كاتب النص العربي لفيلم “الحمراء وابن الخطيب”: “كان التحدي إعادة النص إلى مهد الحكاية الأولى”
عرضت الجزيرة الوثائقية قبل أيام الفيلم الوثائقي “الحمراء وابن الخطيب” لأول مرة في قاعات السينما في العالم العربي، وقد لاقى الفيلم نجاحا كبيرا في قاعات العرض الإسبانية، ويحكي تاريخ مملكة غرناطة وفق الرواية العربية، إذ تدور أحداثه خلال فترة الوزير لسان الدين بن الخطيب، وتتناول قصة بناء قصر الحمراء في فترة السلطان أبي الحجاج يوسف الأول.
ورغم تسليط الأضواء على مخرجة الفيلم الإسبانية “إيزابيل فرنانديز” والممثل المصري عمرو واكد لدورهما الكبير في إنجاح الفيلم، فإن سر تفوق العمل في نسخته العربية يرجع أيضا للمنتج والكاتب المصري أحمد شلبي بطين الذي كتب النص العربي لراوي الفيلم.
على هامش العرض الأول للفيلم في المنطقة العربية، التقى موقع الجزيرة الوثائقية مع المنتج المصري الشاب وأجرى معه هذا الحوار.
هل يمكنك أن تعرفنا على نفسك ومسارك المهني في عالم السينما والإنتاج؟
اسمي أحمد شلبي بطين، وأنا كاتب ومنتج ومخرج، وكذلك أعمل في إدارة المشاريع الرقمية القائمة على نشر الأفلام الوثائقية والبرامج الرقمية في شبكة الجزيرة، تخرجت من كلية الإعلام جامعة القاهرة عام 2010، وكنت منتجا لمشروع تخرجي وثائقي “المملكة”، وهو وثائقي فاز بجائزة أفلام الطلبة في هوليوود عام 2011.
بدأت مشواري المهني عام 2009 عندما بدأت بالتعاون مع الجزيرة الوثائقية منتجا تنفيذيا متعاقدا لإنتاج أفلام وثائقية لها، وقد أنتجت وأخرجت وكتبت على مدار 7 سنوات عددا من الأفلام الوثائقية لشبكة الجزيرة، منها ما هو سيرة ذاتية “المسيري.. رحلة من أجل الإنسان” (2009)، ومنها ما هو قائم على التجربة الاجتماعية “لماذا يضحك المصريون؟” (2012)، ومنها ما هو سيرة ذاتية في شكل دراما وثائقية “الجنرال” (2013)، ومنها ما هو قائم على الرسوم المتحركة “خمسون توقيعا” (2014)، وكذلك فيلم رحلات ورصد اجتماعي “ولاد الحلال” (2015)، وفيلم سياسي اجتماعي “صناعة الانتخابات” (2011)، وغيرها من الأفلام.
كما أنني كنت مؤسسا ومنتجا فنيا في شركة وقناة قبيلة الرقمية التي انطلقت في مصر عام 2011، وقد أنتجت وأخرجت خلالها عددا من الأفلام والبرامج، وكذلك شاركت في تأسيس قناة AJ+ عربي الرقمية التابعة لشبكة الجزيرة، وكنت من الفريق الذي أسس إنتاجاتها، وأيضا كنت مؤسسا ومديرا لقناة أنا العربي الرقمية التابعة لشبكة التلفزيون العربي، وقد أشرفت من خلالها على إنتاج عدد من الوثائقيات المُنتجة خصيصا للمنصات الرقمية.
ما هو الدور الذي قمت به في فيلم “الحمراء وابن الخطيب”؟
قمت بتحرير نص التعليق العربي للفيلم، عبر إعادة صياغة للعربية من السيناريو والنص الإسباني الأصلي الذي كتبته مخرجة الفيلم “إيزابيل فيرناندز”. في هذا النص يسرد بطل الفيلم ابن الخطيب (الممثل عمرو واكد) سيرته الذاتية وانطباعاته النفسية تجاه أحداث زمانه بشكل درامي.
هل يمكنك أن تقدم لنا تفاصيل أعمق حول هذا العمل والجهد الذي تطلبته كتابة النص العربي لهذا العمل الضخم؟
في البدء تواصل معي المنتج محمد رفعت من إدارة الإنتاج بقناة الجزيرة الوثائقية، وأخبرني عن المشروع وضخامته، وعن أنه العمل الأول من نوعه الذي يوثق الحمراء بهذا الشكل، وكذلك سيرة ابن الخطيب، وأيضا أنه الفيلم الوحيد الذي يُصور بالكامل داخل قصر الحمراء للمرة الأولى في التاريخ.
عندما شاهدت النسخة الأولية للفيلم أصابني الانبهار، فالفيلم تحفة فنية متكاملة، صُور في ظل تحديات إنتاجية كبيرة، في مكان يبلغ تعداد زواره سنويا نحو 3 ملايين شخص، وكان شاهدا على عصور متباينة، سواء في عهد مملكة غرناطة العربية أو الإمبراطورية الإسبانية.
كان التحدي كبيرا، أن أشارك في إخراج النسخة العربية للفيلم الذي شاركت في إنتاجه كبريات الشبكات التلفزيونية في أوروبا والعالم العربي، واستغرق العمل عليه نحو 7 سنوات، وكان الهاجس لدي هو: هل أنجح في إخراج نص يليق بحجم الفيلم تحريريا وفنيا؟ وكيف أحافظ على السرد الذي بنته “إيزابيل”، وفي الوقت نفسه يخرج بشكل أصلي؟
لا سيما أننا نتحدث عن فيلم يبلغ طوله نحو ساعتين، تتداخل فيه أصوات السرد الذاتي مع تعليقات الخبراء المشاركين مع أصوات الممثلين.
استغرق تحرير وصياغة النص العربي نحو شهر ونصف، وقد أعيدت صياغته وروجع ودُقّق بحثيا عدة مرات، وكان هذا بالتعاون مع فريق إدارة الإنتاج في الوثائقية ومخرجة العمل.
معظم أعمالك السابقة كانت مرتبطة بالوثائقيات التي تدور حول أعمال راهنة أو تاريخ معاصر، كيف كان التحدي أمامك للعمل في وثائقي عن العصر القديم، وما الجهد الذي تطلبه منك البحث الأكاديمي حول الموضوع؟
الأمر يتساوى من ناحية الأدوات المستخدمة، ويعتمد بشكل أساسي على مرحلة البحث، ثم اختيار الصوت اللغوي، ليتوافق النص العربي مع السيناريو الأصلي الذي كتابته إيزابيل.
اعتمدت في الصياغة والتحرير من أجل إيصال النسخة النهائية على عدد من مؤلفات معاصري هذه الفترة، مثل مؤلفات ابن الخطيب، وأبرزها “الإحاطة في أخبار غرناطة” و”اللمحة البدرية في الدولة النصرية” و”مقنعة السائل عن المرض الهائل” و”نفاضة الجراب في علالة الاغتراب” و”ديوان ابن الخطيب”، وكذلك “ديوان ابن زمرك”، و”مقدمة ابن خلدون”، و”نفح الطيب” للمقري وغيرهم.
ثم توكأت على مؤلفات أكاديمية لعل أبرزها موسوعة “قصور الحمراء: ديوان العمارة والنقوش العربية” الصادرة عن مكتبة الإسكندرية للباحث محمد عبد المنعم الجمل، وقد أفادتني كثيرا في تحديد ومعرفة نقوش الشعر الأصلية المنقوشة في الحمراء، وأيضا أسماء وتواريخ قصور بني نصر بشكل يضمن سلامة النسخة العربية تحريريا ومعلوماتيا.
كما ساعدني كثيرا الرجوع إلى موسوعة “دولة الإسلام في الأندلس” الضخمة لمحمد عبد الله عنان، وكذلك كتاب “لسان الدين ابن الخطيب” لمؤلفه أحمد حسن بسبح، وغيرهم.
هل كان لك اهتمام بحثي بموضوع الأندلس قبل الاشتغال على الفيلم، أم أنك تعمقت في هذا الموضوع لأول مرك عند العمل على “الحمراء وابن الخطيب”؟
أنا بوجه عام أجد نفسي في قراءة التاريخ، من ضمنه تاريخ كل من الأندلس ومملكة إسبانيا، نظره لثرائه وامتلائه بقصص وملاحم ظمأ المتعطشين للحكايات والقصص في المقام الأول، لكن بالتأكيد عندما بدأت العمل في المشروع استعنت بالكثير من المراجع ضمن خطوات العمل الاحترافية المتبعة في هذا النوع من الأعمال.
ما هي التحديات اللغوية التي واجهتها عند الكتابة العربية للعمل؟
التحدي الأكبر كان في إعادة النص إلى وطن ومهد الحكاية الأولى، اللغة العربية. بما أن المعالجة الفنية للفيلم قائمة على تخيل أن ابن الخطيب يحكي حكايته بلسانه، فقد كان هدفي أن يخرج النص بشكل أصيل، كأنه من كتابة ابن الخطيب نفسه. وأيضا أن يتضمن الصياغة والأسلوب والنفَس التراثي الذي كان يكتب به أهل هذه الفترة، حاولت أن أقنع المشاهد أن هذا النص نص أصلي كتبه ابن الخطيب، وأظن أنني وُفقت فيه إلى حد كبير الحمد لله.
كان ينبغي أيضا أن أنقل السيناريو الذي كتبته “إيزابيل” بشكل أمين، بهواجسه ومغزاه. هي تريد أن تحكي لنا عن المكان (قصر الحمراء) وعن البطل (لسان الدين ابن الخطيب)، وعن العلاقة بينهما مجازاً أو ظاهرا. كلاهما يسعيان للخلود، فكرة الخلود تمثل هاجسا لهما، ومن ورائهما شعب غرناطة، وهو ما حدث، خلدت الحمراء بأبنيتها، وخلد ابن الخطيب بذكره وكتبه وشعره.
كذلك كان هناك تحدٍّ من ناحية الأسلوب الشعري السردي، فابن الخطيب كان شاعرا من الطراز الأول، ومن أبرز شعره موشحته الشهيرة:
جادك الغيث إذا الغيث همى .. يا زمان الوصل بالأندلس
لذا كنت حريصا على إخراج النص بشكل أقرب لروح الشاعر المتأمل والفيلسوف. بعض مقاطع النص نقلتها حرفا من كتابات ابن الخطيب، مثل تلك التي يصف فيها وقائع الاحتفال الشهير بالمولد النبوي، وأخرى كانت صياغتها من عندي مستلهمة من الفضاء اللغوي لهذه الفترة التاريخية، وكذلك من مغزى النص الذي أرادت “إيزابيل” إيصاله إلى المشاهد.
معظم الأفلام التي تتناول التاريخ تكون موجهة تخدم مسارا معينا، هل واجهكم هذا التحدي عند العمل مع الإسبان، وتفاديتم تمرير الرواية الرسمية الإسبانية؟
لدي بعض التحفظ على السؤال..
لا أرى أن هناك مشكلة قائمة أصلا، وباعتبار أن إسبانيا دولة ديمقراطية تحتفي بأعراقها المتنوعة، فإنه لا يوجد شيء اسمه الرواية الرسمية الإسبانية، وفي العموم فإن الوسط السياسي والثقافي والفني الإسباني متصالح جدا مع حقائق التاريخ بحلوها ومرها، ولديه شجاعة سرد الحكاية. ويعتبر أن تاريخ الأندلس هو جزء من تاريخ إسبانيا وشبه الجزيرة الأيبيرية بوجه عام، وأنه ساهم في إثراء طيف المجتمع الإسباني حاليا على اختلاف ألوانه.
في الواقع فإن تاريخ الأندلس كما يمثل جزءا من ذاكرة التاريخ العربي، فإنه يمثل أيضا جزءا أصيلا من ذاكرة التاريخ الإسباني، والإسبان لا يقرّون بذلك فحسب، بل يحتفون به ويعتبرونه عاملا إيجابيا في تكوين الأمة الإسبانية التي تُقر بالاختلاف والتنوع الحضاري، وتحتفي بالعادات والقيم والتقاليد المختلفة المشكّلة لأقاليم إسبانيا.
في الحقيقة أرى أنه أمر سلبي أن نتناول نحن في العالم العربي تاريخ الأندلس من منطلق فكري موجه، أو أن نحاول إخضاع التاريخ لثارات الماضي البعيد، بل يجب أن نتناوله باعتبار مسماه، أنه تاريخ، أي أنها أحداث مضت، ينبغي علينا نحن البشر استخلاص العظات والعبرات الإنسانية الجامعة منها، التي من شأنها أن تجعل من عالمنا مكانا أفضل، تنتصر فيه قيم التسامح وحقوق الإنسان والتكافل والإعلاء من دور العقل والعلوم، وأن لا نبيت ونصبح أسرى لصراعات فكرية وهمية، من شأنها أن تثير العداوات وتشتت محاولات البشر في خلق عالم أفضل.
وهذا ما أكد الفيلم وصناعه عليه، إذ أنه يتناول قصة عقل نيّر (ابن الخطيب)، كما أن الفيلم يتناول معاني وهموما مجردة تهم الإنسان في كل زمان ومكان، منها رغبة البشر في الخلود المعنوي، وهاجسهم الدائم في الخوف من النسيان.
عند عرض الفيلم تباينت الآراء حول العمل، خصوصا بالنسبة لموضوع ابن الخطيب وجامعة القرويين، لأنها لم تُذكر بالشكل الكافي، حتى أن بعض الناس اعتبر أن الفيلم خدم التصورات الغربية حول أنهم أصل العلم، وتجاهل كيف أن تكوين ابن الخطيب تلقاه في المغرب.
لا أرى وجود إشكال على الإطلاق من هذه الناحية، فليس مطلوبا من الفيلم أن يحكي كل شيء، من ناحية تحديد الأماكن التي زارها ابن الخطيب، فهذا مستحيل عمليا في فيلم مدته نحو ساعتين فقط، بل المطلوب أن يقص الفيلم علينا الحكاية التي تخدم مغزى القصة، وأن لا يكون هناك تشتيت للمشاهد عن طريق إغراقه بالكثير من المعلومات. وهذا ما برعت فيه كاتبة العمل ومنتجته ومخرجته “إيزابيل”.
وبالتالي فلا مجال هنا لسرد كل التفاصيل الدقيقة المتعلقة بحياة ابن الخطيب. أما من يزعم أن الفيلم “خدم التصورات الغربية حول أصل العلم”، فأظن أنه لم يشاهد الفيلم أصلا ويرمي الاتهامات جزافا. في الحقيقة هذا اتهام مضحك. الفيلم يتحدث بوضوح عن أن العرب هم من ترجموا علوم القدماء، وأضافوا عليها الكثير وطوروها وأنتجوا علوماً إضافية وأن الأندلس كانت منارة لإنتاج العلوم والفنون وقيم التسامح، كل دقيقة من الفيلم تنبض بهذه الفكرة بشكل واضح.
يزخر العالم الإسلامي بقصص وحكايات تصلح أن تتحول لوثائقيات ضخمة، لكن التمويل يعوق إخراجها للوجود بسبب الميزانية التي تطلبها مثل هذه الأعمال، هل ترى أن هذا العائق سيؤثر على العالم العربي في تقديم روايته للأحداث ومحاربة التدليس الذي يتعرض له؟
أتمنى بالطبع أن يفتح هذا الفيلم الشهية على رصد ميزانيات أكبر للحكايات التراثية في العالم العربي، إذ أنها تمتلئ بكثير من القصص الممتعة، سواء تاريخية كانت أو حتى خيالية، وهي تحمل كثيرا من القيم الإنسانية الجميلة التي تمثل قاسما مشتركا بين شعوب الأرض كلها، ولديها القدرة على تجاوز المحلية إلى العالمية، وأن يستمتع بمشاهدتها الجمهور في أنحاء العالم.
هناك نقطة تتعلق بخصوص ما يسمى “محاربة التدليس”.. أرى أن صانع الأفلام السينمائية يجب أن تكون مهمته الأولى هي التفكير في كيفية سرد قصة ما بشكل جميل وممتع ومؤثر في نفوس البشر، وأن ينتصر من خلال هذا السرد لقيم الحق والجمال والخير، بشكل يرضي ضميره الإنساني. هذا يجب أن يكون تركيزه الأول، لا أن يكرس نفسه لخوض معارك أيدولوجية أو أن يصارع طواحين الهواء في معارك وهمية خاصة فيما يتعلق بالقصص التاريخية فهذا كفيل بتدمير القصة والمغزى معا.
إن أدلجة التاريخ أمر في غاية الخطورة، في تقديري أن صانع الأفلام يجب أن يكون متيقظاً عند التعامل معه، وهذا لا يعني بالطبع تجاهل (الباراديم) أو الحقائق التاريخية التي تشكل منظورنا للتاريخ ونموذجنا المعرفي له، ولكنها تختلف عن الأدلجة، أي أن يخضع لنمط معين من التصورات والأفكار التي تحدد طريقة تصرفه وتناوله للحكايات والقصص وتحبسه داخلها، فلا هو قدم فنا ولا قدم أفكارا من شأنها أن تجعل من العالم مكانا أفضل.