هادي زكاك.. مخرج يستنطق أطلال السينما التي تعكس مآسي لبنان
أماكن قليلة في العالم، يمكن أن تتحمّل كل هذا الكم من الحب والحرب الذي تحكيه قصصها الداخلية.
وعلى رأس تلك البلاد لبنان المحمّلة سينمائيا بكثير من قصص الحب، تُحكى من خلال الحرب المستمرة على مدار عشرات السنوات، وقد بدأت في 1975 حربا أهلية، ولم تتوقف حتى الآن إلا في أوقات مستقطعة قصيرة.
بل إنه على مدار نحو ربع قرن، تشكلت علاقة العرب خصوصا والعالم عموما بالسينما اللبنانية، بوصفها في الغالب مساحة تعبير مثالية عن المأساة الكبيرة، التي يعايشها اللبنانيون، من الحروب الأهلية وغيرها، ثم تدخلات إسرائيل وإيران وغيرهم.
كل ذلك يتحمله الشعب اللبناني، ثم يعيد الفنان صياغته سينمائيا في قصص شديدة التأثير. ومثلما استفادت روسيا أدبيا من حروبها الطويلة، فقد استفادت لبنان سينمائيا منها، وربما هذا هو ما يبرزه عمل المخرج اللبناني هادي زكاك في فيلم “سيلما”، الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية.
عُرض الفيلم مؤخرا في الدورة السابعة من مهرجان الجونة السينمائي، وكان مقررا عرضه ضمن فعاليات مهرجان القاهرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، لكنها ألغيت بسبب الحرب على غزة، التي دخلت عامها الثاني الآن.
فلسطين ولبنان.. بلدان يتخذان من المأساة قصصا ملهمة
شهد المهرجان عرض 83 فيلما من العالم، ومن أغلب الدول العربية، ربما باستثناء العراق والسعودية.
كان من أفلام المسابقة الوثائقية وخارجها عدد من الأفلام السينمائية اللبنانية، تدور في رحى الحرب بوجهات نظر مختلفة، تماما مثل وضع الأعمال الفنية التي وُجدت عن فلسطين.
يحمل البَلدان كلاهما أعواما ثقيلة من الصراع، استغلته السينما الروائية والوثائقية لسرد حكاية البلد كلها. ومنها فيلم “سيلما”، وهو أحدث أفلام المخرج اللبناني هادي زكاك.
يبدو الفيلم معرضا بصريا فوتوغرافيا لكتاب صدر قبل سنوات قليلة؛ وهو كتاب “العرض الأخير.. سيرة سينما طرابلس”. وكلاهما بحث يمتد سنوات عدة في محاولة لاستعادة السيرة الذاتية لـ”سيلما”، أو السينما كما عُرفت في طرابلس لبنان.
يحدث ذلك في الفيلم عبر 40 صوتا لأناس مختلفين، وأكثر من ألف صورة توثِّق أثر الأماكن والذاكرة الجماعية.
تعود فكرة الكتاب إلى ما بعد انتهاء الحرب الأهلية، عندما احتُلّت صالات السينما في بيروت، وقد كان المخرج يبحث عما بقي من صالات سينمائية، تمكنه من أرشفة التاريخ الفني اللبناني.
هادي زكاك.. مخرج لبناني ذو تاريخ طويل
في عام 2014، طلبت صحفية ألمانية فرنسية من هادي زكاك مرافقتها في جولة في دور السينما بطرابلس، فاكتشف كثيرا من الصالات السينمائية المغلقة، التي تمتد من ساحة التل وسط المدينة إلى باب التبانة وساحة النجمة، وصولا إلى الميناء.
فكر هادي في إعادة تركيب مسار المدينة، من خلال تتبع تاريخ صالات السينما فيها، وخلال ذلك كانت بعض الصالات تُهدم، فقرر تصوير المشروع.
وقد قال لاحقا إن البحث المكتوب أوسع كثيرا من اللقطات التي اختارها للفيلم، لكن كلاهما يحوي وثائق مهمة لحفظ التاريخ اللبناني.
هادي زكّاك مخرج لبناني، وأستاذ باحث في معهد المسرح السمعي البصري التصويري والدراسات السينمائية بجامعة القدّيس يوسف منذ عام 1988، وقد أخرج أكثر من 20 فيلما.
التقت الجزيرة الوثائقية معه على خلفية عرض فيلمه في الجونة، وفتحت معه حوارا طويلا حوله وحول أعماله الوثائقية الأخرى، وسينما الحرب في لبنان بشكل أوسع وأكثر رحابة.
تجربة سينمائية تلتزم بمواضيعها المركزية
أهم ملاحظة في فيلم “سيلما” هي التجريبية المفرطة هذه المرة، وهو أسلوب مختلف عن أسلوب هادي زكاك المعتاد.
فقد كان في أفلامه يتعمّد الثبات في مكان واحد، كما فعل في فيلم “يا عمري” (2016)، وقد وثّق فيه حياة جدته التي تخطت 100 عام. وكذلك فعل في فيلمه الأول “درس في التاريخ” (2009)، فكان يحصر عدسته في داخل المدرسة، ولا يكاد يخرج منها.
بل إنه في أفلام مثل “أصداء سنية من لبنان” (2008) يتناول التحولات التي طرأت على الطائفة السنية في لبنان، من خلال تسليط الضوء على 4 أفراد؛ وهم: إيناس تميم المنتمية لتيار المستقبل، وباسم حمودة المنتمي لفكر الجماعة الاسلامية في طرابلس، وجمال الغرابي صاحب فكر التنظيم الشعبي الناصري في صيدا، وخالد صبيح ذو الموسيقى الملتزمة بالقضايا العربية.
وكذلك فيلم “كمال جنبلاط.. الشاهد والشهادة” (2015)، فهو يوثق فيه شخصية وطنية قدمت برنامجا نهضويا في تاريخ لبنان، ويتناول ذلك بالحديث عن كمال جنبلاط شهيد الحرية، والتمرد على العنف، والاستبداد.
أما فيلم “مرسيدس” (2010) فيدور حول سيارة من مرسيدس “بونتون 180″، وصلت إلى لبنان عام 1960، وأصبحت جزءا من المجتمع اللبناني واهتماماته، مما جعلها شاهدة على 50 عاما من تاريخ البلد.
وقد كان هادي زكاك في جميع تلك الأفلام يحصر المشاهد في قلب الشخصية نفسها، ولا يبعد خارجها، أما فيلمه الأخير “سيلَما”، فقد قرر فيه زيادة الفقر البصري في العمل، وتقديم الفيلم من خلال عدد من الصور فقط.
تاريخ دُور السينما.. قصص ترويها أجيال شتى من طرابلس
يوثق الفيلم دُور السينما في طرابلس، من بداية وجودها حتى آخر ما بقي منها الآن، ويعبر من خلال أجيال مختلفة عن مشاعرهم وقت عروض الأفلام في أزمنة مختلفة.
فهو وثيقة فوتوغرافية، يحكي على خلفيتها لبنانيون من أعمار شتى قصص دور السينما وتاريخها في الداخل، وكأنهم جميعا صوت واحد، يحكي أثرا مهدوما من المدينة يحتاج أن يثبّت لتأمله.
ومثل كل مشروعات الرجل، لا يخلو الفيلم من مرور عابر ومدقّق على تاريخ البلد، من البداية حتى اللحظة الحالية، وهي لا تبدو استثناء مع أنها ذات خطورة مفرطة.
يقول زكاك للجزيرة الوثائقية: السينما الوثائقية أساسا هي سينما الفقير، فهي بالمعايير الاقتصادية تشبه اقتصاد لبنان المنهار أساسا، فأنا أشعر أن هناك جمودا وزمنا معلّقا، فكان القرار أن يخرج الفيلم فوتوغرافيا. ومع أنه كان تحديا كبيرا وخطرا، فإنني أرى ذلك المكان المنفرد مكانا مصغّرا يمثّل تعبيرا عن الفضاء العام الواسع. يمثّل هذا العالم -سواء في الشخص أو المكان- تعبيرا كافيا عن الأشياء التي أحاول أن أقولها في كل فيلم.
“كان الأفضل لي هذه المرة التحرر من الأشياء الصناعية”
يبدو أن المعضلة وراء تلك الاختيارات الفنية نفسها، هي محاولة حصر الجمهور الذي يتوقع أن يشاهد الفيلم -سواء أعجبه أو لا- في أناس بعينهم.
ويبرر زكاك هذا الأمر بأنه عندما يقرر العمل على فيلم، فإنه يفكر أولا قبل أي شيء في الجمهور المحلي الداخلي، الذي يصنع هذا الفيلم من أجله.
يبدو ذلك هو المحرك الأول للرجل، ثم الجمهور الآخر العربي، ثم العالمي، ويقول: الفيلم الوثائقي نفسه مرتبط بمعاييرك ذاتها، فمع اختبار الأشكال المختلفة لخروج الأفلام، فقد كان الأفضل لي هذه المرة التحرر من الأشياء الصناعية، التي تبدو أحيانا في شكل تصوير الفيديو عن الفوتوغرافيا.
ويمكن إرجاع هذا الاختيار إلى الاستسهال أيضا، فالصورة لا تحتاج للترتيبات التي يحتاجها التوثيق بالفيديو، لكن لا يبدو هذا السبب وجيها بالنظر إلى المجهود البحثي الكبير، الذي يظهر بمجرد النظر إلى كل السنوات التي فّرغ فيها وقته للمشروع.
أما على المستوى الجمالي، فقد يبدو الاختيار الفوتوغرافي غير مستهجن تماما؛ فإذا كانت السينما ذاتها متحركة فإن دور السينما التي يوثق زكاك تاريخها وهدمها ثابتة توقفت عن الحركة.
“السينما الوثائقية سينما سياسية بامتياز”
عموما لا يبدو الاختيار الفوتوغرافي للفيلم اختراعا جديدا عمل عليه الرجل، فهو موجود منذ عمل الناقد والمخرج الفرنسي “كريس ماركر” في فيلمه الرائد “الرصيف” (La Jetée) عام 1962، وبعده الكثير.
تتخيل هذه الأعمال عالما ثابتا مدمّرا، وعلى المُشاهد تأمل ثباته، وهو انتقام بصري من الجمود بإعادة اختراعه. ويظهر هذا الأمر الجانب السياسي المؤسس في فكرة الفيلم وصناعته كذلك.
يقول زكاك: السينما الوثائقية سينما سياسية بامتياز، وتأتي مشروعيتها بلبنان أيضا -في المساحة المتباينة والمختلفة- في النظر إلى التاريخ غير المتفق عليه، لذلك تؤدي السينما هنا دورا تفكيكيا يفتح نقاشا بين الحاضر والماضي في بلد مثل لبنان.
وهو يرى أن السينمائي الوثائقي تتجاوز نظرته تسجيل ما يراه، لأن اختياراته تضع أمام المُشاهد وجهة نظر أو مفاتيح، لاتخاذ موقف أو موقف مواجه. وأن الحروب تثبت أنها تبقى وسيلة للتساؤل، واستيعاب الأحداث جيدا للحكم عليها.
وثيقة تلامس جمهورا متشبعا بالسينما العربية
فيلم “سيلَما” وثيقة مهمة في رحلة لبنان السينمائية والسياسية، ولم يكن الاختيار الفوتوغرافي وسيطها المثالي، لا سيما مع إيقاع المونتاج الثابت طوال الفيلم، وندرة التدخلات الموسيقية، التي قد تضيف بعض الحيوية اللازمة، لاستقبال كل تلك الحكاية ثقيلة الأثر.
لكنه مع كل ذلك قرار جريء وواعٍ وتجريبي سينمائيا، ويمكن البناء عليه والتعلّم منه.
يظل جوهر الخطاب الذي يطرحه الفيلم بعد بروزة كل الحب والحرب اللذين يملآن لبنان هو سؤال: ما الذي يقدمه صانع السينما الحديث عن تاريخ لبنان؟ هذا البلد الذي أصبح أستوديو مفتوحا للحرب. فمن ذا الذي لديه نظرة جديدة أو طرح مختلف أو توثيق استثنائي لما يحدث فيه؟
حين طرحنا هذا السؤال على هادي زكاك، وجدنا أنه يفكر في الأمر ذاته، لكنه لا يجد إجابة آنية عليه.
في النهاية يبدو فيلم “سيلَما” محطة أخرى، لتخيل واقع لبنان لولا الحرب. وإذا كان هناك استثناء فهو النظر هذه المرة بشكل مختلف، ليس من خلال السينما، بل من دور السينما نفسها التي دمرتها الحروب المتتالية.
فقد تشبّع الجمهور اللبناني من السينما المصرية القديمة والعربية، ولم تسعفه الظروف لصناعة سينما موازية بسبب الحرب. وإذا كانت الأفلام التي تجسد الحرب لا تقدم جديدا، فإن الفيلم يطرح ذلك عكسيا، ويجعل السينما نفسها ضحية الحرب كذلك.
بواكير السينما.. تاريخ طويل من اقتحام السياسة
يظهر المرور على السينما اللبنانية مدى تمحور السينما حول الحرب، وليس ذلك فقط في حصر الأفلام التي خرجت في السنوات الماضية، التي تُبرز الحرب في قصص روائية مذهلة.
فقد أسّست السينما اللبنانية خطابها مع الجيل الأول من عام 1975 حتى أوائل التسعينيات، ثم بدأت مرحلة تالية إلى 2005، سنة اغتيال الحريري.
بعد ذلك، ظهر الجيل الأكثر إنتاجا وزخما للحديث عن الحرب، ومنه مخرجون مثل مارون بغدادي، وجاد شمعون، وبرهان علوية، وجوسلين صعب، ورندا الشهال وغيرهم، وقد قدموا أجمعين خطابا سينمائيا يمكن لمسه، لا سيما مع كاميرا المخرج المؤسس جاد شمعون، مدرس السينما اللبناني منذ 1976 حتى 1983.
درس جاد شمعون السينما في العاصمة الفرنسية، ثم عاد إلى بيروت فوجدها مقبلة على حرب أهلية، ويمكن أن نقول إن عالمه الذي لاقاه قد فرض عليه نوعا لا يُحسد عليه، من التصورات ومحاولات التوثيق المتنوعة.
شاهدنا السينما اللبنانية التي تحكي المأساة في عالم المخرج مارون بغدادي، في عدة أفلام منها “خارج الحياة” (1991)، و”لبنان بلد العسل والبخور” (1987)، و”حروب صغيرة” (1982) الساخر المبكي، الذي يحكي قصة 3 شباب ممثلين من جيل عاش عشرينياته في الحرب، وخاض تحولات كبرى.
وهناك أفلام منها فيلم “الإعصار” لسمير حبشي (1992)، و”بيروت الغربية” لزياد الدوير (1998) و”أشباح بيروت” للمخرج غسان سلهب (1998)، وهو أحد أنضج السينمائيين اللبنانيين على الإطلاق.
ففي كل ذلك باتت لبنان “تتحول إلى أستوديو طبيعي لتصوير أفلام الحرب”، على حد تعبير المخرج هادي زكاك.
صرخة فنية من لبنان إلى العالم
اختار المخرج هادي زكاك أن يخفي هوية المتحدثين في فيلم “سيلَما”، ويجعلهم جميعا صوت لبنان المجهول، مثلما اختار من قبل في فيلمه “درس في التاريخ” أن يبدأ الفيلم من النشيد الوطني وتحية العلم ثم القرآن في إذاعة مدرسية.
يطرح الفيلم قضية عن التاريخ، وتوحيد مادة التاريخ في المدارس؛ التاريخ الحائر بين المسلمين والمسيحيين في البلد.
وفي فيلم “كمال جنبلاط” اختار أن تكون المقابلات مع الابن وهو واقف، ويعني ذلك صناعة توتر شديد للمُشاهد، فقد أصبح عليه أن يشعر بالخطر، لأنه ليس مجرد فيلم، بل تاريخ يعيد نفسه في شكل صراعات مستمرة، وعلى المشاهد أن يكون جزءا من سياسة دولته.
وفي نهاية الفيلم ينقل كلمات جنبلاط: نحلم أن تكون هذه الدولة دولة مدنية، ونحلم بسياسيين ورجال دولة هدفهم الوحيد تنظيم هذه الدولة لا تفكيك عرى انتظامها، وتطبيق مبادئ العدالة. وهذه الأشياء التي تجعل لبنان وطنا لا دكانا على شاطئ البحر. وعلى الأجيال التالية أن تمتطي سلم الحرية على دمائنا، وجروحنا الكثيرة المبعثرة.
هذا الجزء الخطابي المباشر يتطور في “سيلما” إلى موسيقى جنائزية حميمة، تودّع دور السينما بوصفها مقابر مهدّمة. تتأملها لتتساءل عن حل، وعن كل ذلك الدمار الذي لا يبدو أنه سينتهي قريبا.
“سيلَما” صرخة فنية قُدّمت في مهرجان الجونة السينمائي، لإثبات الوجود اللبناني، وتسجيل الخراب الذي يحل بها فنيا وحياتيا.
إنه غضب عربي يُضاف إلى أفلام من بلاد أخرى، تعبّر سينماها الوثائقية عن غضب شبيه؛ في فلسطين وليبيا وسوريا واليمن والسودان، ولا يبدو أننا سنغلق القوس قريبا.