“متفائل ببناء جيل قادر على التميز”.. مؤسس مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي يتحدث للوثائقية

محمد المصطفى البان

يحاول مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي إحداث حراك سينمائي في البلد، وقد تجاوز شبح التعثر الذي طال مهرجانات اختفت بعد تعود الجمهور عليها، وذلك من خلال سياسة مدروسة تقوم على توفير تكوين جيد ومستمر للسينمائيين الشباب، وتراهن على نوعية الأفلام المعروضة وجودتها، وتستثمر سنويا في البرامج المبتكرة لخلق سوق إنتاج.

مع تنظيم النسخة الثانية من مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي، أُدرج ضمن قائمة الاتحاد الدولي للمهرجانات السينمائية العربية، واستطاع في ظرف قصير إبرام 4 اتفاقيات مع مهرجانات دولية، وتلك خطوة تعزز حضور الأفلام الموريتانية على المستوى الدولي، وتسهم في خروج موضوعاتها من بيتها وبيئتها، وما أكثر المواضيع التي لم تلتقطها بعد كاميرا السينمائيين الموريتانيين.

يسعى المهرجان إلى تنظيم نسخة ثانية، لاستقطاب أسماء سينمائية مهمة، ولفت انتباهها إلى التنوع الثقافي للبلد، ودعوتها لتصوير أعمالها في موريتانيا، التي تتوفر فيها طبيعة مساعدة، وتسهيلات حكومية مشجعة على ذلك، لتحقيق التقارب بين السينمائيين وتعزيز فرص التعاون.

أجرت الجزيرة الوثائقية حوارا مطولا مع المخرج الموريتاني محمد المصطفى البان، وهو مؤسس ومدير مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي، وسنتعرف فيه على أهم ما يميز المهرجان، وتطلعاته المستقبلية، وخطته لجعل السينما ثقافة متجذرة في المجتمع الموريتاني.

ما الذي دفعكم لإطلاق مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي في هذا الوقت تحديدا، مع التحديات التي واجهتها المهرجانات السابقة وحالت دون استمراريتها؟

كانت فكرة تأسيس مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي وليدة الحاجة لمواجهة الركود الثقافي، الذي أصاب العاصمة نواكشوط، وأثّر على سينمائييها الذين كانوا ذوي شغف وحماس كبيرين لصناعة الأفلام والمشاركة بها في مهرجانات سينمائية دولية، ولكن الساحة الثقافية أقفرت من التظاهرات السينمائية، لا سيما بعد توقف المهرجان الدولي للفيلم القصير.

لهذا قررنا إطلاق مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي، بهدف خلق حراك سينمائي جديد في نواكشوط وموريتانيا عموما، وحرصنا على توزيع نشاطات المهرجان وورشاته على شتى المحافظات والمدن، بهدف تكوين السينمائيين الشباب، وإنتاج أفلام قصيرة تتيح لهم المشاركة بها في المهرجانات الدولية، وترك بصمة مميزة، تعكس استمرار الإنتاج السينمائي الموريتاني بموضوعات متميزة.

محمد المصطفى البان، مؤسس ومدير مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي

من خلال تأسيس المهرجان، عملنا على خلق اتحاد يضم سينمائيي موريتانيا، مع إيماننا الكبير بأهمية المهرجانات السينمائية لكل بلد، لا سيما في المجتمعات التي تنتج الثقافة.

فالسينما تمثل جزءا هاما من النشاط الثقافي، ومع ما يواجهنا من تحديات وإكراهات وعدم إيمان بعض الناس بهذا الجهد، فإننا -معشر صناع الأفلام وأهل القطاع- نؤمن بضرورة إطلاق التظاهرات السينمائية، سواء كانت مهرجانات، أو ورشات تدريبية، أو إنتاج أفلام، لتلبية احتياجات الشعب الثقافية.

في نظركم، ما هي التحديات التي تواجه استمرارية مهرجانات السينما في موريتانيا؟ ألم تشكل لكم هذه النقطة تخوفا عندما قررتم تأسيس مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي؟

قبل ميلاد مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي، لم تكن لدينا مهرجانات سينمائية كثيرة، باستثناء مهرجان أمم لحقوق الإنسان، ومهرجان نواكشوط الدولي للفيلم القصير، الذي توقف عام 2019.

نعم كان لدينا تخوف كبير من عدم استمرارية المهرجانات السينمائية والتظاهرات الثقافية في موريتانيا عموما، والسبب يعود إلى عدم وجود رعاة وشركاء ومرافقين لهذه المشاريع، لكنني وأنا أكتب مشروع المهرجان لم أطلقه إلا حين تأكدت من وجود راع رسمي واحد على الأقل، يستمر معنا زمنا طويلا، إلى أن نجد من يكمل معنا المسار، ويؤمن بفكرتنا، ويكون لنا سند في المستقبل.

ماستر كلاس في مهرجان نواكشوط

ففي النسخة الأولى من المهرجان عام 2023، كان لدينا راعٍ رسمي واحد، ألا وهو جهة نواكشوط التي لم تدخر جهدا في دعم المهرجان، وفي النسخة الثانية انضم إلينا راعٍ آخر، وهو وزارة الثقافة والفنون والاتصال والعلاقات مع البرلمان، وهذا ما توقعته واشتغلت على أساسه، ولذلك أتوقع أن يزداد عدد المؤمنين بالفكرة والداعمين للمهرجان عاما بعد عام، وأن ينضم إلينا شركاء جدد.

بناء على ذلك، أنا شبه واثق من استقرار المهرجان، إذا واصلنا العمل على هذا النحو، كما أن الفريق الذي يقف خلف المهرجان فريق مؤمن جدا بالمشروع، نحن لا نسعى لتحقيق الربح، بل نعمل من أجل جمهور موريتانيا وسينمائييها.

ما خطتكم لضمان استمرار تنظيم المهرجان سنويا بانتظام؟ وإلى أي مدى يعد دعم الدولة مهما لتحقيق هذا الهدف؟

وضعنا خططا تستند إلى تحليل دقيق للواقع الثقافي في موريتانيا، مع التركيز على متطلبات المشهد الثقافي وأهمية العنصر البشري، وهذه التحليلات والدراسات الميدانية مكنتنا من وضع خطة لضمان استمرارية مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي، بوصفه محفلا ثقافيا مهما.

هدفنا الأساسي تحقيق استدامة هذا الحدث، بتمكين الطاقات البشرية الشغوفة بالثقافة والفنون، وضمان استمرار البرامج التدريبية للشباب الموريتاني، ونسعى أيضا لتمكين داعمي الثقافة، ليكونوا جزءا أساسيا من هذه التظاهرات.

الدكتور أحمد حبيبي في ندوة الصناعة الثقافية في موريتانيا

أما التمويل، فقد وضعنا له خطة تعتمد على الدعم الحكومي ودعم جهة نواكشوط، فبيننا تفاهم وعقد أخلاقي يضمن استمرارية المهرجان على المدى المتوسط. ثم إننا نعمل على تطوير هذه الخطط، والبحث عن شركاء جدد، لضمان استمرارية المهرجان على المدى الطويل.

واستنادا على بعض المؤشرات المتاحة لنا، فإننا واثقون من استمرار المهرجان، بفضل طموحنا الكبير وعزيمتنا لتحقيق هذا الهدف، ونعمل جميعا على جعله موعدا سنويا مهما، لكل السينمائيين الذين سيشاركون في الطبعات القادمة، لا لجمهور موريتانيا فقط.

لاحظنا في الدورتين الأوليين أن الأفلام المعروضة حديثة ومميزة على أكثر من مستوى، فما المعايير التي تعتمدونها لاختيارها؟

لدينا نهج خاص في اختيار الأفلام. في البداية نبدأ بإطلاق استمارة المشاركة قبل موعد المهرجان بثلاثة أشهر أو أكثر، كما هو معمول به في كل المهرجانات، مما يتيح لنا استقبال أفلام من عدة دول، في صنف الفيلم الروائي الطويل، والقصير، والوثائقي.

ثم تجتمع بعد ذلك لجنة الانتقاء والبرمجة، لاختيار أفلام الدورة، بناء على معيارين أساسيين:

  • المعيار الأول فني بحت، يتضمن تقييم السيناريو، والإخراج، والفكرة، وعناصر فنية أخرى.
  • المعيار الثاني يركز على نوعية الأفلام التي تتماشى مع ثقافة البلد، نظرا لطبيعة المجتمع الموريتاني المحافظ، فنحرص على اختيار أفلام تعكس ثقافتنا وتتماشى مع أعرافنا، ونتجنب الأفلام ذات الأبعاد السياسية، أو التي تتضمن مشاهد خادشة.
المعلومة بنت الميداح تتوسط مدير المهرجان والمخرج عبد الرحمن سيساكو

فنحن ندرك أن الفرد الموريتاني العادي لا ينظر للسينما بنفس النظرة التي ينظر بها السينمائي، نحن نرى الأفلام أعمالا فنية متكاملة، لكن تجب علينا مراعاة التوجهات والاعتبارات الثقافية لجمهورنا، لهذا السبب وضعنا معيارا ثانيا لضمان تقريب فكرة السينما إلى الجمهور، وتحبيبها إليه بدلا من تنفيره منها.

في ظل تداخل مواعيد تنظيم المهرجانات العربية، هل لديكم خطة لتحديد موعد ثابت للمهرجان يتناسب مع الظروف المحلية والدولية؟

لقد تزايدت هذه المعاناة في السنوات الماضية، نتيجة لأحداث عدة، منها جائحة كورونا والحرب على غزة، مما أدى إلى تضارب في مواعيد المهرجانات في المنطقة بأكملها، بما في ذلك مهرجاننا.

فمنذ إطلاق مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي، نحاول جعله يعقد في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، لكن هذه المهمة صعبة قليلا، وأنا أسعى جاهدا للتنسيق مع مديري المهرجانات في منطقتنا العربية، لمحاولة إيجاد خريطة مشتركة، حتى لا تتضارب مواعيد مهرجاناتنا.

المخرج عبد الرحمن سيساكو مع مؤسسي مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية

هدفنا إتاحة الفرصة للسينمائيين، للمشاركة في أكبر عدد ممكن من المهرجانات حسب رغبتهم، ونتطلع لإيجاد حل وسط لهذه المشكلات، وفي موريتانيا استقررنا على وقت معين لعقد المهرجان، لكننا ندرك أن الأمر يحتاج لتعاون وتفاهم بين شتى مهرجانات المنطقة، لتحقيق تنسيق أفضل، وتجنب التضارب.

من البرامج التي استُحدثت في الدورة الثانية من المهرجان “سوق الإنتاج”، هل ستحتفظون بالفكرة في النسخ القادمة وتعززونها ببرامج وأنشطة مبتكرة أخرى لخلق بيئة تعاون وتواصل فعالة؟

نحاول ونسعى كل عام إلى إدراج برامج وفقرات جديدة تعكس رؤيتنا وتطلعاتنا لتطوير المهرجان وتحسينه، وفي هذا العام أطلقنا “سوق الإنتاج” وهو أحد أبرز برامج المهرجان، ويهدف لخلق بيئة تواصل فعالة بين الشركات وصناع الأفلام، مما يتيح لهم فرصة مناقشة مشاريعهم، وعرضها مباشرة بلا وسيط.

بعض الأفلام المتوجة في الدورة الثانية من المهرجان

سيسهم هذا النهج في توفير مناخ ملهم، لتطوير الأفكار ودعم صناعة السينما في موريتانيا، وقد لقيت هذه الخطوة استحسانا كبيرا من قبل المشاركين، ويتوقع أن تمهد الطريق لمزيد من البرامج والأنشطة المبتكرة في الدورات القادمة، فمن خلال هذه المبادرات نسعى لتعزيز التفاعل والتعاون بين جميع الفاعلين في مجال السينما، وتقديم الدعم اللازم لصناع الأفلام لتحقيق طموحاتهم الإبداعية.

نظرا لأهمية السينما بوصفها جزءا من المشروع الثقافي في موريتانيا، هل تنوون رفع توصيات ندوة “الصناعة الثقافية في موريتانيا” إلى الجهات الوصية، لا سيما وقد انتهت بصياغة جملة من التوصيات المهمة، أبرزها تدريس الفنون واعتمادها في المقررات الدراسية، ووضع خطة ثقافية جدية؟

كانت ندوة مهمة ومثمرة جدا، بفضل مشاركة النخب من مثقفين وأدباء وسينمائيين وفاعلين في المجال الثقافي، وقد جاء النقاش صريحا وشاملا، وتناولنا فيه مسائل عدة، تعوق تطور المبادرات الثقافية، وقد حاولنا استعراض المشاكل والتحديات التي تواجهنا، واقتراح بعض الحلول التي نراها مناسبة.

والحق أن هذه المطالب ليست جديدة، بل نجددها كلما سنحت الفرصة، وستُرفع التوصيات التي ناقشناها كافة إلى الجهات المعنية، للنظر فيها ومتابعتها متابعة جدية، بهدف تغيير الواقع وتحسين الفهم لدى الجميع، بشأن أهمية الصناعة الثقافية ودورها في تطور المجتمع.

من المكاسب التي حققها المهرجان في عامه الثاني، إدراجه ضمن قائمة الاتحاد الدولي للمهرجانات السينمائية العربية، وإبرامه اتفاقيات تعاون مع مهرجانات دولية مهمة. كيف سيستفيد سينمائيو موريتانيا والمهرجان من هذا المنجز؟

يرى بعض الناس أن المهرجان ليس إلا مناسبة للترفيه وعرض الأفلام، ولكنني -وأنا صاحب المشروع والمسؤول عنه- أراه حدثا مهما، يشمل التكوين، ويهدف إلى مساعدة الشباب المهتمين بالسينما عموما، ومرافقتهم لتحقيق طموحهم، لذلك فإن الاتفاقيات التي أبرمناها في النسخة الثانية سيكون لها أثر كبير على هؤلاء السينمائيين.

هذه الاتفاقيات ستساعد المهتمين بصناعة الأفلام، بتوفير فرص تكوين، وتعزيز مشاركتهم في المهرجانات السينمائية الدولية، وتمثيل السينما الموريتانية على مستوى العالم، كما أن هذا الأمر سيسهم بلا ريب في توسيع ثقافتهم السينمائية وإدراكهم.

مدير التصوير السويسري “فيليب كوردي” مؤطر ورشة سينما الموبايل

أبرمنا هذه السنة 4 اتفاقيات مهمة، ستفتح آفاقا جديدة للسينمائيين الموريتانيين، وهي:

  • اتفاقية مع مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في مصر.
  • اتفاقية مع مهرجان وجدة للفيلم المغاربي.
  • اتفاقية مع مهرجان “لاس بالماس”.
  • اتفاقية مع مهرجان السينما الشعرية في تونس.

أتطلع إلى أن تخدم مضامين هذه الاتفاقيات سينمائيي موريتانيا خدمة فعالة، وأن تسهم في تعزيز دور السينما في بلدنا، كما أنني متفائل بأن هذه الخطوات ستسهم في بناء جيل جديد من السينمائيين الموريتانيين، لديه قدرة على الإبداع والتميز في الساحة السينمائية الدولية.

بالحديث عن مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، ستكون السينما الموريتانية ضيف شرف الدورة الجديدة التي ستقام ما بين 9-14 يناير/ كانون الثاني 2025. إلى أي مدى تجدون أن هذه الخطوة مهمة لانفتاح السينما الموريتانية أولا على الجمهور الأفريقي، قبل أن تتوجه إلى جمهور أوسع؟

الاتفاقية المبرمة بيننا وبين مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، وحضور موريتانيا ضيف شرف في الدورة الـ14، يشكلان انطلاقة واعدة لاكتشاف السينما الموريتانية، وستكون هذه الفرصة مثالية، لتعريف الجمهور بأفكار مخرجيها وموضوعاتهم وتطلعاتهم أيضا.

المشاركة والمهرجان عموما، يمثلان محطة مهمة لدينا، فسوف نتمكن من عرض تاريخ السينما الموريتانية وبداياتها، والمستقبل الذي نصبو إليه في إحدى الندوات التي ستقام على هامش الدورة الجديدة من مهرجان الأقصر.

المخرج التونسي محمود الجمني

سيعزز المهرجان فهم الجمهور الأفريقي لسينمانا، ويوفر منصة للحوار والتبادل الثقافي مع السينمائيين الأفارقة، وأتوقع أن تفتح هذه الشراكة المجال لتعاونات أكثر مع مهرجانات أخرى في القارة الأفريقية، كما ستكون بداية لتوجيه الإنتاج نحو موريتانيا.

من أهداف مهرجان نواكشوط الكبرى، أن نجعل موريتانيا واجهة للإنتاج السينمائي، مثل ورزازات في المغرب، و6 أكتوبر في مصر، وغيرها من مدن الإنتاج السينمائي في العالم، وبهذه الجهود نسعى لجذب المخرجين والمنتجين، للاستفادة من بيئتنا الفريدة، ومواردنا الطبيعية الغنية، وتنوعنا الثقافي.

أملنا أن تسهم هذه الخطوات في تطوير السينما الموريتانية ودفعها للأمام، وأن تعزز مكانة موريتانيا على الساحة السينمائية الدولية، فنحن متحمسون لرؤية ما يحمله المستقبل لسينما بلدنا، وما يمكن لهذه الشراكات أن تحدث من فرق حقيقي في صناعة الأفلام.

لاحظنا للسنة الثانية على التوالي إقبالا كبيرا من السينمائيين الشباب على الورشات التكوينية والماستر كلاس التي قدمها سينمائيون بارزون مثل المخرج التونسي محمود الجمني، ومدير التصوير السويسري “فيليب كوردي” وآخرون، كيف يمكن دعم الجانب التكويني بشكل متواصل لتمكين الشباب من تطوير أدائهم؟

الشباب متعطش لكل ما يتعلق بعالم السينما، لا سيما في مجالات الكتابة والإخراج والتخصصات السينمائية الأخرى، ونحن نحاول جاهدين أن نوفر لهم فرص تكوين وتأطير جيد، لأن التكوين هو الحلقة الأهم وأكثر ما يحتاجه السينمائي الشاب.

أقول هذا من موقعي رئيسا لمصلحة التكوين بالمعهد الوطني للفنون، إضافة إلى كوني مخرجا سينمائيا وتلفزيونيا ومدير مهرجان؛ إن أي خدمة تقدمها لهؤلاء الشباب لن تعادل أهمية تأطيرهم في مجالهم المفضل، والشغف الذي يحملونه تجاه السينما، لذا أسعى دائما لإقامة شراكات تُسفر عن برامج تكوين، أو اتفاقيات تفتح آفاقا جديدة في مجالات السينما المتنوعة.

ماستر كلاس مع المخرج التونسي محمود الجمني

كما أننا نؤمن بأن هذه الجهود تُسهم في بناء جيل من السينمائيين، لديهم المهارات والمعرفة اللازمة لتحقيق أحلامهم، ثم الإسهام في إثراء السينما الموريتانية، وتقديمها للعالم تقديما مشرفا.

كما أننا بهذه الشراكات والبرامج التكوينية، نطمح لتقديم دعم ملموس للشباب، وإعطائهم الفرص لتطوير مواهبهم والارتقاء بمهاراتهم، ثم خلق بيئة سينمائية حيوية ومبدعة في موريتانيا.

يتميز المهرجان أيضا بإقامة ورشات خارج العاصمة نواكشوط قبل بدء الفعاليات الرسمية بأشهر، كيف تسهم هذه الخطوة في نشر ثقافة السينما خارج العاصمة؟ وهل من مؤسسات تدعم المشاركين لإنجاز أفلامهم؟

ندافع كثيرا عن فكرة عدم مركزية النشاطات، وهذا النهج هو الذي نعمل وفقه ونؤمن به بشدة، فخلال سنوات كثيرة كانت جهات تنظيم الفعاليات الثقافية تحصر نشاطاتها في العاصمة نواكشوط، مما جعلها تستحوذ على نصيب الأسد من الاهتمام والنشاط، ولكن رؤيتي ورؤية المهرجان تتجه نحو جعل الفائدة والنشاط على نطاق وطني أوسع.

في النسخة الأولى، نظمنا ورشات لكل مقاطعات العاصمة نواكشوط، أما الدورة الثانية فوزعناها على 3 أقطاب؛ ألا وهي القطب الشمالي، والقطب الجنوبي، والقطب الشرقي، وكل قطب يشمل 4 ولايات، وفي كل نسخة سننظم ورشات لأحد هذه الأقطاب، ليستفيد الشباب من دورات تدريبية حول أبجديات السينما وأساسياتها.

مدير المهرجان يتوسط المخرج العالمي عبد الرحمن سيساكو والمخرج السينغالي موسى توري

وفي نهاية كل ورشة، ينجز المشاركون فيلما قصيرا يشارك في مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي، ضمن مسابقة أفلام الورشات. في النسخة الثانية كانت ورشاتنا موجهة لشباب القطب الشمالي (ولايات آدرار، ونواذيبو، وإنشيري، وتيرس زمور)، واستفاد منها 79 شابا، وفاز شباب ولاية آدرار بجائزة أفضل فيلم في هذا الصنف.

نحن نعمل على هذا النهج، لتأكيد أن السينما والفنون حق للجميع، ونهدف إلى خلق بيئة ثقافية حيوية ومبدعة في أنحاء موريتانيا كافة.

يرتكز حديثكم حول التكوين والدعم والاستمرارية، ولكن ماذا عن قاعات السينما؟ ألا يؤثر غيابها على القطاع وعلى المهرجانات التي تقام منذ سنوات في فضاءات مفتوحة، ولكنها تحتاج حتما إلى القاعات بعيدا عن تجربة “سينما الساحات”؟

غياب البنى التحتية الثقافية في موريتانيا، يضيق الخناق على معظم الأنشطة الثقافية والتظاهرات الفنية، سواء كانت عروضا مسرحية، أو قاعات سينما، أو ندوات تحتاج إلى أماكن مجهزة، أو قاعات للموسيقى وأروقة للفنون التشكيلية.

هذا النقص يؤثر سلبا على الحياة الفنية والثقافية عموما، ومع ذلك نشعر ببعض التفاؤل والارتياح نظرا للنهضة الثقافية والسينمائية المتزايدة في نواكشوط وموريتانيا عموما.

ماستر كلاس مع المخرج التونسي محمود الجمني

في المهرجان الذي ننظمه، اخترنا إقامة الفعاليات في فضاء مفتوح، وهي تجربة موجودة عالميا تحت مسمى “سينما في الهواء الطلق”، وهذا النوع من العروض له شعبية خاصة بين الجماهير، فهم يجدون في هذا الأسلوب من العرض راحة وحرية أكبر. ونحن نرى أن هذا تحدٍّ آخر يضاف إلى سلسلة التحديات التي نتعامل معها بجدية.

نحن متفائلون بأن الأمور ستتغير إلى الأفضل في المستقبل، ومن الجيد أن يكون للجمهور ولنا -نحن السينمائيين- مجموعة متنوعة من الخيارات، بين عرض الأفلام في القاعات التقليدية، وفي الفضاءات المفتوحة.

نأمل أن تزيد هذه الجهود وعي المجتمع بأهمية الفنون، وتشجع على تطوير بنية تحتية ثقافية متينة، تلبي احتياجات الجميع.

في زيارتي الثانية لموريتانيا، لاحظت وجود مواضيع مهمة وملهمة لم تلتقطها كاميرا السينمائيين، مع أن كثيرا من الموريتانيين مهتمون بالسينما، سواء صناع الأفلام والجمهور، ما أسباب ذلك برأيكم؟

عند زيارة موريتانيا، يكتشف الزائر أن كثيرا من المواضيع البكر لم تتناول سينمائيا بعد، أؤكد على هذه النقطة في كل مناسبة أتحدث فيها عن موريتانيا وسينما بلدي، فالمواضيع متعددة ومتنوعة، والديكور الطبيعي لا يزال خصبا، ولم يُستغل بالشكل الكافي.

السبب وراء ذلك بسيط، وهو أن موريتانيا دولة حديثة، ونحن في بداية الطريق في مجال السينما، مع كل المحاولات السابقة، صناع الأفلام وكتاب السيناريو والمهتمون بمجال السينما ما زالوا في طور النمو، ولذلك فإن الأدوار التي سيتناولونها مستقبلا ستكون متعددة ومهمة، سواء من خلال الأفلام الوثائقية أو القصيرة أو الطويلة.

سيوظف الديكور الطبيعي الموريتاني من قبل المبدعين المحليين، ومن طرف المنتجين والسينمائيين العالميين أيضا، علينا أن نؤمن بأحلامنا وأفكارنا، وأنا على يقين أنه سيأتي يوم تُصور فيه أفلام عالمية هنا في البيئة والطبيعة الموريتانية، وهذا حتما سيعزز مكانتنا على الساحة السينمائية الدولية، ويجذب الأنظار إلى جمالية بلدنا الطبيعي والثقافي وثرائه.

كان لنشاطك المستمر في مجال السينما والتلفزيون منذ عودتك إلى موريتانيا -ولا سيما إخراجك لمسلسلي “ربيع العمر” و”الإخوة” في 2024- أثر كبير على الجمهور، فكيف استقبل الجمهور هذين العملين؟

منذ عودتي إلى موريتانيا وإنشائي لشركتي في الإنتاج السمعي البصري، اتخذتُ قرارا بعدم إخراج أفلام قصيرة أخرى، بعد الأفلام الوثائقية التي أنجزتها سابقا، منذ عام 2021 أعمل على مشروع فيلم طويل لا يزال قيد الكتابة، وأتوقع أن يرى النور في عام 2025 أو 2026.

في الوقت نفسه أنتجت أفلاما قصيرة للشباب المهتم بالسينما، مانحا إياهم فرصة لتطوير مهاراتهم، ثم عدت إلى الإخراج التلفزيوني -كما ذكرتِ- في رمضان الماضي، فأخرجتُ مسلسلي “ربيع العمر” و”الإخوة”، وقد استقبلهما الجمهور باهتمام وإعجاب.

كانت هذه الإنتاجات من أضخم الأعمال التي قُدمت في موريتانيا، سواء من حيث الميزانية المخصصة لهما، أو من حيث جودة الكتابة والإعداد، أو من حيث التنفيذ وبناء القصة.

فالمواضيع التي طُرحت فيهما كانت جديدة ولم تُناقش من قبل، ومنها قضايا الميراث والحياة الاجتماعية في موريتانيا، وقد أضاف ذلك بُعدا جديدا للدراما المحلية، وأسهم في طرح مسائل مسكوت عنها فنيا.

إنني أتطلع بشغف إلى المستقبل، وأعمل على تحقيق رؤيتي في تطوير السينما الموريتانية والإنتاج الفني عموما.

تميز اهتمامك بالفيلم الوثائقي بطرح مواضيع غير مسبوقة، فقد جعلت التاريخ وجغرافيا البلد شخصيات حية، واستنطقت تراكم الذكريات في فيلم “ذاكرة الشرق”.

أرى أن وثائقي “ذاكرة الشرق” عمل مهم للغاية، لقدرته على استنطاق ذاكرة الشرق الموريتاني، والتعريف بالحيز المكاني والزمني الذي يعكس تاريخ المنطقة بشكل مميز.

يستند الفيلم إلى شهادات حية، لشخصيات عايشت حقبتي الاستعمار والاستقلال، مما يجعله ثريا من حيث المعلومات الواردة، المتعلقة بالسياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية.

ففوز الفيلم بجائزة الجزيرة الوثائقية في عام 2010، ثم بجائزة رئيس الجمهورية للفنون بعد عقد من الزمن، يعكس أهميته، بوصفه وثيقة سينمائية تاريخية.

وقد يتساءل بعض الناس عن الفرق الزمني بين الجائزتين، وهنا أقول إن السبب يعود إلى استحداث جائزة رئيس الجمهورية للفنون عام 2023، ومع الأسف لم تكن هناك أعمال كثيرة تتنافس على الجائزة، مما يدل على قلة الإنتاج السينمائي الجاد في البلاد، وهذه الجوائز تشكل حافزا مهما لدعم السينمائيين وتحفيزهم.

دائما ما أقول إن السينما هي ذاكرة المجتمعات، تماما كما كان الشعر ذاكرة الأمة في السابق، أطمح لإنتاج مزيد من الوثائقيات والأفلام التي تسلط الضوء على تاريخ موريتانيا وثقافتها بشكل أعمق.

نسعد كثيرا بكل مبادرة تدعم المشاريع، وتشجع السينمائيين، فعلى الأقل هي فرصتنا لعرض قصصنا وتجاربنا للعالم، وتقديم تاريخنا للآخر.

وماذا عن وثائقي “ألوان الطيف” هل يقدم قصص عن التعايش بين مختلف الأعراق في موريتانيا أو يطرح فكرة الجدل بينهم مثلا؟

أُنجز فيلم “ألوان الطيف” قبل “ذاكرة الشرق”، وقد شارك في عدة مهرجانات، منها مهرجان خريبكة للسينما الأفريقية بالمغرب، والأسبوع الوطني للفيلم بموريتانيا، وعدد من المهرجانات الدولية والعربية الأخرى.

يعكس الفيلم صورة التعايش السلمي بين شتى الأعراق في موريتانيا، ففيها 4 أعراق رئيسية، وهي العرب وثلاثة أنواع من الزنوج.

وُلدت فكرة الفيلم في برنامج شبابي، كنت جزءا من فريق إنتاجه في دار السينمائيين، وقد لاحظت وجود 4 شباب من الفئات المختلفة، وكل واحد منهم كان يتحدث بلغته، ويعرض أفكاره بلهجته، وكان البقية يفهمونه جيدا.

هذا التعايش المثالي هو ما دفعني للتفكير في تحويل هذه التجربة إلى فيلم، يعرض أجمل صور التعايش السلمي بين المجتمعات الموريتانية، ويعكس الوجه الحقيقي للانسجام الاجتماعي بينهم.

وهذا عكس ما يروج له أولئك الذين يستثمرون في الفتن، لقد أردت أن يظهر الفيلم الجانب الإنساني الراقي لأفضل أنواع التعايش الثقافي والاجتماعي في موريتانيا

وقد استقطب الفيلم جمهورا كبيرا، ونال استحسان كثير ممن شاهدوه بعين الإيجابية.

كيف تصفون المرحلة الحالية للسينما الموريتانية بعد كل ما واجهته، والإنجازات الفردية التي حققتها؟

أصف المرحلة الحالية بأنها المرحلة الثالثة في تاريخ السينما الموريتانية، إذا قسمنا تاريخها إلى ثلاث مراحل، يمكننا القول إن المرحلة الأولى كانت صعبة، فقد كان الموريتانيون يرون السينما عفريتا أو جنّا، ولم يتفاعلوا معها أو يتقبلوها.

وفي الثمانينيات، شهدت السينما قطيعة تامة مع الجمهور، لكنها عادت في بداية الألفية، وتحديدا في عام 2002، مع تأسيس دار السينمائيين الموريتانيين، وقد حاولت هذه المؤسسة إعادة المصالحة بين المجتمع والسينما، من خلال الأفلام والمهرجانات وجذب الشباب المهتم بالسينما.

بعدها مرت السينما بمرحلة ركود، وتحديدا بين عامي 2019-2023، إلى أن جاء مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي، ليشكل بانطلاقته بداية المرحلة الثالثة، فمن خلال مؤسستنا والمهرجان حاولنا استكمال مسار المصالحة الذي بدأته دار السينمائيين، والجمع بين صناع الأفلام في البلد من كل الأجيال السينمائية، فالمهرجان يشارك فيه كل من يرى نفسه جزءا من عالم السينما، من غير تمييز.

هذه المرحلة الثالثة لا تزال قيد البناء والتطوير، ونحن في بداية الطريق، ومن المؤسف أن كل مرحلة مرت بها السينما في موريتانيا لم تستطع البناء على ما قبلها، ومع ذلك حاولتُ أن أؤسس على ما أنجزت دار السينمائيين من قبلي.

ومع كل التحديات التي واجهتنا، آمل أن أغيّر الصورة النمطية عن السينما، وأعمل على استمرار هذه الجهود، من خلال المؤسسة والمهرجان والبرامج التدريبية، وسأواصل البحث عن شركاء لدعم البنية التحتية الثقافية، وخلق جيل من العناصر البشرية المهتمة بالمجال، التي لديها رغبة بالمضي قدما وتحقيق التقدم.


إعلان