نبيل جدواني.. سينمائي فُتن بتاريخ السينما الجزائرية وأحيا روائعها المفقودة
ما من جرد دقيق للأفلام الجزائرية التي ضاعت في الخارج أو تعرضت للتلف، فمن حين لآخر يعثر صدفة أو من خلال بحث دؤوب على نسخ من روائع السينما الجزائرية.
وكان آخر تلك الاكتشافات نسخة نادرة من فيلم “بوعلام زيد القدام” للمخرج الراحل موسى حداد، وقد عُثر عليه في ألمانيا، ثم عاد إلى الجزائر بعد أكثر من 40 سنة.
كما عُثر صدفة أيضا في “سينماتيك” فرنسا على النسخة الأصلية لفيلم “آرشي شيب في ضيافة التوارق” للمخرج غوثي بن ددوش، وكان قد أُنجز في إطار المهرجان الثقافي الأفريقي عام 1969.
هذه الأفلام وغيرها أُعيد بث الروح فيها، بترميمها وتلوينها ورقمنتها، بعدما سافرت لتمثيل السينما الجزائرية في الخارج، وظلت هناك.
ومع أن هذه المهام هي من اختصاص مراكز ومختبرات متخصصة، وتتحمل مؤسسات الدولة مسؤولياتها الكاملة تجاه هذا الأرشيف القيم، فإن الباحث السينمائي الجزائري نبيل جدواني يتطوع بهذه المهام بنفسه، وينفق عليها من حر ماله في كثير من الأحيان.
فمنذ أكثر من 10 سنوات استطاع جدواني استعادة نسخ نادرة من أفلام وملصقات، ومن صور وسيناريوهات تشكل أرشيفا ومرجعا مهما للسينما الجزائرية.
وفي مبادرة فردية -تحسب له- أقدم على خطوة أكثر احترافية، هي إنشاء محتوى رقمي باسم “الأرشيف الرقمي للسينما الجزائرية”، وهو مشروع لا يكتفي صاحبه باسترجاع النسخ، بل يتولى أيضا حفظها وترميمها ورقمنتها.
ولد نبيل جدواني في مدينة “سانت إتيان” الفرنسية، ودرس السينما بجامعة “لويس لوميير ليون2″، ونال عام 2022 شهادة التأهيل المهني مرممَ صور رقمية من المعهد الوطني العالي للسمعي البصري.
ظهر نبيل ممثلا في عدد من الأفلام، آخرها “ستة أقدام على الأرض” (2024) للمخرج كريم بن صالح، وعمل مع عدد مهم من المخرجين، منهم حسان فرحاني، ورابح عامر زعيمش.
أما في عمله البحثي المستقل، فهو يدرك جيدا أن العمل على الذاكرة والأرشيف يتطلب بحثا كثيرا وجهدا وموارد، لكنه يصر على تطوير مشروعه، لا سيما وهو يحظى اليوم باعتراف وتجاوب كبير من مهنيي قطاع السينما والسمعي البصري والمؤسسات الثقافية بالجزائر.
ينطلق جدواني في مشروعه السينمائي من فكرة أننا يجب أن نعرف الكثير عن تاريخ السينما الجزائرية وأرشيفه، حتى نستطيع إنجاز الأفلام والوثائقيات، فثقافتنا وجذورنا جديران بالحفظ والتقدير.
وهذا نص الحوار الذي جمعنا بمؤسس قناة “الأرشيف الرقمي للسينما الجزائرية” الممثل والمخرج والباحث السينمائي المستقل نبيل جدواني.
كيف بدأ اهتمامك بالأرشيف السينمائي الجزائري، هل السبب شخصي أم أن ضياع جزء كبير منه دفعك إلى هذه الخطوة التي تُوجت بإنشاء قناة “الأرشيف الرقمي للسينما الجزائرية”؟
بدأ اهتمامي بالسينما الجزائرية منذ الصغر، فلطالما فتنت بتاريخ الجزائر، وقدرة السينما على التقاط جوهر الثقافة والتاريخ والشعب.
فخلال دراستي للسينما أدركت أن التراث السينمائي الجزائري الغني والمتنوع في خطر، فكثير من الأفلام أصبحت غير متاحة، إما لأنها لم تحفظ جيدا، أو لأن النسخ المتوفرة كانت سيئة الجودة، أو لأنها كانت عالقة بمشكلات حقوقية أو موزعة في أرشيف بالجزائر والخارج.
وقد أثار هذا الوعي في نفسي حاجة حقيقية وملحة للحفاظ على هذه الذاكرة الجماعية، لكي تستطيع الأجيال القادمة إعادة اكتشاف هذه الأعمال ومشاركتها على نطاق واسع.
إنها خطوة شخصية مدفوعة بحبي لهذه السينما التي تواصل إبهاري، وفي الوقت نفسه هي استجابة لحالة طارئة، نتيجة غياب البنية التحتية الكافية لحفظ وترميم وإتاحة السينما الجزائرية.
منذ متى وأنت تشتغل رسميا على هذا المشروع، هل كان جهدا فرديا؟
لقد مضت سنوات منذ بدأت الاستثمار في هذا المشروع. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 الجاري، أكون قد قضيت 12 عاما بالتمام والكمال. في البداية كان جهدا فرديا تماما، فكنت أبحث بمفردي، وأحيانا بالتواصل مع أصدقاء ومعارف يمكنهم توجيهي إلى مصادر أرشيف في الجزائر وفرنسا.
ومع مرور الوقت نما المشروع، وبدأت حملات جمع الأرشيف تتسع أكثر، مما أتاح لي فرصة لقاء محبي التراث الثقافي الجزائري، ممن كان لديهم اللطف لمشاركة بعض مواردهم معي.
وقد وسعت هذه اللقاءات آفاقي، وساعدتني في إغناء الخطوة، بتقديم أفكار وتحريك مزيد من الاتصالات، فكنت أصل أحيانا إلى مستندات نادرة جدا.
ومع أنني ما زلت حتى اليوم القوة المحركة لهذا المشروع، فإنني أتعاون مع باحثين ومؤسسات ثقافية، فبعد أكثر من 10 سنوات أشعر أن عملي وكل ما أفعله أصبح معترفا به من قبل الجمهور، حتى أن كثيرا من الناس يتواصلون معي، لمشاركتي بعض الأعمال التي قد تفيد المشروع.
أين تبحث عادةً عن هذا الأرشيف، أين يكون متاحا أكثر؟ نذكر فقط أن الأرشيف الذي تعمل عليه ليس أفلاما أو وثائقيات فقط، بل فيه صور وملصقات أيضا.
البحث عن الأرشيف عملية معقدة وغالبا ما تكون مجزأة، فأنا أتبع عدة مسارات بالتوازي، منها مثلا الأرشيفات العامة والمكتبات الوطنية، والصناديق الخاصة ومجموعات الأفراد، فكلها تشكل مراكز الأرشيف، مثل المكتبة الوطنية الجزائرية، أو المعهد الوطني للسمعي البصري.
وفي فرنسا موارد أساسية، مع أن الوصول إليها يتطلب أحيانا تراخيص خاصة ومتابعة إدارية طويلة ومعقدة جدا.
وكما ذكرتِ، فأنا أهتم بالأفلام وكذلك بالوثائق المرتبطة بها، أي ما يسمى بـ”الأرشيفات غير الفيلمية”، ومنها الملصقات، والصور الفوتوغرافية من كواليس التصوير، والسيناريوهات، وحتى المراسلات والعقود.
هذه الوثائق الثانوية تعزز فهمنا للسياق الذي أُنتجت الأفلام فيه، وظروف نشأة السينما الجزائرية، كما أنه في بعض الأحيان يكون الوصول إليها متاحا أكثر وأسهل من الأفلام نفسها، مما يسمح لي بإعادة بناء جزء مهم من تاريخ هذه الأعمال.
ما الصعوبات التي تواجهك أكثر في مشروعك هذا، البحث أم المراحل اللاحقة مثل الرقمنة والترميم؟
كل مرحلة تحمل تحدياتها، فالبحث نفسه عملية طويلة الأمد، لأن المعلومات غالبا ما تكون مشتتة أو غير متاحة، فالمؤسسات المعنية في الجزائر وأماكن أخرى لا تملك دائما الموارد اللازمة لفهرسة هذه الأعمال وصيانتها، ولذلك يمكنني القول إن الوصول إلى الأفلام هو من أكبر التحديات.
ثم تأتي صعوبات أخرى، فبمجرد العثور على الأرشيفات تبدأ التحديات التقنية، فالترميم والرقمنة يتطلبان معدات متخصصة ومهارات معينة، لضمان جودة عالية.
فعلى سبيل المثال من الضروري الحفاظ على الألوان وجودة الصوت، أحيانا يتطلب الأمر ترميم الفيلم صورةً بصورة، لا سيما إذا كانت الوسائط متضررة، وهذه المراحل تأخذ وقتا، وتتطلب فريقا تقنيا مؤهلا، وهو ما ليس دائما يسيرا في مشروع محدود الميزانية، وله ممول ذاتي مثلي.
لقد حظيت بفرصة التدريب على ترميم الأفلام في فرنسا وإيطاليا، بالإضافة إلى المكاسب التقنية، مما أتاح لي تكوين شبكة دعم تمكنني اليوم من الوصول إلى معدات الرقمنة وبرامج الترميم، التي تظل أسعارها مرتفعة جدا.. وحدها الروح التضامنية هي التي تمكنني من مواصلة هذه المبادرة.
كم وصل عدد النسخ التي عملت عليها حتى الآن؟ وكم من الوقت يستغرق العمل على فيلم واحد؟
حتى الآن، أتيحت لي فرصة العمل على عدة نسخ من الأفلام، معظمها أفلام وثائقية قصيرة، يمكنني ذكر بعض أفلام بوبكر عجالي، ومنها “من الأرض إلى القمر” و فيلم “غطاسين الصحراء” لطاهر حناش (1952)، الذي يراه كثير من الناس اليوم أول فيلم جزائري.
وقبل مدة كنت مبادرا في ترميم فيلم “بوعلام زيد القدام”، وقد تعاونت فيه مع معهد “غوته” بالجزائر.
وبصراحة تعتمد معالجة الفيلم على حالته، فيمكن أن تستغرق من 3-6 أشهر، وربما أكثر إن كان بحاجة لترميمات كبيرة، أما التكاليف فتختلف بناء على تقنيات الرقمنة والترميم المستخدمة.
كم تبلغ تكلفة ترميم فيلم واحد مثلا؟
قد تتراوح تكلفة ترميم فيلم بين بضع مئات من اليوروهات في عملية رقمنة بسيطة، إلى عدة آلاف من اليوروهات في عملية ترميم كاملة.
فعلى سبيل المثال يمكن أن تصل تكلفة ترميم فيلم طويل سيئ الحالة إلى 80 ألف يورو، من دون احتساب الرسوم المتعلقة بحقوق المؤلف والتراخيص، وتتفاوت الأسعار بناء على المعدات المستخدمة وسمعة مختبر الترميم.
ما هو الأكثر تعقيدا وتكلفة، الرقمنة أم الحقوق أم الترميم؟
غالبا ما يكون الترميم هو المرحلة الأكثر تكلفة وتعقيدا، إنها عملية دقيقة تتطلب وقتا وخبرة تقنية عالية المستوى، بالإضافة إلى ذلك تحتاج بعض الأفلام ترميما صوتيا بجانب الصورة، مما يضيف لعملنا فصلا آخر من التعقيد.
وتمثل الحقوق أيضا تحديا، لا سيما حين يتعدد أصحاب الحقوق، أو يعسر العثور عليهم والوصول إليهم، لكن الترميم نفسه يبقى الأكثر تكلفة في العملية، ونقص التمويل المناسب يعطل بعض مشاريع الترميم.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالسينما الجزائرية، فإن الصعوبة الكبرى هي الوصول إلى نسخ الأفلام، فالأفلام مملوكة للدولة الجزائرية، والنسخ السالبة (النيغاتيف) محفوظة في الخارج في أغلب الحالات، وهذا يسبب لنا مشاكل في تحديد المصادر واستخراج التراخيص.
وبمجرد التخلص من هذه القيود، يصبح الحديث عن نجاح المشروع الجزء الأهم والأكبر في العملية.
بالحديث عن الجانب القانوني، كيف تتعامل مع حقوق الملكية الفكرية للأعمال التي تجدها ثم تحفظها وترقمنها وترممها، أتوقع أنك واجهت كثيرا من المشاكل من هذه الناحية؟
إدارة حقوق المؤلف والملكية الفكرية هي أكثر الجوانب حساسية، ففي كل فيلم يجب أن أحدد أصحاب الحقوق، وأن أنال موافقتهم قبل المضي قدما في عمليتي الرقمنة والنشر، وهذا يتطلب غالبا مناقشات طويلة وأحيانا تكون صعبة، لأن أصحاب الحقوق ليسوا دائما معروفين ولا متاحين.
وفي الأفلام الجزائرية القديمة يصبح الأمر معقدا جدا من الناحية القانونية، لأن الحقوق تعود للدولة الجزائرية، ولهذا أرى أن العمل مع السينمائيين الجزائريين المستقلين أسهل، لكنهم نادرون للأسف، ويتطلب ذلك نهجا دبلوماسيا، واحتراما صارما لقواعد الملكية الفكرية.
مثلا قناتي على يوتيوب فيها كثير من الأفلام من نسخ “في إتش أس” (VHS)، أو تسجيلات التلفزيون الجزائري، كما هو حال قنوات أخرى على اليوتيوب، ويُتعامل مع الأمر بشيء من التسامح، ولكن هذا قد يتوقف في أي لحظة.
بل إن قناتي قد حُظرت عدة مرات، نتيجة شكاوى حقوق الملكية والنشر، وتتملكني رغبة كبيرة للمضي قدما نحو مزيد من الاحترافية في نهجي، وأتمنى الالتزام باحترام حقوق الطبع والنشر.
من المهم الإشارة إلى أن قناة الأرشيف الرقمي للسينما الجزائرية على يوتيوب ليست موجهة للربح، بل لهدف تعليمي فقط.
الأرشيفات التي أنشأتها موجودة حاليا على يوتيوب وفيسبوك، هل يمكن أن تصبح متاحة مستقبلا على منصة أو تطبيق يخضع للاشتراك المدفوع مثلا؟
حاليا، نتخذ يوتيوب وفيسبوك منصات رئيسية لجعل الأرشيفات متاحة للجمهور، ومع ذلك فأنا على دراية بأن هذا الشكل له حدوده، وهدفي هو تطوير منصة مخصصة تكون أكثر ثراء وهيكلية، مع ميزات متقدمة للباحثين والمهتمين.
قد تعمل هذه المنصة بنموذج الاشتراك، مع إعادة استثمار العائدات في ترميم وتحديث الأرشيفات، لكن المجانية وإمكانية الوصول للجميع مهمة جدا لدي.
ويمكن أيضا التفكير في تطبيق لتسهيل الوصول للأعمال، وهذا المشروع يتطلب موارد مالية كبيرة، ولكنه قد يكون أكثر ثراء وتنوعا.
وقد كانت هناك محاولات عدة لإنشاء موقع إلكتروني، لكنها مع الأسف لم تكتمل بسبب نقص الموارد أو الرؤية المشتركة، ومع ذلك فإنني لا أفقد الأمل، وسأعمل على أن ينتهي الأمر بوجود هذه المنصة الرقمية.
نعود إلى آخر فيلم عثرتم عليه، وهو نسخة نادرة من “بوعلام زيد القدام”، هل لك أن تخبرنا عن الإجراءات المتبعة من إيجاده إلى عرضه ببجاية في إطار لقاءاتها السينمائية الـ19؟
فيلم “بوعلام زيد القدام” كنز من كنوز السينما الجزائرية، وقد كنت محظوظا بإيجاده، والنسخة الإيجابية 16 ملم كانت موجودة بألمانيا في أرشيف “أرسنال برلين”، وكان الفيلم قد أُرسل عام 1981 إلى مهرجان “البرلينالة” ولم يعد إلى الجزائر.
وبمجرد تحديد النسخة حصلنا على إذن من التلفزيون الجزائري، بمساعدة من السينمائي أحمد بجاوي، لبدء عملية الرقمنة والترميم الرقمي للفيلم، لإعادة الصورة والصوت بأكبر قدر ممكن من الدقة إلى النسخة الأصلية.
كان لحظة فريدة عرض الفيلم في بجاية، وعودة هذا العمل الأيقوني إلى الجمهور الجزائري بعد غياب دام أكثر من 40 عاما، وكان مؤثرا جدا لدى الكاتب المسرحي سليمان بن عيسى، وهو مؤلف مسرحية وسيناريو “بوعلام زيد القدام”.
فقد اكتشف الفيلم من جديد، ولم يكن قد شاهده سوى مرة واحدة، أثناء عرضه الوحيد على التلفزيون الجزائري عام 1980.
آمل أن أحظى بفرصة تكرار هذه التجربة والتعاون مع التلفزيون الجزائري، الذي أنتج أعمالا رائعة منذ تأسيسه.
رممت وزارة الثقافة منذ سنوات مجموعة من الأفلام، تقريبا 15 فيلما من أصل 120، فهل ثمة تواصل وتنسيق بينكم وبين الوزارة أو مراكز أرشيف هنا أو في فرنسا لاستعادة بعض النسخ، بحكم أنك مقيم بفرنسا ودرست فيها؟
وزارة الثقافة -بطبيعة الحال- لها دور مهم في الحفاظ على التراث السينمائي، وكانت لدينا في بعض المناسبات محاولات للتعاون، ولكننا لم نحقق تنسيقا واقعيا في الميدان.
فغالبا ما تكون المناقشات غير رسمية، وأبقى على اتصال مع بعض المسؤولين الذين يشاركونني هذا الاهتمام وضرورة حفظ التراث، غير أن المبادرات لا تزال بحاجة إلى التجسيد على المستوى المؤسساتي.
أما التعاون مع الأرشيف الفرنسي فعادة ما يكون يسيرا، بسبب إقامتي في فرنسا، لكن لا تزال لدينا عقبات يجب التغلب عليها، لاستخراج التراخيص اللازمة.
فخلال السنوات الخمس الماضية، أصبح عمل الأرشيف الرقمي للسينما الجزائرية معترفا به أكثر، سواء في الجزائر أو في الخارج، وأشعر اليوم أنني أكثر تجهيزا وأكثر شرعية، لمواصلة عملي في تعزيز التراث السينمائي الجزائري.
عندما نتحدث عن العمل الكبير الذي تقوم به، والجهود التي تبذلها لإعادة الروح والحياة لبعض الأعمال السينمائية، لا ينبغي أن نتناسى أهمية التكوين، فهل تفكر في نقل تجربتك إلى الجزائر؟
التكوين هو في صميم مشروعي ورؤيتي للمستقبل، لقد حظيت بفرصة التكوين في فرنسا وإيطاليا، حيث الأرشفة والحفاظ على التراث السينمائي متطوران جدا، وأتمنى بشدة نقل هذه المعرفة إلى الجزائر.
أنا مقتنع بأن الخبرة التي تعلمتها وصقلتها في الخارج، يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة في الجزائر، وأتمنى نقل هذه الخبرة محليا، من خلال تكوين المهنيين الشباب، لكي يواصلوا عمل الحفظ والتوثيق.
التكوين مسألة سيادة في نظري، فيجب على الجزائر أن ترمم أفلامها، وألا تعتمد على دول الشمال.
وأفكر أيضا في تنظيم ورشات عمل، ربما بالشراكة مع الجامعات والجمعيات أو مدارس السينما في الجزائر، للتوعية بتقنيات الأرشفة واكتساب الحقوق والرقمنة والترميم.
وأبحث حاليا عن تمويل لتنظيم هذه الورشات خلال عام 2025، وإنشاء فريق محلي سيكون خطوة كبيرة للأمام، لكي يحفظ التراث السينمائي، ويكون متاحا للأجيال القادمة. لذلك فنقل تجربتي وتشكيل فريق عمل هو أحد أهدافي الرئيسة.
عملية البحث والرقمنة والأرشفة واسعة ومعقدة جدا، يجب أن يكون هناك فريق منظّم يضم متخصصين في الترميم والحفظ والتوثيق، وملمين بالجوانب القانونية، وهذا يمكنه أن يسهل المهام كثيرا، ويدفع بالمشروع إلى الأمام.
وبتكوين فريق مؤهل ومختص يمكننا أيضا توزيع المسؤوليات وزيادة الموارد إلى أقصى حد، وسيسمح ذلك بمعالجة الأرشيفات التي نجدها معالجة أسرع، وجعلها متاحة للجمهور، وبذا تكون العملية أكثر فعالية.
آمل أن أجذب المواهب الشابة الجزائرية، للمشاركة في هذا المشروع، فتطوير هيكل دائم للأرشفة والرقمنة والترميم في الجزائر، إنما هو مهمة ذات منفعة عامة للصالح العام.
إلى أي مدى يمكن أن يؤثر سلبا شتات روائع السينما الجزائرية على مستقبلها، وكيف سيخدم الجمع والتوثيق صناعة السينما وتاريخها؟
شتات روائع السينما الجزائرية أو تلفها خسارة هائلة، سواء لتاريخنا أو للثقافة المعاصرة، فعندما لا تكون هذه الأفلام متاحة، فإن جزءا كبيرا من هويتنا البصرية والسردية يختفي، وشهادات فريدة عن تاريخنا ومجتمعنا تضيع.
هذا الفقد يترك فينا شعورا بأن تاريخ السينما الجزائرية ناقص وغير مكتمل، واستعادة هذه الأعمال يسمح لنا -بطريقة ما- بإكمال وتحسين معرفتنا بتاريخ السينما في الجزائر.
وسيمنع هذا الشتات المخرجين الشباب الباحثين والجمهور من الوصول إلى الأعمال التي يمكن أن تلهمهم، وتلقنهم كيفية تطور السينما الجزائرية، فجمع هذه الأفلام وتوثيقها بدقة يوفر أساسا للدراسة والبحث.
ثم إنه طريقة جيدة للحفاظ على تنوع الروايات، لأن كل فيلم يلتقط وجهات نظر فريدة عن الثقافة والسياسة وحياة الجزائريين اليومية، وبمجرد جمعها يمكن أن تؤدي هذه الأرشيفات دورا تربويا، وتصبح مع الوقت مرجعا مهما يلهم المبدعين اليوم وغدا.
أنت سينمائي متعدد الأدوار، ولك أكثر من قبعة، فنراك أحيانا ممثلا، ونراك أحيانا أخرى في الإخراج، ونجدك الآن في مشروع أكبر، كيف تصف أهمية مشروع الأرشفة والرقمنة والترميم؟
هذا المشروع في نظري، هو واحد من أهم المهام في مسيرتي، إنها مهمة حياة. إنني -بصفتي مخرجا- أدرك صعوبة إنتاج فيلم، والخطر الذي يهدد نسيان الأعمال إذا لم نَحمِها.
فالأرشفة والرقمنة ليستا أعمال حفظ، بل هما أفعال نقل للتراث، فعند ترميم فيلم فإننا نعيد له الحياة ونبث فيه الروح، ونجعله يتواصل مرة أخرى مع المشاهدين الحاليين والمستقبليين.
وترميم فيلم جزائري يعني ترميم جزء من التاريخ الجماعي لمجتمعنا، وهذا يتجاوز دوري بوصفي مخرجا، إنه التزام تجاه التراث، وشكل من أشكال المقاومة ضد النسيان، وأرى هذا المشروع طريقة لبناء جسور بين الأجيال، والحفاظ على ذاكرة سينمانا حية.
بطبيعة الحال ما زلت ذا رغبة في إخراج الأفلام، لكنني أشعر اليوم أن هذا العمل في الحفظ والهيكلة هو الأهم.
يعني هذا أنك مصرّ على مواصلة العمل على مشروع الحفظ والترميم؟ كنت أتوقع أنك ستتوجه في المرحلة المقبلة نحو الإخراج.
لا أرى هذا المشروع بديلا لإخراج الأفلام بل توسيعا له، حبي للسينما يمتد للحفاظ على الموجود، فأنا أرغب في متابعة هذين الطريقين بالتوازي، لأنني أرى أن أحدهما يغذي الآخر، تماما مثل العمل الذي أقوم به في الإشراف الفني في لقاءات بجاية السينمائية، كل ما أقوم به هدفه المساهمة في إبراز السينما الجزائرية، أشكر بالمناسبة كل الناس الذين يثقون بي.
كما أن العمل في الترميم والأرشفة يلهمني بوصفي مخرجا، فهو يدفعني للتفكير بطرق جديدة لسرد قصة شعبنا، بالاعتماد على الماضي لفهم الحاضر بشكل أفضل وتصور المستقبل.
الصور التي أكتشفها وأشاركها يمكن أن تكون مصدر إلهام لي ولغيري من المخرجين، لذلك سأواصل استثمار وقتي ومواردي في هذا المشروع الكبير للأرشفة، ثم أواصل الإخراج إذا وجدت فكرة أو مشروعا يعطيني الرغبة في المضي قدما.
واضح أنك -بوصفك باحثا أو مخرجا- تشتغل كثيرا على الأرشيف؛ الذاكرة والتاريخ. سمعتك مرة تتحدث بشغف كبير عن جدّك، أي عن جيل عاش الاستعمار والاستقلال، لا أدري هل كان ذلك الحديث مجرد فكرة طُرحت، أم أنك تفكر حقا في مشروع وثائقي؟
هذا الوثائقي هو مشروع شخصي للغاية، تكريما لجدّي وجيله ممن عاشوا النضال ولحظات الاستقلال، لكن مع الأسف، لم أستطع إتمام هذا الفيلم، فمن الصعب تناول التاريخ العائلي ونبش جراح لم تلتئم نهائيا. كان يراد لهذا الفيلم أن يكون وثائقيا، وربما يصبح يوما ما فيلما خياليا.
خلال كل هذه السنوات من البحث، فهمت أن الأفلام لها حياتها، فأحيانا تحتاج إلى الاختفاء زمنا طويلا قبل أن تعاود الظهور، وربما يكون الأمر كذلك مع الأفلام التي أريد صنعها. نعم تأخذ وقتها، ولكنها ستأتي يوما ما إن شاء الله.
في السنوات الماضية، أصبحت أقرب إلى السينما الجزائرية من حيث الأفلام والتنظيم، رأيناك مؤخرا في مهرجان وهران تتابع العروض، وكنت في لجنة اختيار أفلام لقاءات بجاية السينمائية، كيف تجد المحيط العام والسينما الجزائرية عن قرب؟ هل الرؤية عن قرب تتطابق مع رؤية المغترب؟
هذه الرؤية الواقعية هي التي حفزتني على الانخراط في الحفاظ على التراث، لأنني أرى أن السينما القوية تعتمد بنفس القدر على قدرتها على التجدد، وقدرتها على الحفاظ على تاريخها.
إحدى المشكلات الكبرى -من وجهة نظري- هي غياب رؤية طويلة الأمد للسينما في الجزائر ومشكلة ترشيد النفقات، في الحقيقة هذه المشاكل تؤثر على السينما الجزائرية منذ سنوات عدة.
وثمة شيء آخر أيضا، فغالبا ما نبتهج بفيلم صُوّر في الجزائر بمجرد نجاحه في الخارج، لكن لا نعبأ بتداول هذا الفيلم نفسه في الجزائر، فإذا أردنا حقا إعادة الجمهور إلى دور السينما، وإعادة إنشاء ثقافة السينما في الجزائر، فقد حان الوقت لذلك، والظرف مناسب لإطلاق شبكة توزيع وطنية.
المشكلات كثيرة، ولا يمكن للحل أن يكون إلا بقرار سياسي، يعتمد على توجيه فني ومنفتح، يمكّن السينما من الانطلاق حقا في الجزائر.
بصفتك مخرجا تنتمي إلى هذا الجيل من صناع الأفلام، كيف ترى السينما الجزائرية اليوم التي باتت تفتقر إلى الكوميديا والإبداع على مستوى المواضيع، ولا تتحدث -غالبا- باللغة والأسلوب الذي يحبه الشعب، مثلما فعل موسى حداد في أفلامه، وبن عمر بختي؟ بمعنى آخر، أصبحت السينما الجزائرية رسمية أكثر من أن تكون شعبية.
تمر السينما الجزائرية بمرحلة يشعر فيها الناس بالحاجة لمواجهة الماضي، لا سيما من خلال قصص العشرية السوداء، وتاريخ البلاد عبر السير الذاتية لشخصيات الثورة الجزائرية.
ومع ذلك، أوافقك الرأي بأن من الضروري استكشاف مزيد من الأنواع، وتجديد المواضيع المطروحة. نفتقر بشدة إلى الكوميديا، مع أنها وسيلة قوية للتواصل مع الجمهور.
السينما الشعبية ليست أقل نبلا من السينما الملتزمة، بل على العكس، يمكنها أن تؤثر تأثيرا عميقا على المشاهدين، من خلال تناول المواضيع الحالية.
الاسمين اللذين ذكرتِ -أقصد موسى حداد وبن عمر بختي- كانا ذوي موهبة في التقاط روح الشعب الجزائري بروح الدعابة والإخلاص. اليوم علينا أن نجد هذا التوازن بين السينما الرسمية والسينما الشعبية، التي عادة ما تكون ميسورة ومسلية، وأنا مقتنع بأن هذا سيعزز علاقة الجمهور بالسينما أكثر.