الصداقة، ثم قررنا الارتباط والزواج.
-
بيانات فيلم “شفرة دافنشي” بطولة النجم “توم هانكس” يحمل اسمك كأحد المشاركين بالفيلم على قاعدة بياناته، لكنك لا تظهر في أي مشهد، كيف يحدث هذا؟
شاركت بالفعل في تمثيل أربعة مشاهد، إذ لعبت دور محقق فرنسي، لكن بعد عام ونصف من انتهاء التصوير، وتحديدا وقت العرض الأول للفيلم؛ اكتشفت أن مشاهدي حذفت بالمونتاج.
-
الصورة النمطية الشائعة أن كل ممثل بداخله حلم الإخراج، وكل مخرج يحلم أن يصبح ممثلا، لكن أنت فاجأت الجميع، وخلقت تساؤلات كثيرة في قلوبنا، فبكل أهمية أدوارك ورغم تميزها، لكنننا اكتشفنا في “غدوة” فنانا عملاقا، إن لم يكن “غولا” في عالم التمثيل بهذا الفيلم، كأنك كنت تشعر بأنه لا عمل مما قدمت كشف عن مواهبك المدفونة وقدراتك الحقيقية، فهل هذا كان الدافع وراء صناعة الفيلم، أو ربما جزء خفي من رغبتك في الإخراج؟
دوري بمسلسل “فيرتيجو” (Vertigo) مثلا من أجمل الأدوار التي عملتها. ضياء شاب لا يسمع، يتحدث بالإشارات، عنده ثأثأة أو تلعثم في الكلام، بالنسبة لي شخصية ضياء كنت أحبها جدا، رغم أنه دور مختلف عني تماما، فهو من منطقة شعبية ونجار.
المشكلة أن الناس أيضاً تُحب أن تضعك في مكان وتقوم بتصنيفك، لكنني في النهاية عملت في التشويق والحركة وضابطا إرهابيا هو محمد عطا في مسلسل أمريكي، قدمت الرومانسي كذلك، وهي بطبيعة الحال تأخذ صيتا أكبر، لكن بالنهاية أنا أيضا أحب تقديم أشياء مختلفة.
-
إذن، كان عندك الشعور بأنك تمتلك قدرات تمثيلية كامنة لم تجد الفرصة للتعبير عنها. وكأن هناك غواية تحتاج أن تعبر عنها؟
أكيد كان عندي، كنت أعرف هذا، لكن المشكلة أحيانا هي أن الجمهور يحب أن يضعك في خانة محددة كما ذكرت، فتظل تأتيني أدوار للأعمال الرومانسية، وطبعا أقبل، لكن في النهاية ليس هذا ما يشغلني أو يهمني في المقام الأول، هذا ليس هو الشغف الذي يستحوذ عليَّ، ليس هذا ما يجعلني أستيقظ صباحا لأشتغل على الموضوع.
المشكلة أحيانا أن النص الذي تحلم به لا يأتيك، فأنا أيضا أريد أن أعمل شيئا لي، ولتاريخي المهني. أحب التمثيل ليس بسبب الفلوس، أستيقظ صباحاً وعندي شعور وحب لأن أمارس هذه المهنة، فلا بد أن أعمل أشياء مختلفة، لذلك أسأل نفسي “هتروح فين؟”.
-
ومتى راودك حلم الإخراج؟
حلم الإخراج بدأ -بدون وعي ربما- منذ كنت مساعد مخرج ثالث لمدة سنة ونصف مع الأستاذ ناصف ضيف في تونس، كان الانخراط في هذا العالم في البداية من أجل تعلم فن التمثيل من خلال الاحتكاك بالممثلين، ثم لاحقا ظهر حلم الإخراج، فقمت بكتابة سكريبت (نص) عام 2011 بموضوع مختلف، لكنه لم يتم لأسباب مختلفة، أما الآن فسأعود إليه، وإن شاء الله المرحلة القادمة سأقوم بتنفيذه.
-
فيما يخص “غدوة” كيف ومتى ولدت فكرة الفيلم؟
أخي الكبير كان عنده سرطان، علاقتنا قوية جدا، طول عمره يشتغل جدا، هو إنسان مُصلح جدا، يحب الناس. كل الأشياء والصفات التي نتمناها في إنسان سنجدها عنده، كان يدفع التأمينات، لكنه حين احتاج دواء خاصا أخبروه أنه لا بد أن ينتظر. وقتها شعرت أن هناك مشكلة في النظام، وأنه نتيجة ذلك لن يتحصل على الدواء، فتصرفنا واشتريناه من الخارج.
الموضوع بتونس استغرق عاما كاملا، أعطوه دفعتين فقط خلال شهرين على مدار 12 شهرا، أما القضية فوصلت المحكمة الإدارية لأن هذا الدواء كان حقه لكنه لم يحصل عليه، وإن لم نُحضر الدواء من الخارج لكان قد ذهب فيها.
هنا فكّرت قائلا نحن مقتدرون، فماذا عن الناس الأخرى؟ مَنْ ليس لديهم مقدرة على شرائه من الخارج، كيف يتصرفون وماذا يفعلون؟
بدأت أفكر في الناس التي تعمل وتُخلص للبلد، درست الموضوع، كان لا بد أن يكون مناسبا للمجتمع، طورت الشخصيات من شيء آخر ليس له علاقة بقصة أخي، لكن الفكرة بدأت من هنا، كنت مهتما أكثر بإنسانية العلاقة بين الأب والابن في إطار اجتماعي يفرض عليه الواقع الاقتصادي والسياسي، لأنني لو ذهبت مباشرة إلى الموضوع فلن يكون هناك مجال للدراما، يجب أن يكون الموضوع إنسانيا.
-
لماذا يوم ونصف فقط هو الزمن الدرامي للأحداث، هل هو التحدي لأنه الأصعب درامياً؟
كنت أريد أن يدور الموضوع في يوم ونصف لأن الأحداث الكبيرة نعرفها، بينما يوم ونصف في حياة إنسان هنا تُصبح كل حركة صغيرة قابلة للتحول إلى دراما كبيرة، لذلك كان اهتمامي بالتفاصيل الصغيرة، أن يفتح الحنفية، صوت التلفزيون، أو مشاهدته أجزاء من نشرات الأخبار، والأشياء التي قد لا يفكر فيها الناس. قد يبدو يومك عاديا، لكن ماذا فعلت خلاله؟
تنسى الناس أحيانا أن هناك تاريخا محمولا بين التفاصيل، فهناك 12 أو 13 سنة مرت على الثورة، عائلته تفتتت والناس من حوله كذلك، تقول له زوجته “نحن الضحايا..” لديها حق، ابنه أيضا، المجتمع، رغم أنه (سي حبيب البطل) إنسان من أفضل الناس الذي يمكن أن تقابلهم لحد الآن، وهو الذي يرى أكثر ولديه إصرار.
التفاصيل بالفيلم مغروسة بطريقة فنية وتلقائية، فمثلا لا نعرف تماما ماذا حدث لحبيب في المعتقل أو داخل الزنزانة في سنوات السجن، لكن التفاصيل تشي بأن شيئا قاسيا جدا حدث له، شيء تركته لخيال المشاهد، فابنه يُغطيه وهو نائم في سكينة مثل طفل، لكن لحظة غلق الباب هي التي تُوقظه كأنها تُذكره بغلق باب الزنزانة عليه.
وأيضا لأنه غير قادر على أن يخرج من هذه الأزمة رغم أنه أكثر شخصية إيجابية بالفيلم، لأنه يحاول طوال الوقت، فالناس كلها حسبت أن الموضوع انتهى، بينما هو لا يزال يرى بأنه لم ينته، ولا يزال يؤمن بالغد.
-
هل كان من الضروري غرس المرض العقلي ضمن مفاتيح شخصية سي الحبيب؟
لأن هذا الاضطراب العقلي والشعور أحيانا بالبارانويا (جنون الارتياب) الذي يحدث له هو بسب التعذيب الذي تعرض له خلال سنوات السجن. كلنا قد نمر بذلك، لكن أحيانا يحدث لشخص عندما يتعرض لصدمة قوية.
أنا درست هذه التفاصيل، ذهبت إلى المستشفيات، لأن الناس تشك في أي حاجة، حبيب يتعذب من هذا المرض نتيجة الجرح الذي بداخله، فحياته كلها انقلبت رأسا على عقب، وهو يعيش في كابوس، وهذه الأزمة تذهب وترجع له، فهذا ما حدث.
نتيجة أنني أتحدث دراميا في يوم ونصف، فلن أعرضها في شهر، لذلك سترى أشياء، ولن تتخيل أنه مريض في كثير من الأحيان. أنا لما زرت المستشفيات وتحدثت مع المرضى كنت أجدهم يتحدثون بشكل عادي، ويبدون طبيعيين، وتصدقهم، لكن أحيانا يحدثونك بأشياء تجعلك تتساءل: كيف يحدث هذا؟
لكن لما ترجع مرة ثانية تفهم أكثر قليلا. لذلك تصرف حبيب ليس غريبا، إنه واقعي، بالنسبة لي كان مهما جدا أن توجد التفاصيل بشكل صحيح، وأن أبتعد عن الكليشهات، إن حبيب يبدو أحيانا بداخل الموضوع وأحيانا خارجه.. حياته صارت مرتبكة، غير قادر على أن يُسيطر عليها. مقتنع أنه بخير، لكنه بخير أحيانا، وفي أحيان أخرى ليس كذلك.. إنها دوامة.
-
الموسيقى في الفيلم لا تظهر إلا قليلا، وفي أحيان كثيرة تختفي. فكيف كان اختيارك للموسيقى والمؤثرات الصوتية؟
تظهر الموسيقى بعد عشرين دقيقة من بداية الفيلم، بالنسبة لي كنت أحدد من البداية أنني لن أستخدم إمكانيات كثيرة في التصوير والكاميرات، لأنني لا أحتاج إليها أو إلى الإبهار، فقط استخدمت “هاند كام”، لم أستخدم “دوللي” أو غيرها.
منذ البداية كان اختياري أن أكون قريبا جدا من رأسه ووجهه، لأن الموضوع ليس عمارات أو مباني، عندي لقطة واسعة للبناية فقط، حين تتراجع الـ”درون” في لقطة عامة.
-
هل هذا ما جعلنا قريبين جدا من أعماق الشخصيات، والتفاعل معها نفسيا؟
هذا كنت ما أريده، فالإضاءة كانت طبيعية، كذلك الموسيقى وشريط الصوت، كنت أريد توظيف الموسيقى فقط عند الاحتياج إليها بدقة لأكون أقرب للقصة. فما يهمني هو أن أصدق ما يحدث مع هذه الناس، وأي شيء يساعد على أن أفهمه.
كذلك فضلت عدم القطع كثيرا، لقد اخترت أن أذهب معه بالكاميرا أثناء التصوير، أفهمه من ظهره، من الأمام، من الجانب. هذه كانت الفكرة.د
كذلك الموسيقى نفس الشيء، المفروض أنها تساعدني على أن أدخل في خياله وأحسّ بمشاعره أحياناً، فليس بالضرورة أن تكون الموسيقى حاضرة جدا أو متاحة طوال الوقت، لأنني من الممكن أن أرى اثنين جالسين مع بعض فلا أحتاج موسيقى أو كلاما لكي أشعر بهما، فلغة الجسد تكفي جدا.
بالنسبة لي كان الاختيار يعتمد على أي شيء يقربني من الواقع بطريقة ما.
-
هل طلبت منذ البداية من المؤلف الموسيقي الاعتماد على آلات محددة؟
منذ البداية اخترت التشيلو والبينانو، لأن فيهما تفاعلا وشجنا، البيانو أيضا يمنح الشعور بالإيجابية للأمام، كذلك حين ينزل على السلم أحيانا تظهر رنة البيانو على خطوته، فالموسيقى مصنوعة بدقة.
تُصبح “كريشندو” (أي ازدياد مستوى الصوت تدريجيا) حين يضع يده على الموضوع، حين يكبر الموضوع ويتحول لملحمة بينما العالم من حوله ضائع. الموسيقى تجعلني أحيانا أشعر بشيء معين، ومع الكلام تجعلني الموسيقى أذهب لمنطقة ثانية.
-
كان توظيفك للألوان أيضا فيه براعة.. فحين يتخيل سعدية في مشاهد مروره بلحظات الأزمة تبدو مشرقة بالألوان والماكياج..
حين يكلمه ابنه ويضطرب يهرب لمنطقة سعدية جارته التي يتخيل أنها تزوره فقط كعلاقة إنسانية. وقت الأزمة فقط تزوه تلك الخيالات، لذلك نرى وجه ابنه يتغير، لأنه يُدرك أن الأب على وشك الأزمة وحالته مرضية، وأنه لن يستطيع الذهاب للمدرسة، مع ذلك يقرر أنه لن يتركه وحده، لذلك تحدّث مع والدته ليخبرها بأن والده ليس بخير. فالأب حين يحتاج أن يهرب يلجأ إلى وهم سعدية.
إنها كل الأشياء الجميلة التي يريدها، كل الأشياء التي يحلم بها، هي علاقة ليس أساسها الغرام أو الجنس، لكنها حالة إنسانية صافية بريئة جداً. إنها الشيء الجميل في حياته، الكلام الإنساني.
وقت الأزمة تبدو ألوانها مشرقة تعبيرا عن تأثيرها على الأب، بابتسامتها الجميلة والعيون اللامعة.
-
ما فهمته أيضا من مشاهد الجارة سعدية مع اختلاف ألوانها هو أن الماضي كان مشرقا، بينما الحاضر شاحب باهت. فهل هذا ما كنت تعنيه؟
الفكرة بالنسبة لي مثل تونس بالضبط، فأنت حين تدخل البناية يبدو شكلها جميلا، فيها كثير من التفاصيل، لكنها مريضة. هو محامي ملابسه تبدو جديدة، لكنه مريض، هذا هو حال تونس بالنسبة لي. تونس بلد جميل جداً، له تاريخ ممتد منذ ثلاثة آلاف سنة، عنده ثقافة متعددة عريقة، لكن البلد تعبت، الناس تعبت، الأشياء التي كانت حلوة تعبت.
هذا ما كان يهمني، لو شاهدت صور البيت كانت كلها بيضاء، فبالنسبة لي كان لا بد أن أجعل له شخصية وأغرس فيه روحا، بأن يُصبح عنده تاريخ، فيه حاجات قديمة جدا من خلال التفاصيل، وليس معناها الفلوس، لكنها تشي بأن فيه ثقافة، فيه كتب، فيه روح.
في النهاية نقول إن تونس تحتاج إلى العناية والرعاية والاهتمام، لذلك أيضا فتحت درجة الألوان إلى حد ما لأعطي الإحساس بالبرد العاطفي تعبيرا عن الحالة النفسية.
-
عندما أتأمل علاقتك بالابن في “غدوة” يخطر في بالي والدك، يحضرني شعور بأنك ترد الجميل لوالدك بإحساسه بالمسؤولية تجاهك، وأن علاقتكما كانت قوية، وتأكد ذلك بعد الإهداء.
(يبتسم ظافر سعيدا) صورة أمي ووالدي بالفيلم، كل الصور بالأبيض والأسود بالمنزل، أبي اسمه أحمد، وابني بالفيلم اسمه أحمد.
-
هل كان والدك من المناضلين في تونس؟
لا، عمل والدي في الحرس الوطني التونسي منذ وقت الاستقلال عام 1956 وحتى عام 1987.
كان والدي يُحب تونس جدا، كذلك عمل اثنان من أعمامي في الحرس الوطني طيلة حياتهم، كانوا يحبون البلد جدا، لكنهم لم يدخلوا في السياسة.
بالنسبة لي هي فكرة الأجيال وتمرير الرسالة والمستقبل، لذك نهاية الفيلم بالنسبة لي مهمة جدا، لأنه في الظرف الصعب لا بد لآخر أن يأخذ الدور، هذا مهم، فالمستقبل قائم على اختيارات الحاضر، وهذه مهمة حبيب في “غدوة”، مع كل الصعوبات وكل الأشياء المقلوبة في حياته نراه إيجابيا رغم أنه يحتاج لشغل كثير، ومعه أيضا “ناس حلوة”، وهذا أهم شيء.
-
حين جمعت بين الإخراج والسيناريو والتمثيل والإنتاج، ألم تشعر بعبء التجربة عليك، وهل ساورك القلق؟
لم أفكر أبدا في أي شيء من هذا إلى يوم العرض. غالبا بسبب طبيعتي الشخصية، دائما أحب المحاولة والتجربة ولا أنظر للصعاب، مثلا لو كنت بقيت في تونس، لو لم أغامر، لو لم أسافر، لو لم أتعلم اللغة.
الأمر ذاته في المسلسلات وأعمالي الأخرى، تعودت أن أعمل أقصى شيء يمكن أن أقوم به، من الممكن أن أقلب الجملة الواحدة مليون مرة وأرجع للمخرج، لكن في النهاية أبذل قصارى جهدي، لذلك لم يكن هناك قلق من ردة الفعل، لأنني بالفعل عملت كل ما كان عليَّ فعله.
-
هل كنت ترسم ديكوباج قبل دخول التصوير؟
هناك مشاهد مكتوبة بالفعل، وهناك مشاهد أخرى دخلتُ الموقع وأنا أراها وأتخيلها. في الديكور كما في بيت القاضي “المحكمة”، في الشارع، عند سكة القطار، في الشرفة وقصاري الزرع كما كتبتها، هناك أشياء كانت في رأسي منذ بداية الكتابة، لكن هل أعرف ماذا سأصور وأين؟
أتعامل أيضا بما يُستجدّ من حركة داخل المشهد، وأتابع الشخصية، فأثناء البروفة ومتابعة الشخصية أكثر، وقتها قد يفرض المكان والظرف عليَّ الحاجة بكيفية وقوعها، فأنا أحيانا لا أستبق الأحداث برسم الديكوباج لأنني أشعر بأنني سأقتل المشهد، كما أنني لا أصور بطريقة لقطة واسعة ثم اثنتين أضيق ولقطة وسط وفقط، أنا لا أقوم بهذا الترتيب أبدا.
أنا أذهب مع البطل بالتتابع، أحيانا أحاول أن أمرّ من الباب مع الولد الصغير، فعلت ذلك في مشهد مدته ثلاث دقائق ونصف، فهذا لا بد أن يكون فيه استمرارية نفسية. أتساءل أحيانا في الموقع: هل أقدر أن ألفّ في المكان بكاميرا “إستيدي كام” وأقدر في الوقت ذاته أن أمر من الباب بدون أن أعيد اللقطة أم لا؟
كل هذه الأمور لا بد من تجريبها أثناء التصوير. في النهاية كان هنالك أشياء لا بد من قطعها لأنني لم أكن أقدر على المرور من الأماكن، لأنها لم تكن تصلح.
-
كيف كسرت الحجاز النفسي بينك وبين الصبي أحمد برهوما الذي جسد دور ابنك بالفيلم؟
بالنسبة لي إلى جانب التمثيل، كان هناك أمر مهم، وهو أن يكون تفكير الصبي مناسبا، أن أعرف كيف تفكر عقليته، وكيف يتعامل مع الناس، ومدى تقبله للأشياء؟
صارت بيننا علاقة طيبة جدا، بالتالي صار هناك ثقة وصِدق بيننا، أما التمثيل فيأتي لاحقا.
رغم أن وجهه شفاف وحساس كأنه مرآة، لكن كان لا بد أن أعمل معه، لأنه في “غدوة” سيقوم بدور البطولة لأول مرة، كان قد مثَّل بفيلمين، منهم فيلم منذ حوالي 8 سنين، أي كان عمره سبع أو ثماني سنوات، تجاربه في التمثيل كانت محدودة، فكان لا بد من العمل معه. لا أقول إنه لا يحسن التمثيل، لكنه كان طازجا مثل ورقة بيضاء، ومع ذلك إن لم نبنِ الثقة لم نكن لنستطيع العمل معا، فالثقة تجعله يصدقك.
هنا مهما أعدنا تصوير اللقطة الواحدة عمرك ما تشعر أنه كان متضايق أو يشعر بنقص، كان دائما يتلقى الأمر بشكل عادي جدا، لأنه مطمئن بأنك معه لا وجود للأحكام ولا للتوتر، لا تستطيع أن تحقق ذلك في غياب الثقة.
كل الممثلين هم هكذا بالمناسبة، أنا كممثل أشعر أن هذا مهم جدا، فحين تشعر بالأمان لمن معك تعطي أقصى ما تقدر عليه، لأنه عندما تشعر بالأمان بأن من معك يقف في ظهرك ويساندك ويُريد مصلحتك بدون حسابات؛ كل هذا يفتح بابا في نفسك للعطاء بدون حدود.
-
كيف جاءت فكرة مشاركة سيدة الإنتاج التونسي درة بوشوشة معك بالفيلم؟
حين انتهيت من الكتابة عرضته عليها، كنت قد اشتغلت معها من قبل، وحين عملتُ أول إعلان كانت درة هي المنتجة، فتعرفت عليها وصرنا أصدقاء، ثم اشتغلت معها في قرطاج. كذلك أنتجت دُرّة فيلما مثلت أنا فيه، فأصبحت عندنا علاقة صداقة قوية منذ سنين، عملت ورشات عمل كتابة معها، وكذلك إخراج، منها ورشات في الأردن.
وحين انتهيت من الكتابة قلت لها “عندي نص أحب أن تقرأيه”، أرسلته لها، وبعد نصف ساعة اتصلت بها أسألها “خلصتي قراءة؟”، فضحكت وقالت “خلاص بكرا نتكلم”. وافقتُ أنا واتفقنا على إكمال مناقشته حين أعود إلى تونس.
بعد أربعة أيام جاءني خبر من تونس أن أمي وأخوتي أصابتهم كورونا، فاضطررت للعودة والبقاء في تونس، كانت ماما في البيت، وكنت أذهب للمكتب لأنجز بعض الأشغال، ثم أعود إلى البيت، تعبت أمي جدا ودخلت العناية المركزة، فأصبحت أزورها مرة صباحا ومرة مساء لمدة 12 يوم، بعد ذلك توفيت أمي وأوقفت التحضير للفيلم، لقد كانت فترة صعبة جدا، فالظروف والوضع كان مرتبكا، بقيت أسبوعين هكذا، ثم سافرت إلى لندن لزيارة عائلتي هناك زوجتي وابنتي ياسمين، وبعدها رجعت وقررت بدء التصوير وإهداء العمل لأمي وأبي.
انتهيت من التحضير في ثلاثة أسابيع، ودخلت التصوير فورا.
-
ما هي أحلامك وطموحك الآن؟
أحب أن أكمل في التمثيل جدا، فأنا أتمنى أن أعمل أفلاما تاريخية، وأفلام حركة مختلفة، أحلم بعمل أفلام عربية تسافر للمشاهد الغربي، أن نكسر هذا الجدار التي يجعل أفلامنا قابعة في مكانها.