“المرهقون”.. حوار مع مخرج الفيلم المثقل بآلام اليمن السعيد
جعلتنا عبارة “اليمن السعيد” نتخيل زمنا طويلا حجم السعادة التي ينفرد بها أهل هذا البلد، لكن الصورة السينمائية المنبعثة من هناك واجهتنا فيما بعد بحقيقة مؤلمة، بتوثيقها لما حل به وبشعبه من انتكاسات وصدمات، سببتها الحروب التي توالت عليه ولم تغادره بسلام، بل تركته يتخبط في أزمات جعلت بعض الناس يتخلون عن أبنائهم وأحلامهم، وإذا ما تخليت عن شيء منك فهذا يعني أن أمورك قد تعقدت تعقيدا شديدا.
جاء فيلم “المرهقون” ليحدثنا بواقعية عن حاضر سكان عدن، ومستقبل اليمن الذي تجهضه كثرة المشاكل، وليوثق ذاكرة أماكن قد يتجاوز عمر بعضها 100 سنة، فالبلدان التي لا توجد فيها صناعة سينمائية لكن تاريخها أقوى، تحتاج بشدة إلى توثيق تفاصيلها عبر الأفلام القليلة المتاحة، وذلك مبدأ يؤمن به المخرج عمرو جمال ويعمل وفقه، وهو ما يبرر أيضا تقاطع الروائي والوثائقي في أفلامه.
لا يشبه “المرهقون” بقية الأفلام التي تناقش الإجهاض، أو تطرحه من الناحية الدينية أو الاجتماعية أو حتى الأخلاقية، بل يتخذه المخرج وعاء وفكرة لسرد قصة حقيقية، عن أسرة منهكة يشتد تأزم أوضاعها مع مرور الوقت، ويحمّلها تدهور الوضع الاقتصادي ما لا تطيق.
فبعد إغلاق قناة عدن التلفزيونية وتوقف الزوج أحمد عن العمل، يقرر مع زوجته إسراء التضحية بجنينهم، لأجل مستقبل أبنائهم الثلاثة، ولعجزهم عن تحمل مزيد من الأعباء والمسؤوليات، وذلك أمر قد يستغربه البعض ويقول: أيحدث هذا وكثير من الأزواج يطلبون علاجا للعقم؟
مع أن فيلما واحدا لا يمكنه تصوير كل ما يحدث في اليمن من مشاكل وتراكمات، فإن أفلام المخرج عمرو جمال وأبناء جيله قد طرحت قضايا إنسانية وموضوعات في غاية الصدق والأهمية، وعززت فرص حضور السينما اليمنية وتتويجها في أهم المهرجانات السينمائية، من برلين إلى البندقية، مرورا بعمّان ومالمو وشيكاغو.
وبعد الجولات التي قام بها الفيلم والجوائز التي نالها، يتفرغ المخرج عمرو جمال لمشروعه السينمائي الثالث الذي يأتي بعد فيلميه “عشرة أيام قبل الزفة” و”المرهقون”.
وقد أجرت الجزيرة الوثائقية حوارا مطولا معه، حول أساليبه الفنية، ورسالته من خلال السينما، وخططه المستقبلية.
من هم المرهقون، أهم الذين أرهقتهم الحرب أم تبعاتها؟
كلاهما، نحن نمر بمرحلة سيئة وصعبة للغاية، قد تكون من أشد المراحل ظلمة في تاريخنا، سواء في اليمن أو الدول أخرى، نعيش انهيارا اقتصاديا كبيرا ومتزايدا.
فالجميع -كما تلاحظين- يعاني لأسباب شتى، والشعب اليمني بشكل أكبر، فهو يكابد منذ سنوات، يخرج من حرب فيقع في أخرى، وغالبا ما تكون هذه الأمور مغيبة عن الإعلام، فلم يعد يغطي ما يحدث في اليمن بما يكفي، مما يجعل العالم يجهل تفاصيل مهمة عن حياتنا اليومية وما نعانيه.
لقد شهدتُ 3 حروب كبرى في حياتي التي امتدت 40 عاما، إلى جانب بعض الصراعات، وفي ذلك إنهاك وإرهاق كبير يؤثر علينا نحن البشر. يرى البعض بأن الكلمات لطيفة مقارنة مع ما نعيش، ولا تعبر بالقدر الكافي عن معاناة الشعب اليمني.
كما أن اختيار عبارة “المرهقون” ذو بعد ديني، لقوله عز وجل في سورة الكهف ﴿فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾، فكلمة الإرهاق تأتي من هذا المنطلق، لتطابق العمق الفلسفي للفيلم، وتخلق تصورا عن حال الناس أو المرحلة التي وصلوا إليها.
اليمن مليء بالقصص المؤثرة التي يمكنها أن تجذب كل سينمائي أو كاتب، فما جذبك إلى هذه القصة تحديدا، وما حجم تأثرك بها؟
قصة الفيلم حقيقية، وقعت لصديق مقرب مني، عاش تجربة قاسية، جسدت انهيار الطبقة المتوسطة في اليمن، قصته جعلتني أدرك أن مسؤولياتي في الحياة ليست بذاك الثقل الذي يتحمله، فأنا أعيش في بيت العائلة مع أمي وخالتي، مما يجعل حياتي أكثر بساطة وأقل تعقيدا.
رأيت صديقي الذي لديه 3 أطفال، وقد بدأت أوضاعه تهتز بعد عام 2011، وتفاقمت مشاكله المادية، ولم يعد يتحمل مزيدا من الأطفال والنفقات، حتى أنهم فكروا في إجهاض الطفل الثالث، خشية عدم قدرتهم على تحمل تكاليف الوافد الجديد للعائلة، ولكنهم تراجعوا عن القرار، وكان القضاء والقدر أقوى هذه المرة.
لكن حمل زوجته المرة الرابعة شكل صدمة كبيرة لهم، ولم يترك لهم خيارا سوى الإجهاض، كل هذا تجنبا للمزيد من الإرهاق والتضييق المالي، الذي يدمر حتما أسرة بكاملها.
صُدمت حين اتصل بي صديقي، وأخبرني بأن زوجته أجرت العملية، واضطرا لإجهاض الجنين!
ما أثار اهتمامي هو كلمة “إجهاض”، فنحن في اللغة العربية نستخدمها للتعبير عن أحلامنا وطموحاتنا التي تجهض أمام أعيننا، أصبح الطفل في أحشاء إسراء بطلة الفيلم رمزا لأحلام 30 مليون يمني، ومستقبلهم وطموحاتهم التي تجهض يوما بعد يوم، بل مشاريع كثير من الشعوب والدول، مثل السودان وسوريا ولبنان، وشعوب أخرى لا نعرف الكثير عن مشاكلها الداخلية.
بصراحة هزتني القصة وأردت طرحها بهذه الطريقة البسيطة، من دون أن أحكم على أصحابها. أرى أن العمق يتكشف في المشاهدات المتكررة، عندما يرى الجمهور والمتلقي الحياة اليومية للأسرة النموذج ولليمنيين عموما.
جاء الإجهاض وعاء ووسيلة لسرد القصة، وكان للأزمة الاقتصادية حضور مهم في الفيلم أيضا، مما يبرز تأثيرها على قصة الزوجين والأوضاع في اليمن عموما، وبينهما قلت الكثير من الأشياء!
هذا صحيح، لو لاحظت هناك تبادل للأدوار، فقد أصبح المتعلم والمثقف يطلق عليه لقب المزايد، في حين يُمدح الجهلة، ويصنفون ذوي قيمة في المجتمع، وهذا سبّب لنا هزة في الحياة، فالحروب تخلق اختلافا واختلالا وانحدارا في المعايير، حتى أن صديقي أو بطل الفيلم لا يريد بيع صوته وضميره.
أحيطك علما أنه بعد الحرب أُغلقت قناة عدن وشُرد موظفيها، فظهرت قنوات مسيسة تابعة لجهات معينة، وكل قناة تحمل أهدافا تخدم مصالح تلك الجهات، ومن يعمل معها يعرف أنه سيخدم تلك الأهداف ويطبقها حرفيا، ومن يرفضها فسيعيش أوضاعا مزرية، لأن الوضع صعب حقا.
كنا قبل سنوات نرفع أصواتنا وأعمالنا الفنية، دفاعا عن الشخصية التي تتحمل الأزمات والجوع، مقابل التمسك بمبادئها، ونصفق لهذا النوع من الشخصيات، ونراها القيمة الأهم في المجتمع، لكن اليوم تشعر أن كثيرا من القيم قد زالت أو تغيرت، حتى أن ردات فعل الجمهور كانت متباينة.
قال كثيرون: أيهما أصح؛ الإجهاض والتخلص من الجنين، أو القبول بشيء لا يعكس قناعاتنا ومبادئنا ولو كنا مضطرين؟
هم ليسوا على اطلاع بالمستجدات، ولا خلفية لديهم عن ما يقع في اليمن، أنا أسعد كثيرا عندما يطرح هذا النوع من التساؤلات، هذا جوهر الفن، لأنه يضعك أمام مجموعة من التساؤلات عن الصحيح والخطأ. في الحقيقة ليس هناك صحيح أو خطأ مطلق، دائما هناك قرارات تتخذ وتتحمل نتائجها وتبعاتها.
ليس إجهاض الجنين إنهاء حياة أو تخلصا من “عبء” قد يعقد وضع الأسرة، بل هو إجهاض لمشروع قادم، لأن الجنين يمثل مستقبلا وجيلا بأكمله، أليس كذلك؟
صحيح، كما أن بعض الناس يعترضون على فكرة الإجهاض من أساسها، لا سيما في الثقافة العربية والإسلامية وحتى في الديانات السماوية الأخرى، فهي فكرة صادمة وغير مقبولة، لكنني متأكد أن المتلقي إذا شاهد الفيلم بتأنٍّ، فسوف يجد أنه لا يحمل أي أهداف ولا يتبنى أي قضية، وليس مع الفكرة ولا ضدها.
هناك أفلام تتبنى فكرة الإجهاض، وتدافع عن قضايا معينة، مثل حقوق المرأة والطفل، وهذه آراء تحترم، لكنني -وأنا مخرج الفيلم- أرى أن الرمزية التي تضمنها “المرهقون” أكبر من القضية نفسها، أرى أن رحلة الإجهاض وعاء مؤلم لكل ما يحدث في عدن واليمن حاليا.
كيف كانت ردة فعل المعنيين بالأمر -صديقك وزوجته- بعد مشاهدتهم قصتهم الحقيقية في فيلم؟
لقد بكت الزوجة كثيرا حين رأت قصتها على الشاشة، فقد كان شريط حياتهم أو جزء منه يمر أمامهم، ومع ذلك كانوا سعداء بالنتيجة، وطلبوا مني التحفظ على هويتهم. لقد كانوا كرماء في سرد قصتهم لنا.
مؤلم جدا أن تشاهد قصتك على الشاشة، أمر صعب للغاية وكأنه إجهاض ثان. لقد امتزجت لديهم مشاعر الفرح بالألم، فرح بالفيلم وحزن على ما مروا به، قصتهم جزء من حكايات لم تلتقطها السينما بعد، أتمنى أن تكون القصة وصلت للعالم بالشكل الذي تمنيناه، لأن الأفلام تحتاج أحيانا إلى وقت لتُفهم.
أعود إلى نقطة كررتها أكثر من مرة في حديثك حول صورة اليمن في الإعلام، هل ترى أن الصورة السينمائية تكون أكثر صدقا من المادة الإعلامية التي تصل إلينا عن بعض الشعوب والدول، ومنها اليمن؟
صحيح، الصورة السينمائية تهتم بالقصص البسيطة والمعقدة للناس، أما نشرات الأخبار والتغطيات الإعلامية، فغالبا ما تستجيب لتوجهات القنوات وأصحابها، وتعمل وفق خط افتتاحي معين.
لكن في فيلم “المرهقون” -وهو فيلم مستقل ليس مدعوما بالكامل من الحكومة اليمنية، بل بمساهمة جزئية منها- ركزنا على أثر ما تسمعونه في الأخبار على الناس، دخلنا بيوتهم وجعلنا المشاهدين يتابعون قصة عائلة من مدينة عدن -وهي مدينتي- وخلال ساعة ونصف جعلناكم تعيشون معهم أسبوعين من حياتهم، وكأنكم تراقبون ما يحدث لهم.
أرى أن الصدق في هذا المشروع يكمن في عدم ميله لأي طرف، فهو يتحدث عن الإنسان اليمني في الوقت الراهن، في ظل الأوقات الصعبة والقاسية التي تواجهه.
أداء الممثلين وملامحهم التي كانت تعكس قسوة الأوضاع وتأزمها ماديا، جعلنا نصدقهم ونشعر بأننا نشاهد واقعا لا تمثيلا، كيف استطاعوا بلوغ هذا المستوى من الصدق في الأداء؟
لقد أخبرت الممثلين بأننا سنصور في الصيف، وتعمدت ذلك لكي يظهر عليهم التعب والإرهاق بصدق، لأن صيف مدينة عدن شديد الحرارة، قمنا بتدريبات مكثفة، فتكويني المسرحي وتجربتي السابقة في المسرح المدرسي جعلاني أعي تماما أهمية التدريبات، وضرورة التعايش مع الدور.
مع أن كثيرا من الناس اليوم، إنما يفكرون من منظور مادي، ولا يعطون جلسات التدريب أي أهمية، لكنني لا أزال متمسكا بما تعلمته من الجيل السابق، الذي كان يقدس التدريبات.
قد يصفني بعض الناس بالمزايد أو المبالغ، أما أنا فأرى أن مدة أسبوع غير كافية لجعل الممثل يتقمص الدور، وينسجم مع الشخصية تماما، لنحصل على عمل محترف وأداء جيد، وهذا لن يتأتى إلا بأخذ الوقت الكافي واللازم في كل عمل.
يمكن أن تحقق بعض الأفلام نتائج جيدة في ظرف قصير، وهنا أقر بأن حظها جيد، ولكني لا أريد تغيير الأساس الذي أؤمن به، فالتدريبات قد أثرت تأثيرا كبيرا في الأداء، وعلى النتيجة والعمل عموما.
لقد اخترتُ من الممثلين من ليست لهم تجارب سابقة، كي لا يأتوا محملين بالأداء التلفزيوني التقليدي، الذي يطغى على الأداء السينمائي ويوثر سلبا عليه، فهذا الأمر شائع على مستوى العالم العربي وليس عندنا فقط.
سعيتُ جاهدا ليكون الأداء طبيعيا ومقنعا، لكي يشعر الجمهور بأنه يشاهد وثائقيا حقيقيا داخل فيلم روائي، ولهذا اخترت ممثلين بسطاء غير محترفين، حتى يكون يسيرا عليهم التماهي مع الشخصيات والقصة وتعقيداتها، ويقدموا أداء يلامس الحقيقة.
كيف وظفت خبرتك المسرحية في أعمالك السينمائية، لا سيما في توجيه الممثلين وإدارتهم بالشكل الذي شاهدناه في فيلم “المرهقون”؟
لقد أثرت علي خبرتي المسرحية تأثيرا كبيرا في أعمالي السينمائية، فالمسرح أبو الفنون، وأنا محب للسينما، فعندما دخلت عالم المسرح لم تكن لي خيارات أخرى.
أقول عن نفسي أنا محب السينما الذي تعثر في المسرح، فوقع في غرامه، وقد توقفت مؤخرا مدة سنتين، للاشتغال على مسرحية “هاملت” بمدينة عدن، وكانت تجربة جديدة ومختلفة.
علّمني المسرح الصبر، ومنحني طريقة مميزة للتعامل مع الممثلين، واكتشاف مواهبهم منذ اللحظة الأولى، وكيفية بناء الأداء على القليل الذي يمسكون بناصيته، وقد كونت لدي هذه الخبرة إحساسا خاصا بالنغم، فعندما تكون صادقا مع نفسك ولا تستمع كثيرا للمدح، تبدأ في رؤية العيوب التي تؤلمك، وتتلمس الطريق الصحيح.
علمني المسرح أيضا كيفية إدارة المجاميع، لا سيما في المشاهد الواسعة التي اعتمدتها في الفيلم، وكان الأداء والمشاهد أقرب للحقيقة من التمثيل. عندما بدأت العمل المسرحي وأنا ابن 21 عاما، حققت نجاحات كبيرة ملأت المدينة، فكبرت أمام أعين جمهور مدينة عدن، ودخلت كل بيت.
الآن أصبحنا عندما نصور في الخارج -أي في الشارع- لا يعترض طريقنا أحد، بل نجد الناس متعاونين جدا معنا، قائلين “هؤلاء أصحاب مسرحية (معاك نازل)، دعوهم يصوروا” وهي مسرحية شهيرة جدا عندنا. لقد أصبحوا يعاملوننا بعناية وتقدير، ويأخذوننا على كفوف الراحة.
استغرق تصوير فيلم “المرهقون” 70 يوما، أجدها مدة طويلة نوعا ما، هل واجهتكم مشاكل أو ظروف معينة أثناء التصوير أثرت على سير عملكم؟
هي مدة طويلة نعم، كان مفترضا أن يصور الفيلم في 45 يوما في أقصى تقدير، لكنه تزامن مع صدمات عسكرية في المدينة، أدت إلى تجميد التصوير عدة أيام، واحتجاز الطاقم في الفندق.
في المدة نفسها أيضا، وقعت مظاهرات بسبب انهيار قيمة الريال اليمني، ولم نستطع تصوير المشاهد الخارجية، والأسوأ من كل هذا إصابة الطاقم بفيروس كورونا كوفيد 19.
ففي تلك المرحلة بلغ الوباء مرحلة الذروة، وارتفعت الإصابات ارتفاعا رهيبا، ولهذا كنا نتوقف باستمرار، وتلك الصعوبات التي شاهدتموها في الفيلم هي نفس المشاكل التي عشناها في الواقع.
ما عرضتُه هو ما يحدث يوميا للطبقة الوسطى في اليمن، نعاني من نقص البترول والانقطاع المتكرر للكهرباء، مما اضطرنا للبحث عن مولدات كهربائية، لا يمكنكم تصور ما كان يحدث لنا في مرحلة التصوير، هي أشياء حقيقية.
أصبحنا نذهب مسافات طويلة بحثا عن الماء، كانت الكهرباء تنقطع عنا مدة 15-20 ساعة، يحدث هذا في مدينة كانت في يوم من الأيام إحدى حواضر الثقافة والفن في العالم العربي.
يشعرك هذا الوضع بحجم الإحباط والإرهاق، فلم تكن عدن يوما ما مدينة عادية، بل كانت مدينة مسرح وسينما، كنا نعيش الإحباط ذاته ونحن ننجز الفيلم، عشنا رحلة مشابهة لمعاناة أحمد وإسراء.
في الفيلم نشاهد قصة ونتتبع تطور أحداثها، وبالمقابل نجد أن الأماكن أو المدينة وسكانها وكل ما فيها يضاهون الشخصيات الرئيسة من ناحية الأهمية والظهور، حدثنا عن المساحة التي تأخذها المدن وأهلها في أفلامك؟
يشعرني الاهتمام بهذه الجزئية بحجم المسؤولية التي تقع على عاتقي، وعلى عاتق الجيل الأول من المخرجين السينمائيين في اليمن، مع الأسف لم ينجز كثير من الأفلام هنا، بل يمكن عدها على الأصابع، تقريبا 5-6 أفلام فقط، لذا من الضروري أن نوثق لهذه المدينة.
أكرر دائما أن المدن التي تفتقر للسينما هي مدن تعاني من الخَرف، فالذاكرة الجماعية مهددة بالاختفاء مع الوقت في ظل غياب الفنون، ماذا يعني ألا تكون لدينا لوحات تشكيلية أو أفلام أو أي شكل من أشكال الفنون والتوثيق، للأماكن وللذين مروا بها؟ في هذه الحالة تتلاشى الذاكرة ويلتهمها النسيان.
كنتُ حريصا على هذا الجانب، وسعيت للتوثيق له بصدق، وثقت بعض الأماكن والتفاصيل التي تبدو اليوم منهكة في مدينة عدن الجميلة، اليمن عموما بلد خلاب، ولكن في الظروف الحالية يبدو تصوير الجمال السياحي ترفا.
لذا أردت -على الأقل- توثيق شوارع ومبانٍ يزيد عمرها عن 100 عام، ولا يدرك بعض الناس أهميتها التاريخية، ويدمرونها ظانين أنها من بقايا الاستعمار البريطاني، والحق أنها مبان ذات أهمية كبيرة، وامتداد عريق للحضارة والتاريخ، وعلينا نحن -معشر المخرجين- أن نكون أمناء مع الصورة وما نريد التوثيق له.
لا يقتصر اهتمامك بتوثيق تاريخ المدن على الأفلام التي تنجزها أو حديثك المستمر عنها، بل يمتد إلى قناتك على اليوتيوب. كيف تشكلت لديك هذه الرغبة والتوجه وكأنها طريقتك للحفاظ على ملامح المدينة ورد الاعتبار لها؟
السبب بسيط، نحن متصحّرون تاريخيا، فعندما كنت صغيرا كنت متعطش جدا لمعرفة الحقائق، وهناك أيضا عامل آخر هو البعد السياسي، فمدينة عدن مثلا أصابها كثير من الضغوطات والاحتقار والتقليل من قيمتها، مع أن قيمتها عالية، لكن لأسباب سياسية حُقّرت هذه المدينة التاريخية، وقد كبرت مع هذا الغضب، وحولته فيما بعد إلى رغبة في الحفاظ على مدينتي، وإعادة الاعتبار لها.
أحاول في كل عمل أن أتدارك ما لم أوثقه عن المدينة وناسها، حتى لو خرجت من عدن وذهبت لمدينة أخرى، فسأتبنى نفس الفكرة والتصوير.
فمثلا لو صورت في وهران (الجزائر)، وأردت أن أنجز فيلما بها، فيجب أن أفهم المدينة جيدا كي أخدمها بالشكل الصحيح. أرى أن المدن أعظم من أن نخدمها نحن البشر، لكننا نحاول أن نساهم في الحفاظ على تاريخها وثقافتها من خلال السينما.
القصة التي نقلتها نيابة عن صديقك إلى السينما ولجمهور واسع، جعلت “المرهقون” أول فيلم يمني يعرض بمهرجان برلين السينمائي في دورته الـ73، كيف تنظر إلى هذا المنجز والتتويج، لا سيما وقد عزز حضور السينما اليمنية بموضوعاتها الإنسانية في مهرجانات مهمة؟
صحيح، لقد كان فيلم “المرهقون” أول فيلم يمني يعرض في مهرجان برلين، ونال جائزتين؛ جائزة “منظمة العفو الدولية” التي تمنح للفيلم الأكثر تأثيرا في الجانب الإنساني، والمرتبة الثانية في تصويت الجمهور، وما أدارك ما جمهور برلين الذي يصعب إرضاؤه، لقد صوّت 21 إنسان تقريبا لفيلمنا.
كان مدهشا هذا التتويج، لا سيما أن الفيلم أحيانا تشعر بأن إيقاعه غير جماهيري، ولكن يبدو أن الناس تعاطفت مع الأحداث والقصة تعاطفا كبيرا.
بعدها سافرنا بالفيلم إلى كل القارات، فعرضنا في شنغهاي الصينية، وفي الهند، وفي أستراليا وتايوان والبندقية وريو دي جانيرو، وعرضنا أيضا في الولايات المتحدة الأمريكية، وحصدنا جوائز مهمة ومرموقة في مهرجان شيكاغو، الذي يعد من أهم المواعيد السينمائية.
ما أريد قوله إن فيلمنا حصل على التقدير والاشادة، مع اختلاف الجماهير والأذواق في القارات الخمس، وهذا أشعرنا بسعادة كبيرة، لأننا نجحنا أو -على الأقل- حاولنا إيصال جانب من حياة اليمنيين ومعاناتهم.
أنا أركز وأسعى لإنتاج أكبر عدد ممكن من الأفلام، وهذا ما يسعدني حقا، وصول الفيلم إلى الجمهور خارج اليمن رائع حقا، لأنه يساهم في بناء ذاكرة جماعية.
فبفضل السينما عرفنا كثيرا عن ثقافات الشعوب والدول، مثل فرنسا وإيطاليا والهند، وأرجو أن تتبع اليمن والدول العربية نفس النهج، فالسينما ذات سحر خاص.
وعلى أهمية الموضوع والأمانة في الطرح، فقد كنت أود صنع أفلام مليئة بالبهجة والجمال، لإظهار جمال عدن واليمن عموما، لكن الظروف الحالية تتطلب منا توثيق اللحظة كما هي، هذه الأفلام ستصبح وثيقة مهمة وثمينة للأجيال القادمة، ليشاهدوا كيف كان الناس يعيشون.
يأتي “المرهقون” بعد فيلمك الأول “عشرة أيام قبل الزفة”، هذا العنوان أحال ذاكرتي إلى فيلم “أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة” للمخرجة اليمنية خديجة السلامي، فهل من تقارب بين الفيلمين، أم أنهما يتناولان قضايا مختلفة تماما؟
بل هما بعيدان كل البعد عن بعضهما، فيلم “عشرة أيام قبل الزفة” أراه نسخة كوميدية ساخرة، أما “المرهقون” فيمثل النسخة الحزينة، ومَن شاهد الفيلمين يستطيع أن يلاحظ أنهما يسردان قصتين متوازيتين بلغة سينمائية مختلفة، الأولى مبهجة والأخرى مليئة بالألم.
بعضهم يرى فيلم “المرهقون” تكملة لـ”عشرة أيام قبل الزفة”، والحق أن الفيلم الأقدم يحكي قصة عروسين كان يفترض أن يتزوجا قبل الحرب في 2015، وبعدها بثلاث سنوات وبعد إنفاق مدخراتهما، بدؤوا يستعدون مرة أخرى لإتمام الزواج بعد 10 أيام، قبل هذه المدة تقع مشكلة أساسا هي من تبعات الحرب، فتليها مجموعة من المشاكل تتوارد تلقائيا.
مثلا في فيلم “المرهقون” نتابع قصة أحمد وإسراء، ونرى هل سيجهضون أم لا، أما في “عشرة أيام قبل الزفة” فنتابع الشخصيات لمعرفة هل ينجح الزواج أم لا، وهو أيضا توثيق لمرحلة زمنية معينة، وتوثيق لموسيقانا القديمة وتفاصيل المدينة.
في البداية، لم يكن مخططا لهذا العمل أن يكون فيلما سينمائيا، بل مسلسلا تلفزيونيا، ولكن تخلي المنتج عن الفكرة من دون رد أو تبرير قد حال دون تنفيذها وطرحها تلفزيونيا، إضافة إلى ظروف أخرى.
بعدها طلب مني صديقي محسن الخليفي -منتج الفيلمين- تحويله إلى فيلم سينمائي، ولم أرحب بالفكرة كثيرا في البداية، بل قلت له هل يمكن أن ننتج فيلما سينمائيا في هذه الظروف، ونحن لم نقدم عليها حين كانت أوضاعنا أحسن؟
وقد جعلني رده أفكر جديا في الموضوع، فقد قال لي: لقد حققتَ المستحيل، عندما أسست والشباب “فرقة خليج عدن المسرحية”، وأعدتم المسرح مع أن كان قد اختفى ودمرت بنيته التحتية بعد حرب 1994، فما يمنعك من تكرار التجربة بعد حرب 2015؟
لقد حركني كلامه، فوافقت وبدأنا نعرض الفكرة على الزملاء والممثلين بالفرقة، وكانوا متحمسين للمشروع، أحيانا أقول إن الظروف القاسية وانعدام المستقبل والتخطيط يجعلك أكثر شجاعة، فليس لديك ما تخسره، فتشجع الجميع، لا سيما أنه كان أول عمل يصور في الشارع بعد الحرب.
وعندما أصبح الفيلم جاهزا بدأنا نبحث عن مكان لعرضه، ولم تكن لدينا قاعات سينما، فقد أغلقت كل الصالات بعد حرب 1994 ودمرت، ولم نجد سوى قاعتي أعراس هما الوحيدتان في عدن، فاستأجرناهما وبنينا شاشات خشبية، واشترينا المعدات اللازمة للعرض، وقد كلفنا ذلك 30 ألف دولار، جمعناها من رعاتنا والمعلنين لدينا في المسرح.
في اليوم الأول كان الحضور متواضعا جدا، فأصابني اكتئاب، لكن في المساء حصل تفاعل إيجابي وكبير على مواقع التواصل الاجتماعي، فبدأت القاعات تمتلئ يوما بعد يوم بالجماهير، واستمر عرض الفيلم 8 أشهر، وبعنا أكثر من 70 ألف تذكرة.
فتح لنا هذا النجاح غير المتوقع أبوابا كثيرة، وعزز حضورنا في مهرجانات كثيرة، وبهذه التجربة تعلمنا كثيرا من التفاصيل والتقنيات.
فعندما جاء الدور على فيلم “المرهقون” كنا أكثر نضجا، والآن ونحن نتحضر لمشروعنا الثالث، نشعر بأننا أصبحنا أكثر خبرة ونضجا في إدارة المشاريع السينمائية، لا سيما ما يتعلق بالجانب التقني.
بالحديث عن الجانب التقني، هل تضمن فريق “المرهقون” كفاءات يمنية ينسب إليها هذا النجاح أيضا؟
في اليمن كثير من الشباب الطموح، لكنهم مع الأسف يفتقرون للخبرة اللازمة، الفرصة الوحيدة التي لديهم لاكتساب الخبرة هي هذه الإنتاجات الفنية على قلتها، غير أن هذه التجارب لا تؤهلهم للعمل على فيلم ينافس عالميا، ليس لأنهم عاجزون عن ذلك، بل لأن التفاصيل التقنية تحتاج وعيا عميقا وخبرة أكبر، حتى أنا أحتاج إلى متمرس ليعلمني المزيد.
جلبنا مدير التصوير الهندي “مرنال ديساي”، وهو من أبرز المصورين في العالم، وله أفلام رشحت للأوسكار، وفازت في مهرجانات كبيرة مثل البندقية، وحين جاء كان معطاء للغاية، وعلّم الطاقم والشباب الكثير.
كما حرصنا على أن يكون مع الزملاء من جنسيات أخرى مساعدون شباب من مختلف المحافظات اليمنية، هؤلاء الشباب اليوم نال بعضهم منحا، والبعض الآخر لديه أفلامه المستقلة واتجهوا بها إلى مهرجانات.
الأمر يتعدى الموهبة المجردة، فهو فهم عميق لأسباب اختيار الزوايا واللقطات، وتفاصيل تتأتى بالدراسة والممارسة المستمرة مع الوقت، والاحتكاك بمن هم أكثر منا خبرة في الميدان.
هل لاحظت بوادر التغيير بعد وصول أفلامك للأوسكار وحصولها على جوائز مهمة في مهرجانات مرموقة، وأن الاستثمار في شباب يمني بدأ يصنع أفلاما مستقلة؟ هل هناك تحرك لدعم قطاع السينما وإيلاء أهمية أكبر للفنون لا سيما على المستوى الرسمي؟
لا يحدث التطور من دون اهتمام البلد أو الحكومة بالسينما والفنون، فإذا كانت الحكومة منغلقة لا تقدر الفن، فلن يتغير شيء على أرض الواقع، لكن عندما نساهم في جعل اسم اليمن يتردد في الفعاليات والمهرجانات الدولية، ونرى مقالات وشخصيات تتحدث عن السينما اليمنية، يبدأ الناس بالاهتمام، فحتى التاجر الذي يمتلك حسا وطنيا يصبح مهتما، ويصبح مفهوم الفيلم والسينما جزءا من الواقع.
هذا النجاح الذي حققناه في المسرح وبفيلم “المرهقون” جعل الجميع يرغب في دعمنا، الوضع لم يكن كذلك من قبل، يشعرك هذا التحول أن بعض الأشياء قد تغيرت، كما أن كلمة “إنتاج فيلم” لم تعد غريبة اليوم، وهذا مما يساعدنا على تحسين المستقبل مع نجاحات وإنجاز أفلام أخرى.
هل سيؤسس فيلمك الجديد إلى ثلاثية عمرو جمال؟
نفكر الآن بمشروع سينمائي جديد، وقد بدأت في كتابة الخطوط العريضة لفيلمي الثالث، فكما تعلمين فالكتابة هي أصعب شيء، ولا يمكنك التأكد من أن النص الذي تعمل عليه سينفذ، إلى أن يكتمل ويدخل المراحل التي تلي الكتابة.
فمثلا المخرج “كوينتن تارانتينو” -وهو أحد أكبر السينمائيين في العالم- قد تراجع عن فيلمه الجديد، بعد أن بلغ مراحل متقدمة.
حاليا أتلمس الطريق وأحاول التوثيق لأشياء قد تفقد وتتسرب من بين أيدينا إذا لم نوثقها، ما أستطيع تأكيده أن كل الاختيارات والأفلام التي أقدمها بينها قاسم مشترك، ألا وهو استكمال مشروع التوثيق.
ففي كل مرة لدي هدف أوثقه، سواء كان مباني أو موسيقى أو شعرا أو فنونا، لن يبتعد الأمر عن هذا الهدف، ولكن طريقة التصوير وأسلوب العمل لم أحدده بعد، أحيانا أتخيله مختلفا، وأحيانا أخرى أتصوره بنفس النسق الذي جاءت به أفلامي السابقة.